“وبينما كانت السفينة تمخر بنا عُباب البحر عن أرض الشمال، نحو أرض الشرق العبقة الدافئة بطيب الأزمنة، تذكرت صديقي هرقل وابنه الذي ينمو في بطن لونا، فوددت من كل قلبي أن يكون المولود ذكرًا، لا لكي يحمل اسمي فحسب، بل ليرسله والده إلى بغداد عاصمة العالم المتحضر، ويصبح جسرًا معرفيًّا بين عالم الشرق وعالم الشمالين الوثنيين الذين لايعرفون من جملة الفضائل سوى الشجاعة”.
هذا ما دونه العالم والسفير العربي الأول نحو روسيا شمال أوروبا، أحمد ابن فضلان في القرن العاشر الميلادي ( 932 هجري)، عن رحلته إلى ملك الصقالبة في القرون الوسطى.
ابن فضلان، صُنف ضمن شخصيات كتاب “المئة الأوائل في الإسلام”، هو كاتب وشاعر من بغداد، كان يعمل في التجارة، عاش بين فترة 921 حتى 309 هجري، فُقدت الكثير من أعماله وسجلاته، بسبب حرق المغول لمكتبة بغداد فيما بعد.
من أهم أعماله وثيقته التاريخية “رسالة ابن فضلان”، في وصف رحلته نحو مملكة الفولجا بولجارس وهي (روسيا حاليًا)، وتعتبر أول مخطوطة عربية تصف غير المسلمين.
أرسله الخليفة العباسي المقتدر بالله، كرئيس سفارة دبلوماسية ودينية إلى ملك الصقالبة (شعب الفولجا) ألمش بن بلطوار سنة 921 ميلادية (309 هجرية)، وكان ذلك تلبية لطلب ملكهم في التعريف بالدين الإسلامي.
“رسالة ابن فضلان”، وصفت الوضع الفكري والاجتماعي والسياسي لتلك البلدان والشعوب (الروس والترك وأهل الدنمارك)، في الوقت الذي كانت تمر فيه روسيا وأوروبا بفترة مظلمة، تحكمها الخرافات ويسيطر عليها الجهل.
وصف ابن فضلان بدقة الطبيعة الجعرافية والمناخية للبلدان التي شاهدها، كمناطق جورجيا الحالية قائلًا، “باب من الزمهرير قد فُتح علينا، ولا يسقط الثلج إلا ومعه ريح عاصفة شديدة”، مشيًرا إلى أن شتاء خوارزم صيف مقارنةً بجورجيا.
وترك رسالة حول الشعوب والقبائل التي تعرف عليها، وضمنها بمشاهداته وانطباعاته، بالإضافة إلى أنه سجّل عدد الأقوام التي مرَّ بها، وترك وصفًا مهمًا لمعتقداتهم وتقاليدهم وعاداتهم وظروف معيشتهم، كوصفه لرجال قبيلة “الفايكنج”، “لهم أجساد طويلة كأشجار النخيل، وعظام خدود عالية بارزة في الوجه، ويمتلكون شعرًا أشقر، وجلدًا ورديًا، ويضعون الكثير من الوشوم من الأظافر حتى الرقبة من ألوان كالأزرق الداكن أو الأخضر الداكن، وجميعهم مسلحون بفأس وسكين طويل طوال الوقت”.
يواجه ابن فضلان في أثناء وجوده في معسكر قبيلة “الرسيّة” الواقعة على حدود جورجيا اليوم، مشكلةً توجب عليه التوجه مع مجموعة من المحاربين عددهم 12 محاربًا، إلى الشمال (الدول الإسكندنافية الدنمارك والنرويج والسويد في شمال القارة الأوروبية اليوم). يذهب مجبرًا لتلك البلاد، تاركًا خلفه بقية أعضاء السفارة البالغ عددهم خمسة.
فتحت “رسالة ابن فضلان”، جدلًا ثقافيًا ما بين الدول الشرقية العربية والغرب في أوروبا، وفق مركز الأبحاث والدراسات الدنماركي، فقد قدمت الرسالة إسقاطًا عن الوضع الثقافي والفكري لشمال أوروبا في القرون الوسطى.
عالج ابن فضلان من خلال رسالته علاقة الإسلام بالنهضة الثقافية والعلمية للدولة العباسية في تلك الفترة، وقدم نموذجًا حضاريًا عن مؤسسات الدولة العباسية وعلاقتها بالشعب، مقارنةً بما كان يحدث في شمال أوروبا وطبيعة السلطة الحاكمة فيها.
عُثر على مخطوطة “رسالة ابن فضلان”، عام 1817 ميلادي، في روسيا، ونشرتها “أكاديمية سان بطرسبورغ” باللغة الألمانية عام 1923.
ويعود الفضل لياقوت الحموي 1178- 1228 هجري، في تعريف عن ابن فضلان للمستشرقين والباحثين برحلته، من خلال الفقرات والمقاطع التي أوردها في كتابه الشهير “معجم البلدان”، وهو ما شد انتباه العلماء ودفعهم للبحث والتنقيب عن مخطوطته الأصلية.
يعد الروائي والسينمائي الأمريكي ميخائيل كريكتون، من أهم من أضاف على مخطوطة ابن فضلان مدعيًا “الاعتماد على مصادر خاصة غامضة”، وكتب رواية خيالية عام 1976 بعنوان “أكلة الأموات”، زاعمًا أنها تحوي النص الكامل لرسالة ابن فضلان.
وفي عام 1999 أُنتج فيلم حمل عنوان “المحارب الثالث عشر” من وحي رواية “أكلة الأموات”، يتحدث عن رحلة ابن فضلان بدءًا من بغداد.
المصدر: عنب بلدي