الأستاذ محمدٌ ولد إشدُّو
تطل علينا في هذه الأيام المباركة، الذكرى الثامنة والخمسون لعيد الاستقلال الوطني. وقد لا يعني هذا الحدث شيئا لأوساط واسعة من شبابنا. فهم إما أن يكونوا ولدوا في رغد عيش حادث، وعند ما يستقل (وينطقها ويكتبها بعضهم بالغين) أحدهم سيارته أو يقود دراجته النارية الفارهة لا يخامره سوى شعور "هذا لي" دون امتلاك أدنى فكرة عن تاريخ وطنه. وكأن الوطن خلق كما هو اليوم بسهولة.. وإما أن يكونوا ممن ولدوا على "الفطرة" فهؤلاء يشغلهم شظف العيش وقسوة الطبيعة ونكد الحياة ومحاولة اللحاق العاثر بالآخرين والسباحة في سراب التكنولوجيا.. حتى عن التفكير في الوطن. خاصة إذا أضفنا إلى وزرهم غياب إعلام وطني ديمقراطي ينير السبيل، وانعدام تربية مدنية سليمة تزرع الوطنية في نفوس الجميع.
من هنا كان لزاما علينا نحن الذين واكبنا ملحمة الاستقلال أن نقدم تذكرة لهذا الخلف الضائع. وبما أن إحياء هذه الذكرى يجري هذه السنة في الحوض الشرقي، فإن الرحلة ستكون من انواكشوط إلى الحوض :
هنا انواكشوط...
تلك كانت لازمة دولة الوطن الموحد الجديدة وكلمة سرها وهي تتلمس خطواتها الأولى على رقعة أرض إقليم موريتانيا ! فما هي انواكشوط إذن، وأين تقع؟ ذلك كان السؤال الملح الذي طرحه عشية إعلان الاستقلال شعب بداة ينتشر على أديم هذا الوطن الشاسع !
عند ما قدر لي وأنا مراهق أن أستكشف انواكشوط العاصمة الجديدة للدولة الوليدة وهي تتهيأ لعرس إعلان الاستقلال كانت رحلتي كالتالي :
كنت أتردد أحيانا على منزل المهندس في الإذاعة الموريتانية "محطة اندر" دحود ولد أحمد سالم (رحمه الله) وهو من أهلي، وكانت والدته عيشة (رحمها الله، وهي سيدة عظيمة) تعتني بي كثيرا. وكان في الإذاعة سائق يدعى جي من معارفهم ويعمل أحيانا مع دحود. لم أعد أتذكر كيف التقينا، ولكننا التقينا - جي وأنا- واتفقنا على أن أسافر معه في قافلة من سيارات "د س" الفخمة أرسلت إلى انواكشوط لتستقبل ضيوف الاستقلال. لم يكن يوجد طريق معبد في الجانب السنغالي بين اندر وروصو أحرى أن يوجد طريق معبد بين روصو وانواكشوط ! كان الطريق بين روصو وانواكشوط صعبا ولكنه سالك، بسبب فرق الصيانة الموجودة عليه، وبسبب كون الزمن شتاء فقطعنا المسافة في يوم وليلة. ولو كان الزمن خريفا لتعطلنا أياما عديدة لأن الأمطار تزيد من وعورته ولأن فرق الصيانة تعمد إلى غلقه يومين أو ثلاثة بعد كل مطر حماية لأرواح المسافرين.
لم تكن توجد يومها مبان في انواكشوط العاصمة سوى ذلك الكوخ الذي ما يزال جاثما غرب مبنى الرئاسة القديم. وكان ينتصب في العراء بجدران من الاسمنت وسقف وستائر من حرير أخضر وأصفر زاه بألوان العلم. وإن كانت توجد ورشات متعددة، بعضها للمباني البيضاء الواقعة جنوب شارع الكثيب - جمال عبد الناصر- (حي أ) وبعضها للكتل الخمس التي تقع شمال ذلك الحي (ابلوكات) وأخرى تقع شمال ذلك.. وكان العمل متواصلا فيها على قدم وساق ! ولا توجد يومها وزارات ولا رئاسة ولا أحياء في العاصمة. فمشروع الدولة الوليدة ما يزال فكرة في صدور رجالها العظماء، وما رأى النور منه - وهو الأقل- ما يزال في مدينة اندر (سانلويس).
أما "لكصر" فقد كانت توجد فيه كتل بنيان طينية قليلة تتناثر حول مقر المقاطعة.
وقد جرت مراسيم إعلان الاستقلال وقيام الدولة الموريتانية عند الدقيقة الأولى من صباح الـ 28 نوفمبر سنة 1960 في ذلك الكوخ المذكور، ثم عاد الجميع من حيث أتوا، ولم يبق في ميدان العاصمة غير العاملين في ورشات البناء !
وبعد قليل من ذلك التاريخ أصر الرئيس المختار (رحمه الله) على الانتقال من اندر إلى انواكشوط، وأن يقود بنفسه ملحمة العودة إلى الوطن، فرافقته عقيلته مريم وصديقه السيد سيد المختار انجاي رئيس البرلمان (رحمه الله) ! ومنذ وصولهم إلى انواكشوط بدأت الحياة تدب في العاصمة الجديدة : ثلاث حجرات متواضعة جدا كانت تقع شرق مبنى البرلمان الحالي احتضنت البرلمان ! وقد أصبحت فيما بعد مدرسة ابتدائية درس فيها أبناء الرئيس مع أبناء الشعب؛ وهي اليوم مدرسة امتياز ! والشقة الشمالية الشرقية من حي "أ" أصبحت مقر رئيس الحكومة. وكان مكتبه يتسع لمقعدين بالإضافة إلى مقعده، أما إذا زاد عدد زواره فإن الحديث ودراسة القضايا يتمان وهم جميعا وقوف ! وكان الرئيس يومها يتنقل في سيارة "ديشوفو" يقودها بنفسه ! وفي الشقة جنوب الشرقية من الكتلة (شمال ثانوية البنات ومصنع الملابس) توجد إذاعة موريتانيا التي ترسل من شاحنة صفراء متوقفة جنب الشقة تعلن كل صباح ومساء في مجال ضيق جدا وعلى مدى ساعة أو ساعتين : هنا انواكشوط !
ورغم ذلك كله فقد كانت الدولة الجديدة تدور ! بل سرعان ما خرجت كالمارد من بين كثبان الصحراء الجرداء بفضل قوة إرادة وعزم وإخلاص وتفاني رجالها الذين آمنوا بها وعملوا بما أوتوا من قوة في سبيلها ! فاعتبروا يا أولي الألباب !
يتبع