أحمدو ولد عبد الله
أمين عام مساعد سابق للأمم المتحدة ووزير سابق للشؤون الخارجية بموريتانيا
الجزائر ترسم طريق التحرر من انزلاقات ما بعد الاستقلال
قبل 60 عاما، كنت أتابع بشغف مع زملائي بثانوية روصو - المؤسسة الثانوية الوحيدة حينها في موريتانيا - أحداث حرب الجزائر.
وقد كان التزامنا تجاه جبهة التحرير الوطني، مخلصا وصادقا، وقد وجد حماسي للنضال من أجل التحرير - لدى دراستي في غرينوبل - تكريسا له، من خلال توقيع اتفاقيات "إيفيان" في 19 مارس 1962.
واليوم وفي مواجهة الحراك الشعبي المطالب بالتجديد، وإعادة البناء السياسي، أحس بنفس المشاعر في ذلك الوقت، ولست الوحيد.
شعب يقف رفضا للوضع الراهن، أي شجاعة، وأي مثال! منذ 60 سنة، يواصل الجزائريون والجزائريات سعيهم نحو تحقيق الكرامة والحرية والازدهار المشترك، للمطالبة بتسيير أحسن، وتوفير فرص عمل مناسبة ومداخيل أفضل، وقبل كل شيء تكافؤ الفرص للجميع.
وعلى عكس الأحداث الدامية التي وقعت في أكتوبر 1988 تم قمع المظاهرات بالجزائر، وتلك التي شهدها "العقد الأسود" في التسعينيات، وهكذا فإن الاحتجاج الحالي سلمي، منظم بشكل جيد ومسؤول، في أسلوبه ومطالبه.
وكان الجيش والشرطة حساسين تجاه مطالب مواطنيهم وكانت ردودهم الأولى في الاتجاه الصحيح، وبعد حصولها على استقلالها بشكل غير مباشر على الأقل، بفضل نضال تحرير الجزائر، تصوب بلدان الساحل والصحراء أنظارها نحو جارتها الشمالية.
ويتوجس البعض من ذلك - لكن الجزائر ليست ليبيا ولا بلدانا أخرى- فالٱمال القائمة كبيرة كما في عام 1960.
السعي للتحرر والاحترام
ويدور نفس السؤال بشأن السعي للتحرر والاحترام، بالمغرب والساحل - أكثر من غيرهما - وهو لماذا وبعد عقود على الاستقلال، لا تزال نفس المساعي قائمة بشأن التحرر والاحترام؟ إن ما تطالب به غالبية الجزائريين، لم يعد تضحيات بطولية كما كان الحال في عام 1954، وإنما وبشكل أكثر تواضعا، الاستجابة لمطالب اقتصادية واجتماعية ملحة، ووعود ناجزة بمستقبل أفضل.
وليس الجزائريون، بوحدهم في ذلك على مستوى المنطقة، فالجميع سئم من شد الحزام، دون أن يلوح أفق، في إمعان النظر بذات مرٱة الماضي الاستعماري. وهكذا فبالنسبة للشباب، فإن هذا الماضي شاخ، بحيث أصبح عمره ستة عقود.
وفي هذا الصدد فإن الجزائر هي نحن جميعا: بلداننا، مشاكلنا السياسية والاقتصادية ما بعد الاستقلال، فمن المغرب إلى الساحل، يختنق الشباب تحت وطأة قيود أصبحت بنيوية: ندرة في مقاربات فرص التطور خارج الهجرة، وتعدد المتطلبات الاجتماعية، التي لا يتم حلها على الإطلاق، رغم وعود السلطات المركزية.
إن عائدات الدول سيئة الاستخدام، أو موزعة بشكل غير متساو، فهي ببساطة تتبخر إلى وجهات بعيدة.
ومن المؤكد أن وجود نخبة مدنية وعسكرية جيدة، هو عامل مهم، لكنه ليس كافيا لنجاح التنمية في أي بلد، فالمواطنون قد يرضون لبعض الوقت، بالمعاناة، والاستبعاد، المرتبطة بعقود من الهيمنة، والاضطهاد الأجنبي، لكن ذلك لا يكون كل الوقت، ولا يستمر لعقود.
إن الحاجة قائمة إلى أكثر من ذلك بكثير، وهو تعزيز المكتسبات التي تحققت جراء الاستقلال، وسد العجز المتراكم، في التعليم والبنى التحتية.
وفي مواجهة هذه التحديات الداخلية الكبيرة، فإن الساسة قفزوا إلى الأمام بسرعة، وهو ما ولد حالة من الإحباط والسخرية في صفوف المواطنين.
رفض الانغلاق على الماضي
طالما أننا نحن القادة، والنخب العمومية والخصوصية، نفضل الشعارات والممارسات ـ ونتراوح ذهابا وجيئة ـ بين ماض، ومستقبل "مبشر بالجنة" ـ على مستوى الوعد فقط ـ فإن بلدانا أخرى كانت في الماضي الاستعماري تبدو مشابهة، أكثر تقدما ونجاحا في العصر الحديث.
لقد خرجت فيتنام ـ من الحروب التي فرضت عليها من مختلف المحتلين والأعداء: اليابان، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، والصين ـ منتصرة بأعجوبة، لكن الحرب على الصعيد الإنساني كانت دموية، ومدمرة نفسيا.
وقد تجنبت أن تكون أسيرة لهذا الماضي، وركزت على التطلع إلى المستقبل، لقد نجح هذا البلد، على مستوى وحدته الوطنية، وثورته الاقتصادية.
وهناك مثال آخر، على عدم الانغلاق على الماضي، وهو الصين، التي عرفت ب"المعاهدات غير المتكافئة" و"حقيبة القصر الصيفي"، فقد استطاعت في عهد دانغ شياو بينغ، البدء في ثورة سياسية واقتصادية، أدت خلال جيل واحد إلى مضاعفة دخلها القومي الإجمالي، وهي اليوم القوى الاقتصادية الثانية في العالم.
إن الثورات، في الواقع، لا تقام بها، لذاتها، وإنما من أجل أهداف، وهي يحشد لها، ولكنها لا تغذي شعوبها، فمن دون انفتاح اقتصادي داخلي وخارجي، ومن دون شفافية في تسيير المصادر العمومية، تتراكم العوائق، مشكلة عقبات يصعب اجتيازها.
لحظة تغيير "البرمجة"
لقد حان الوقت بالنسبة للجزائر، كما بالنسبة لمختلف الدول المغرب العربي والساحل، لتغيير "البرمجة"، فالماضي مهم، لكن المستقبل، ينبغي أن نمتلكه.
إن التكيف مع السياق الدولي المتغير، والمتطور بشكل مستمر، يعتبر مسألة حياة أو موت، ويبدو أن هذا هو الشعور، الذي تظاهر الشباب الجزائري من أجل الإعراب عنه.
إننا اليوم جميعا جزائريون، فعبر الأنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، والإذاعات والتلفزيونات، يتابع السكان باهتمام بالغ الأحداث الجارية، وينبغي على الشعب، والنخب، والجيش في الجزائر، أن لا يتجاهل هذا الاهتمام الممنوح لوضعيتهم.
إن من المسلم به، أنه لا ينبغي التقليل من شأن تأثير العدوى التي تنتقل بالمنطقة، فضلا عن تجاهلها، ومع ذلك، فإن كثيرين يرون ذلك إيجابيا، ويرفضون مقارنة الدولة الجزائرية مع الجماهيرية الليبية.
إن أحداث الجزائر اليوم، كما قبل 60 عاما، تشكل أخبارا، تتداول في الإعداديات، والثانويات، والجامعات، بالمنطقة، وفي الشوارع أيضا، والأسواق.
إن الجزائريين اليوم في النضال، لا يختلفون عنهم في جبهة التحرير الوطني، لتحرير الوطن، ولكنهم هذه المرة، ليسوا مصحوبين بالأمل فقط، وإنما بالوثوقية أيضا، بأن الشعب سيتغلب، كي يكونوا مثالا في التحرر من المظالم القديمة، والأخرى المرتبطة بانزلاقات ما بعد الاستقلال في المغرب والساحل.
ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة وكالة الأخبار المستقلة نقلا عن صحيفة لوموند الفرنسية