المصدر: ترجمة: عوض خيري عن مجلة «التايم» الأميركية
في عصر تتسع فيه الهوة بين الأغنياء والفقراء، تبرز جنوب إفريقيا مثالاً صارخاً لانعدام المساواة بين المواطنين، وكان من المفترض أن تعكس أمة الزعيم الجنوب إفريقي، نيلسون مانديلا، للعالم كيف يمكن بناء مجتمع جديد يتمتع بالإنصاف، وينفض عنه غبار القمع والعنصرية، ولكن يبدو أن آمال المواطنين السود ذهبت أدراج الرياح إلى الحد الذي أصبح فيه هذا البلد اليوم أسوأ مما كان عليه الحال في عهد الفصل العنصري، في ما يتعلق بالمساواة بين مواطنيه.
خيبة أمل
وفي الوقت الذي بدأت فيه الطبقة الوسطى السوداء الجديدة في النمو ببطء، جمعت النخبة السوداء الصغيرة ثروة هائلة، ولم يشهد الكثير من السود في جنوب إفريقيا تغيراً كبيراً في حياتهم المادية. وفي هذه الأثناء، تعيش الأقلية البيضاء، التي تمثل نحو 9٪ من السكان، على المزايا التي اكتسبتها بفضل سياسات الفصل العنصري غير المتكافئة، حيث أصبحت هذه الفئة، بفضل الثروة والمزايا التي اكتسبتها، بمأمن من العواقب الناجمة عن سياسات الحكومة الاقتصادية. وتشتكي الطاهية العاطلة عن العمل، ويندي جيكيرانا، بأن «الديمقراطية لا تطعمنا»، وتعيش شيفا، التي تبلغ من العمر 36 عاماً في حاوية شحن مع عائلتها الكبيرة في بلدة لانغا في كيب تاون. وتمضي قائلة: «أخبرونا في عام 1994 أن السود سيكونون هم الطبقة المسيطرة، وأن الأمور ستكون أفضل، لكن لا نرى الآن سوى الفساد الذي يقترفه الزعماء السود، ولايزال البيض يسيطرون على الاقتصاد».
أسباب عدة
عدم المساواة الذي ابتليت به هذه البلاد متعدد الأوجه، حيث تلعب البطالة وضعف برامج التعليم، ونظام الصحة العامة المنهار، دوراً كبيراً، لكن الجزء الأكبر منه يكمن في عدم توزيع الأرض والسكن بشكل عادل، ويتجلى ذلك بشكل واضح في عدم وجود مساكن بأسعار معقولة للسود، خصوصاً في المناطق الحضرية. كما ارتفع عدد الأحياء الفقيرة من 300 حي عام 1994 إلى 2700 اليوم.
ويتجلى عدم المساواة بشكل أكثر وضوحاً في كيب تاون، اذ يعيش 60٪ من السكان، معظمهم من السود، في بلدات ومناطق سكنية غير رسمية بعيدة عن وسط المدينة، حيث الخدمات الحكومية محدودة، والمدارس والرعاية الصحية تعاني نقص التمويل، وانعدام الأمن، وندرة الوظائف، وارتفاع كلفة النقل إلى وسط المدينة.
ولايزال البيض الأثرياء من الطبقة الوسطى، كما هو الحال خلال الفصل العنصري، يعيشون في وسط المدينة، وفي ضواحي مربوطة جيداً بالمواصلات والخدمات. ويوجد بين هذه البلدات والمنطقة التجارية المركزية المجهزة تجهيزاً جيداً مساحات شاسعة من الأراضي غير المستخدمة التي إذا تم تطويرها بشكل صحيح يمكن أن تغير إرث نظام الفصل العنصري في المدينة، من خلال توفير السكن الحضري بأسعار معقولة، وانهاء الفصل العنصري. وكما هو الحال في كثير من الأحيان عندما يتعلق الأمر بالأراضي العامة، فإن التاريخ، والسياسة، والتمويل، وعدم كفاءة الحكومة، والتحامل تقف عائقاً دون تطويرها.
تهجير داخل الوطن
قبل بضعة أسابيع فقط من الانتخابات، تجولت المواطنة السوداء، سوزان لويس، البالغة من العمر 76 عاماً في إحدى بقع الأرض الخالية هذه، التي تم تحويلها إلى موقف مؤقت للسيارات، نظراً لقربها من وسط مدينة كيب تاون الصاخبة. تقول: «كانت كل هذه المساحة من الأرض عبارة عن منازل»، وتشير بيدها الى مناطق عدة «هذا هو المكان الذي كان يعيش فيه أصدقائي»، وتضيف وهي تشير أيضاً إلى زاوية في الشارع خالية الآن، حيث يوجد مسرح السينما المتهدم، ومحل خياطة، ومحل بقالة، وجزارة للحم الحلال. وتقول: «هذا هو المكان الذي عشنا فيه جميعاً، والآن أصبح مجرد موقف للسيارات».
في عام 1966، أعلن نظام الفصل العنصري أن الحي السادس، الذي كانت تسكنه لويس، مكاناً «للبيض فقط»، وكان قبل ذلك موطناً لمجتمع متعدد الأعراق ومتعدد الأديان قوامه 60 ألف شخص.
قاوم السكان السود، مثل لويس، هذا الإجراء، ولكن بحلول عام 1982 تم هدم معظم المباني وانتقل السكان قسراً إلى بلدات في «كيب فلاتس»، وهي قطعة أرض مهجورة على بعد 18 ميلاً من المدينة. لقد تم اقتلاعهم من مجتمعاتهم وكنائسهم ومدارسهم ووظائفهم، وأصيب معظمهم بصدمة.
ويعزو علماء الاجتماع عدد العصابات المتزايد في البلدة، والفقر، والمخدرات، والعنف، إلى تلك الصدمة التي أصيب بها السكان جراء عمليات الترحيل القسري. وتتذكر لويس بحسرة «شعرنا بالعزلة». وأدركت فجأة أنها تنفق نصف راتبها فقط على وسائل المواصلات لتصل إلى مكان عملها. المدارس في هذه البلدة، إن وجدت، فهي لن تفعل شيئاً للطلبة سوى إعدادهم للعمل. لم تقم حكومة الفصل العنصري أبداً بإعادة بناء الحي السادس ليصبح سكناً للبيض، وتأثرت البلاد بسبب العقوبات الدولية التي فُرضت عليها بحلول عام 1986، وعلى مدى العقود القليلة الماضية، ظلت معظم هذه المنطقة خالية، وظلت هذه القطعة من الأرض، التي تبلغ مساحتها 150 فداناً، تقف شاهداً على ظلم نظام الفصل العنصري الذي مزق قلب المدينة.
إجراءات سلحفائية
وعلى الرغم من أن المقيمين السابقين في تلك الأرض لهم الحق في العودة اليها، بموجب قانون صادر عام 1994 الذي يقضي بأحقية ملايين الاشخاص الذين تم تشريدهم في إعادة توطينهم، إلا أن تقدم الاجراءات الخاصة بذلك ظلت سلحفائية للغاية. وحتى الآن، تم إعادة بناء 139 منزلاً فقط لسكان الحي السادس السابقين. وكانت لويس أحد المحظوظين. فبعد تسع سنوات على قائمة الانتظار أصبحت واحدة من أوائل العائدين في عام 2005. وبدأت الجهات المعنية إنشاء مشروع لبناء 300 وحدة سكنية في عام 2013، إلا أن التقدم كان بطيئاً أيضاً. وكان من المفترض أن يكتمل البناء في عام 2015، ولكن تم تأجيله مراراً وتكراراً. وتقول لويس، وهي تشير بيدها الى الحقول المحيطة بها: «إنه ضرب من الجنون» وتضيف «كل هذه المساحة كان ينبغي أن تكون مساكن في الوقت الراهن، نحن جميعاً بحاجة للعودة إلى حيث ننتمي».
يمكن إلقاء اللوم في بطء وتيرة التنمية على عوامل عدة: عملية مطالبات مطولة، ملكية متنازع عليها، وقلة التمويل، والاقتتال السياسي. ولكن الوقت ينفد، ومعظم المطالبين الأصليين، مثل لويس، هم من كبار السن. إنها تتساءل هل سيحصل أيّ منا على فرصة للعودة الى موطنه قبل أن يتوفاه الموت؟ لقد بدأ مطورو القطاع الخاص في دراسة هذا الحي، لكن مع صعود أسعار الوحدات السكنية المكونة من غرفة نوم واحدة الى ما يصل إلى 100 ألف دولار، أصبحت العقارات بعيدة عن متناول الطبقة العاملة في المدينة. تقول لويس: «لن يستطيع أي منا تحمل ذلك» وتمضي قائلة: «قبل ذلك، كانت حكومة الفصل العنصري هي التي تدفعنا إلى الخروج من المدينة، والآن نحن ندفع الكلفة».
يعود إبعاد السود عن المناطق الحضرية إلى الحقبة الاستعمارية، لكنه توطد في عام 1948 عندما قننت حكومة البيض سياسة تتمثل في «الفصل» بين الأعراق. تحت مسمى نظام الفصل العنصري، الذي جرد أغلبية سكان البلاد من السود من أراضيهم، وحرمهم من ابداء رأيهم، ونقلهم قسراً إلى مساكن مخصصة تحديداً لكل عرق على حدة. كانت ملكية السود للمنازل في ظل هذا النظام الجديد مستحيلة. وتمثلت المطالبة بالمساواة في الحقوق في صرخة مدوية أطلقها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي يقاتل سياسة الفصل العنصري من المنفى، لكن بالنسبة للعديد من السود في جنوب إفريقيا، كان الوعد بإصلاح الأراضي هو الذي أبقاهم متحمسين لهذا الحزب.
مصادرة الأراضي من البيض
في عام 1991، بعد فترة وجيزة من السماح لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي بالعودة إلى جنوب إفريقيا، عمل الأمين العام للحزب، سيريل رامافوسا، الذي أصبح الآن رئيساً للبلاد، للإعداد لدستور جديد يسعى إلى معالجة انعدام المساواة في عهد التفرقة العنصرية، وذلك من خلال حصول جميع السكان على سكن يليق بهم كمواطنين. ومع اقتراب انتخابات عام 1994، أكد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم هذا التعهد، من خلال وعده بتقديم منازل مدعومة للفقراء. وكان الهدف هو تسوية ملكيات الأراضي المنزوعة في حقبة التمييز العنصري.
إلا أن مشروعات الإسكان هذه، التي يتم بناؤها على أطراف المناطق الحضرية، تكرر تجربة البلدات نفسها التي كان يتم تطويرها في ظل نظام الفصل العنصري، لإبقاء المواطنين السود من الطبقة العاملة معزولين عن المحرك الاقتصادي للمدينة. ويقول حارس الأمن، سيزوي سيتيلو، الذي ينفق ثلث راتبه في رحلة مدتها ثلاث ساعات من منزله على الأطراف إلى وظيفته في المدينة: «كيب تاون لاتزال مدينة عنصرية، لقد استولت حكومة الفصل العنصري على كل الأراضي الصالحة منا، اختفوا الآن، لكن لا يمكننا العودة لتلك الأراضي، لأن ذلك مكلف للغاية».
أصبحت قضية الأرض، ومن له الحق في ذلك، موضوعاً ساخناً في الانتخابات. وطالبت مجموعة «مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية»، وهي مجموعة قومية سوداء لها تمثيل كبير في البرلمان، بمصادرة الأراضي التي يملكها البيض دون تعويضهم عن ذلك. ورداً على ذلك، اعتمد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تعهداً أكثر صرامة بتغيير الدستور للسماح بمصادرة الأراضي الزراعية دون تعويض. وأثارت هذه الخطوة قلق مجتمع الأعمال في جنوب إفريقيا، وكذلك المستثمرين الدوليين الذين يتذكرون جيداً النقص في الغذاء والاضطرابات المدنية والانهيار الاقتصادي عندما سنت زيمبابوي المجاورة سياسات مماثلة قبل عقدين من الزمن. يقول المدير المشارك بمنظمة نديفونا أوكوازي، غاريد روسو، وهي منظمة مختصة بحقوق الإسكان مقرها كيب تاون: «إن المطالبة بمصادرة الأراضي الزراعية المملوكة للبيض يفتقر الى الحكمة». ويسترسل: «هناك حاجة ماسة للإصلاح في المناطق الحضرية، حيث من المتوقع أن يعيش أكثر من 70٪ من سكان جنوب إفريقيا بحلول عام 2030».
المواطنون السود يستعيدون المدينة
في بعض الأحيان يأخذ بعض النشطاء الأمور بأيديهم، فعندما قررت حكومة مدينة كيب تاون، في عام 2016، بيع أراضي مدرسة عامة قديمة لمطوّري القطاع الخاص، بدلاً من تحويلها إلى مساكن عامة، نجح النشطاء في وقف البيع. ولاتزال القضية قيد إجراءات التقاضي، لكن مجموعة أساسية من هؤلاء النشطاء اندمجت منذ ذلك الحين في حركة كرست نفسها لتحويل الممتلكات العامة في المدينة، غير المستخدمة، إلى مساكن يقيم فيها من ليس له منزل من المواطنين، واستغلت هذه الحركة قانوناً ينص على أنه لا يمكن إجلاء أي مواطن من سكن ما، ما لم يعثر على بديل مناسب، ولهذا السبب نقلت مجموعة «استعادة المدينة» نحو 1200 شخص إلى مستشفى تم الاستغناء عنه، وإلى بناية مهجورة كانت مخصصة لإقامة الممرضات.
تعيش العضو المؤسس في مجموعة «استعادة المدينة»، إليزابيث غكوبوكا (50 عاماً)، منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، في شقة بالطابق الثاني في منزل قديم، كانت تسكنه ممرضات. لديها خصوصية وإطلالة على الواجهة البحرية للمدينة، لكن هذه الشقة بالكاد تكون جنة، فقد تم قطع الكهرباء عنها، وتوجد حنفية مياه واحدة تعمل في الطابق الأرضي. لكنها تقول إن العيش هناك يستحق العناء. وتقول: «إذا كانت الحكومة تؤمن حقاً بمحو مظالم الماضي، فيجب أن تكون مستعدة للعمل بجدية أكبر لكي تغير الفصل المكاني الذي خلفه الفصل العنصري».
لكن السكن في المدينة لا يعني فقط مجرد العثور على مكان للعيش بالقرب من موقع العمل مثلما فعلت غكوبوكا، بل يعني التخلص من الشعور العميق الذي خلفه الفصل العنصري، والمتمثل في النظر بدونية للسكان السود في البلاد، الذين هم أقل استحقاقاً لثروات البلاد.
نقلا عن "الإمارات اليوم"