أمضيتُ في مثل هذا الظَّرف من السَّنة الماضية لَيالِيَ أُعالج قُرَّةَ عينٍ لي في مركز الاستطباب للأمِّ والطِّفل..نُقِشت فيها صُورُ الأسقام والفجائع على عَينيَّ حتَّى أَعمَتهُما عن غيرِها, وحَفَرَت صَيحاتُ المَرضى والمكرُوبين في مَسمعي حتَّى أصمته, وكانت حُرقةُ استِعجال المَرضَى والعُوَّاد وحَيرَةُ ترقُّبهم تتخطَّى الحواجزَ وتُزاحم مناكب الأطبّاء..مؤتلفةَ المشاعر, موحّدَةَ الهدف, تتلهَّف كلُّها لشِفاء مريض..في جَوٍّ أنسب ما يكون لذكرِ نِعمة الله والوقوف على مقام الشُّكر الفسيح.
كُنّا في غُرفة فيها خمسة سُرُر عليها أطفال أنشَب المرضُ أظفاره في وجوههم البريئة وأزالَ عنها البَسمات والأريحية العَفوية.. سِوى سَريرٍ واحد كانت عليه طفلة تَعافَت فودَّعَتنا وَداعا باسِما على حافة الوَجع أرَّضَ حَشاشِيَ الآمال, وخَرجت ليلَتها تلك لإكمال العِلاج في بيت أهلها.
بعدَ ساعة أُعدَّ ذلك السَّرير ونُظِّف, وجاء الأطبَّاءُ بِطفل على سَرير متحرِّك, فوضعوه عليه..كان أسودَ البَشرة ودُون العَشرة, نحيلَ الجِسم, لا يتكلَّم ولا يتحرَّك من مكانِه إلا مُتوَجِّعا متأوِّها..ولم يَكن معه هناك غيرُ أمِّه الّتي لقِيَت من الإرهاق ما أَفصحت عن بعضِه كلماتُها الحزينة وتَمتَمتُها الباكية.
بعدَ قليل جاء الطَّبيبُ بوَرقة فيها ما يَلزمُ من أدوية وفُحوص..وكان حال الأمّ المسكينة ناطِقا بأنَّها أعجزُ من يَدٍ في رِحْم..ومع ذلك ذَكرَت ما مرَّت به من كُرُوب وما قاسَته مِن أوجاع.. يَومَ خرجت من قريتِها إلى مستَشفى "ألاك" لِعلاج ابنِها..كانت رِحلة نَفِد فيها المالُ القليلُ أصلا, ووَهَن الأعوان, وقَلَّت الحِيلة.. فكانت انواكشوط وِجهتها لعلَّ الدَّولة تَكفُل قُرَّة عينِها, أو لعلَّ مُحسِنا يُنقِذُه, وعسى البارقة لا تُخلِف.
مَلأت قِصَّتُها الجَوَّ عاطفة ورقَّة, وأقبلَت إليها إحدَى المُمرِّضات تُلاطِفها وتُصبِّرُها وتسترجِعها إلى الله وإحسانِ الظَّنِّ به.. وتَعِدُها بإخبار مُحسِنة بأمرها..وكانت لها كالأخت تُكفكف دُموعَها وتشاطرها المُصاب.
في ذلك الوقت اتَّصلت المُمرِّضة بهاتِفها قائلة إن في المستشفى امرأة مع ابنِها يَحتاجان للعَون..بعد الاتِّصال زَفَّت البُشرى بأنَّ الفرجَ في الطَّريق..وقد كان خيرا, لا صَلَفا تحت الرَّاعدة.
لم يَطُل الانتظار...وإذا بامرأتَين بوَصيد الغرفة تَقدُمهما المُمرّضة, تهتفان بالدُّعاء للمرضى وتَنظران إليهم بعين رحمةٍ تَرنُو إلى صَنائع المعروف..دخلتا مُسلِّمَتَين, ووقفتا عند كلِّ سَرير بالدُّعاء والسُّؤال عن الحال..حتَّى انتَهتَا إلى ذلك الصَّبِيِّ.
وبعدَ كلامهما مع أمِّه وتَصبيرِها..وضعَتا في يَدِها مالا وتحتَ وسادَة وَلدِها مالا, وبعدَ خروجهما دَخلت الممَرِّضة تحملُ الأدوية وإجراءات الفُحُوص الطِّبِّية..ومشروبات وفواكه..
وأظهرَت الفحوصُ حاجة الصَّبِيِّ إلى تعليقِ دَم..فجيئ به وبحافظة فيها منه مَخزون...ولم يَزَل ذلك الصَّبِيُّ يُعالج ويتكَفلُّ به أولئك النِّسوة إلى أن صار يجلس على سَريره بنفسه, ويقوم منه لقضاء حاجته, ويبتسمُ لأمِّه وهي تُداعبُه, ويُشاركنا الحديث... ويَومَ خروجنا من المُستشفى رسمَ الفرحُ شكلَه البَهيّ على مُحيَّاه..وهو في انتظار خروجه من المستشفى ..وأمُّه في لهفة لمعرفة مَن كُنَّ لها عَونا..ولسانُها لا يَفتُر عن الدُّعاء لمَن كُنَّ لها جِذعا طيِّبا أخذَت منه ما أعطاها..
لم تَكن بينهنَّ وبينها سابق معرفة, وما اتَّفقن معها في قرابة ولا لَون, وما أخَذن صورةً للمريض, وما عرَّفن بأنفُسِهنَّ وما روَّجْن لجِهة, وما طلبنَ غيرَ الدُّعاء لهنَّ بقَبول العمل عند الله.
لقد كان هنالك داع واحد..هو الإسلام بشريعته وأخلاقه السَّحَّاء أُخُوَّةً وعطفا.. يَجمَع المستَجيبين له على أُلفة مُثمرة "أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السَّماء تُؤْتِي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها".
واليومَ حيث كثُرت في الجسد القُرُوح أخشَى أن يَمرَّ على إحدَى تلك المُحسنات مُختلفٌ معها في اللَّون أو النَّسب.. فيقول إنَّها طاغية تَكرَه جِنسَه وهي الَّتي كانت تَحنُو على جِنسه حُنُوَّ الأمِّ على صِغارها..
أو يَمرَّ على تلك الأمِّ الحَنُون مُختلِفٌ معها في اللَّون أو النَّسب.. فيقول إنَّها ثائرةٌ تُبغضُ ذَوي لَونِه وهي الَّتي تَحنُّ إلى بعضهم أشدَّ من حنين الأعرابية إلى نَجد.
إنَّ الولاء الحقَّ لا يكون على عِرق ولا لَون ولا جهة..وإنّما على الإسلام..إنَّها عقيدة ..وهي أعظم رَوافد الإحسان وأندَى رياض المودَّة.
(*) نقلا عن صفحة محمد سالم المجلسى