سلوى عبد الحليم
يمثل كتاب «مصطلحات الفلسفة الوجودية عند مارتن هايديغر... معجم ودراسة» لمحمد عناني، عميد المترجمين المصريين، وأستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة القاهرة، والصادر جديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب جهداً عربياً لفهم مارتن هايديغر (1889 - 1976) الفيلسوف الذي أشتهر بأنه يصعب فهمُه (إن لم يتعذر) وتقديمه للقارئ العربي. وهو يعتمد على نصوص منتقاة لهايديغر ومناقشات متستفيضة لبعض مصطلحاته الخلافية التي دعت عناني يرفض القول بأن «هايديغر لا يُفهَم».
يقول الفيلسوف المعاصر مارك راذوال؛ إن الغموض الذي يتسم به أسلوب هايديغر يرجع في جانب منه إلى أنه «يحاول أن يفعل شيئاً ليس في طوق لغتنا العادية أن تفعله، ألا وهو الحديث عن أهم المعالم الأساسية لوجودنا».
ومعروف أن الفلسفة الوجودية ارتبطت باسم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، ولكن أُسس هذه الفلسفة ألمانية وإن كانت تدين بالنشأة الأولى للفيلسوف الدنمركي كيركيغارد؛ وخير من يمثل النهج الألماني هايديغر، الذي أصدر عام 1927 كتابه الرئيس «الوجود والزمن»، الذي أثَّر في مسار الفكر الأوروبي برمته، وفي مسار الهرمنيوطيقا أو أسس التفسير (والفهم والتأويل) الفلسفية حسبما يمثلها هانز جيورج غادامر (1900 – 2002) تلميذ هايديغر. وهنا تبرز أهمية دراسة عناني التي تبسط فلسفة هايديغر، وأفكاره، كما يقدم معجماً بمعظم المصطلحات باللغات التي استقرت فيها. يقول عناني: «كان هايديغر فيلسوفاً يضعب فهمُه، فقد شاقني التحدي وقررت أن أحاول أن أفهمه، وبعد أن قضيت عاماً في الدرس أحببت أن أثبت على الورق ما فهمته منه، مستعيناً في ذلك بشُراحه الكثيرين، وبأكثر من ترجمة واحدة للنص الهايديغري».
ينطلق عناني في كتابه المهم عن هايديغر والذي ضمَّنه معجماً بمصطلحات الفلسفة الوجودية مستمداً من اللغات الألمانية، والفرنسية، والإنكليزية، واليونانية، والعبرية واللاتينية، مع إيراد مقابلاتها العربية؛ من عمل هايديغر الرئيس «الوجود والزمان» (1926)، «النص المعتمد على تعقيده الشديد»، حسب تعبير عناني والذي خلف أثراً عميقاً. ومن بين المسائل التي يكتب عنها عناني «مسالة االإلحاد والوجودية» عند جان بول سارتر وهايديغر الذي يُعتبر «إمام الوجودية الألمانية» والذي بدأ حياته مؤمناً بالكاثوليكية، ثم انصرف عن دراسة الدين إلى دراسة الفلسفة؛ لكنه كان يؤكد أن «التفلسف» منفصل عن الدين، وأن علينا ألا نخلط بينهما لاختلاف منهج الفلسفة الفكري عن منهج الإيمان الديني الروحي. ويلاحظ أن هايديغر يعالج القضايا الدينية في الوجود والزمن باعتبارها قضايا وجودية، وبذلك يتجنب الخوض في الدين، ولكنه في كتابه «إسهامات في الفلسفة» يشير في مواضع كثيرة إلى الله أو إلى الأرباب، وفي المقابلة الصحافية الشهيرة التي أجراها عام 1966 ونشرتها مجلة «دير شبيغيل» يقول إننا «لن ينقذنا إلا إله»، وهي المقولة التي أشتهرت وأصبحت عنوان فصل في كتاب «الخلاف حول هايديغر» من تحرير ريتشارد وولين (1993).
ويرى هايديغر أن الوجود زمني، وأن أن الوجود الإنساني متجه نحو الموت على نحو لا مهرب منه، ومن هنا كان شعور الإنسان بالقلق والخوف والجزع والتوتر، وغيرها من الانفعالات التي اهتم بها الفلاسفة الوجوديون. ولما كانت قضية الموت من لقضايا الجوهرية في فلسفة هايديغر وفي التقاليد الوجودية والفكر الغربي؛ يكتب عناني في الفصل الثامن «الموت والأصالة» عن كيفية مواجهة هايديغر لقضية الموت، «وسوف أعتمد على تحليل الفيلسوف راذول، مُلخصاً ومُترجماً ما يقوله في هذا الصدد. يقول هايديجر: إن الموت هو أقرب الإمكانيات إلى كينونة الإنسان، فإننا نختلف عن الملائكة لأننا بشر فانون، ونختلف عن الحيوان لأننا نشعر بخبرة الكيان الفاني. إننا لا ننتبه إلى أهمية الموت الوجودية لأننا في العادة نخلط بين سبب الموت وجوهره».
وفي مصطلح هايديغر، فنحن نركز على «وفاتنا»، لا على «موتنا». وينطلق عناني من قول راذول إن تقاليد الوجودية في الفكر الغربي تقول بأن كل فكر فلسفي لا بد أن يقوم على أساس اشتباكنا الشخصي بالعالم؛ «فالوجوديون يؤكدون أهمية العاطفة ويولونها مكانة أعلى من النظرة العقلانية المحايدة، كمل يولون الأولوية للحرية ويمنحونها منزلة أرفع من منزلة الحركة الآلية للكون المادي (الفيزيقي)، كما يركزون على طبيعة أساليب حياتنا قائلين إنها لا تستند إلى أسس منطقية ولا إلى علل وأسباب مفهومة، على عكس الزعم بضرورة الثقة في وجود نظام عقلاني يقوم عليه عالمنا آخر المطاف.
ويوضح عناني كيف كان هايديغر، مثل باسكال وكيركغارد ودوستوفسكي ونتيشه الذين سبقوه، ومثل الوجوديين الفرنسيين الذين كان ملهماً لهم، يقول إننا لا خيار لنا إلا أن نبدأ البحث الفلسفي من تأمل حالنا الراهنة. كان هايديغر يؤمن مثل غيره من الوجوديين، بأن الاستجابة الطبيعية للطابع العرضي للوجود هي «الفرار» منه، أي محاولة تجاهل أنفسنا أو خداعها، أو قل تجاهل أن أسلوب حياتنا لا هو «محتوم» ولا هو «صحيح» ولا هو الأسلوب الإنساني الحقيقي.
وقد يحاول الفرد أن يعتنق معاييرنا الثقافية بكل حماس ومن دون تفكير، ولكن الوجوديين يزعمون أننا ندرك على الرغم من ذلك، إدراكاً قد يكون مُبهماً، أننا لسنا مرغمين على أن نعيش وفق نسق العيش الذي نعيشه.
ويزعم الوجوديون أننا قد نوفق في لحظات اليأس إلى اكتشاف أننا لم نعد قادرين على إخفاء قلقنا الباطن إزاء ما يبدو لنا من وقف أنفسنا على ما نفعله وحسب إطار ثقافتنا أمراً أجوف ومبتذل ولا معنى له. كان هايديغر يؤمن باستحالة التخفف من هذا القلق بأي وسيلة لاستحالة العثور على أي طريق مثالي وصادق ونهائي للعيش الحق، لكنه كان يؤمن أيضاً أن إخضاع أفهامنا وخياراتنا لما يفعله الآخرون يعني أننا نتخلى عما يعتبر أهم عنصر جوهري في كياننا باعتبارنا بشراً، ألا وهو «تحمل المسؤولية عن أسلوب الوجود الذي نختاره، أي لقدرة على تحقيق الأصالة».
مسائل كثيرة، وقضايا وجودية، وأسماء ذات صلة مثل جان بول سارتر وكارل ماركس والفيلسوفين الألمانيين فلهلم دلتي وإدموند هوسرل، يكتب عنها عناني بشيء من التفصيل خلال رصده للمسيرة الفكرية والحيايتة لهايديغر الذي وصفه مؤرخ الفلسفة البريطاني روجر سكروتون قائلاً: «مفكر في جوفه قلب شاعر»، وأن فلسفته تحوي جوانب شعرية تمثل انصهار الفكر في العاطفة أو التوحيد بينهما.
المصدر: الحياة