الشيخ بكاي
كتبت هذه الحلقات في الذكرى الـ34 لأعمال القمع الوحشي التي تعرض لها الناصريون في العام 1984.. لم أسع هنا إلى التأريخ ولا إلى كشف الخفايا والملابسات التي أحاطت بالعملية.. كانت فقط انطباعات سجين يكتب عن تجربة يعتبر أنها ما زالت حية وعن شخوص معظمهم أحياء في مجتمع تتحكم فيه القبلية…
كل التفاصيل موجودة في كتاب عدلت عن نشره بعد ضغوط كثيرة.. وسيأتي اليوم الذي ينشر فيه..
1من 6
26 مارس:
في صباح هذا اليوم: 26 مارس من العام 1984 جاءني في البيت الواقع في “إيلو سي” إلى الشرق من الرئاسة سائقي محمد مبارك.. كان متوترا جدا.. قال: “الشرطة تنتظرك في الوكالة وتبحث عن بومدين ولد أحمد سالم.. تعال أهربك”.. لم أستغرب الأمر فقد كانت المؤشرات تدفع إلى أن ترتكب السلطة حماقات…
قلت للأخ محمد مبارك إني لن أهرب لأني لم أقم بما يستدعي ذلك.. ورغم رفضي توقف الرجل الطيب مرات في الطريق يطلب مني الهرب..
كان الناصريون أيامها قد وزعوا على نطاق واسع منشورا يهاجم “التحالف العسكري الرأسمالي”، وكتبوا الشعارات الواردة فيه على الجدران في عدد كبير من مدن البلاد في الليلة نفسها.. وغرقت المدارس في إضرابات..
كان الدخول إلى مكتبي يقتضي أن أمر بقاعة التحرير.. لم يقف لي أحد، ولم يسلم علي أحد.. كانت القاعة واجمة هادئة..
بعد دخولي المكتب جاء مدني وقال: “تريدك الشرطة في الخارج”.. رددت عليه: ” قل لهم أن يدخلوا.. هم أصحاب الحاجة ..”.
دخل الضابط بزومه وسلم في شكل مهذب جدا. وقال لدي أمر باعتقالك”.
رددت في ثقة “مصطنعة” فقد كنت أعرف ألا حول لي ولا قوة: “عندك أمر اعتقال من النيابة؟.. غير ذلك يكون عملية اختطاف”.
أغلق بوزومه الباب في هدوء وقال: ” الشيخ..خارج الرسميات، هذا أنا وأنت أنت ولا أريد أن اضطر إلى أن أعاملك بطريقة غير لائقة بنا”…
ورغم يساريتي ومحاولتي التحرر من التقاليد، فهمت بسرعة خطاب الرجل الذي يعني مودة متأصلة في التاريخ، فهو رجل من أولاد الناصر وأنا ابن الشيخ سيدي المختار الكنتي..
كنت مديرا لتحرير الوكالة الموريتانية للانباء لكنني في هذه الأيام أتولى مسؤوليات المدير العام الموجود في سفر..
قلت له وقد كنت هادئا هذه المرة: “صحيح.. هل يمكن أن تسمح لي بإجراء اتصال من مكتب المدير العام”… قال:” نعم.. تفضل” وبقي في مكتبي.
كنت أريد أن أعرف وضع الكوري ولد حميتي، وحمود ولد عبدي، وبعض أصدقائي الخاصين… وعرفت من الاتصالات أنه تم اعتقالهم…
في الليلة الماضية كنت وحمود في الطريق إلى بيت نسهر فيه في العادة.. قلت له إني غير ذاهب معه فأنا أشعر بفيض من الحنين إلى “أهل الرشيد” أي المنحدرين من قريتي… ذهبت إلى توجونين حيث يكثر الأهالي.. زرت كثيرين وسهرت مع إخوة وأخوات في جو أسري كنت أشعر بالحاجة إليه…..
لم يشرب حمود “البراد الأول” حتى التحق به ضابط شرطة.. وبات ليلته في ضيافة سيدة راقية، مضيافة، كريمة، سليلة الكرماء تسمى “أمن الدولة”…
في الطريق إلى “المضافة” سمح لي بوزومه بشراء 4 كرتون من مارلبورو.. وانتبهت بعد أن عدت إلى السيارة إلى أنني ارتكبت خطا، فشراء هذا القدر من السجائر يعني أنني أفترض أن أطيل المقام… وعموما لم أدخنها فقد صادرها الرحماء شرطيونا الأشاوس..
عن ساعاتي الأولى كتبت في كتاب لم ير النور بعد:
:دفع بي الرقيب سيدي محمد إلي الداخل بعنف حتى سقطت علي تلة من القمامة والرمل المالح يبدو أنهم جمعوها للاحتفاء بي في هذه الغرفة الضيقة المسقوفة بالصفيح المتآكل… وقبل أن يغلق الرقيب الغرفة قال في حقد ظاهر: ” لقد انتهت وظيفة المدير التي أنت منتفخ بها، وهذه الثياب أيضا سنزيل انتفاخها”.
لملمت أشلاء كبريائي وأدرت البصر بين ” التلة” والأرضية العارية إلا من أتربة حمراء مالحة ، لأختار مكانا للجلوس…شغلت نفسي لبعض الوقت بأعمدة دخان السجائر تمتزج بأشعة الشمس الساقطة من خلال ثقوب في السقف. ضربت الباب مرات… فتح مرة … وكان أمامه شرطي أسود، طويل القامة، مدجج بالسلاح… قال مصوبا رشاشه إلي نحري: ” ماذا تريد؟”.
قلت: ” هل تتكرم بالبحث لي عن جريدة أقتل بها الوقت؟”.
نظر إلي وقال في هدوء: ” أيها السيد ..! لا جرائد هنا… يبدو أنك لا تستوعب الموقف. وسأنصحك : توقع الأسوأ، واعمل المستحيل من أجل أن تصون كرامتك”. ثم أقفل الباب… كان اسمه عبد ول جي …
2 من 6 :الترغان” (الترويض).. ثم السلخ..
أمضيت الليلة الماضية على الأرض من دون فراش وسط أكوام القمامة، ولم يكن النوم أقل عداء من رقيب الشرطة سيدي محمد، فقد تحالف ضدي مع رهبة الجو وأصوات الجزم، ودمدمة الحديد في باب الزنزانة يفتحه الشرطيون على الدوام للتأكد من وجود “المجرم الخطر”.
تحولت زنزانتي في هذا اليوم إلى ما يشبه المطعم.. وصلت كميات كبيرة من الطعام من مصادر مختلفة منها أخي محمد رحمه الله. ومنها كمية مخصصة لثلاثة أشخاص هم المرحوم محمد ولد جدو وحمود ولد عبدي وأنا.. كانت من بيت المرحوم محمد ولد جدو.. هي وجبة كنا نأكلها معا في البيت، وتعرف السيدة فاطمة مباركه أننا نحبها.. قلت للشرطي “هذا الطعام لي ولاثنين آخرين.. أنا عندي ما يكفيني.. إذهب به إليهما”.. أَغْلَق الباب من دون جواب… سأعرف في ما بعد أنهما لم يمرا بـ”النعيم” الذي أنا فيه، فقد بدأ “التحقيق”- الجَلْدُ معهما منذ اليوم الأول.
امتلأت زنزانتي أيضا بالشاي والسكر والسجائر من المصادر نفسها ومن أختي النانه بنت اج التي تعرف أني إذا وجدت السجارة والشاي أكون سعيدا..
كنت أحس أن الشرطيين يمارسون نوعا من “الغصب”.. يأخذون السجائر والشاي والسكر من دون إذن، وحتى الرقيب سيدي محمد كان يأتي ليأخذ حصته أو يرسل من يأخذها.. سأقول له في وقت لاحق حينما مد يده لياخذ بعض السكر من دون إذني: “إذا أخذته الآن فإنك تأخذه لأنني عاجز عن الدفاع عن نفسي”.. لم ألاحظ في سلوكه ذرة شهامة إلا هذه المرة فقد خرج مستاء من دون أن يأخذ شيئا..كنت أريد أن أغيظه عقابا على سلوكه الحيواني معنا…
أنا في الواقع كنت أقبل أن يأخذوا ما يريدون، لأنه في المقابل هناك من يجالسونني في الزنزانة، يعدون لي الشاي، وأستدرجهم لمعرفة بعض الاخبار.. كنت أمارس حريتي في أمر واحد هو اختيار من يأكل معي.. كنت ابادر: “خذوا أنتم تلك الوجبات، وتعال أنت لتأكل معي”..
عرفت من الشرطيين من هم جيراني في الغرف 1،3،4،5، أما الرقم 2 فكانت هي قصري.. وعرفت منهم أسماء العشرات من بينهم الشهيد سيدي محمد لبات، والمرحوم كابر هاشم…
لم يطل “النعيم” فقد صادر الرقيب سيدي محمد كل “ممتلكاتي فجأة وبدأ أسلوب ” عبد الجبار” في اليلة الـ 29 مارس:
بعد أن تأقلمت مع النوم تحت وئيد الجزم ودمدمة الحديد بدأت أصحو ليلا على جزمِ مقنعين تركلني، وأياد تصفعني، وأصوات تناديني: “عبد الجبار.. عبد الوهاب.. عبد الفتاح.. عبد اللطيف..”.
في إحدى المرات أمسكت بقناع أحدهم بقوة وصرخت في وجهه:
“Tu sais très bien que je ne suis pas Abdel Jebbar”
(تعرف جيدا أنني لست عبد الجبار).
سقط قناع الشرطي فإذا هو الشاب عميرات الذي عرفته يعاملني بلطف واحترام .. قال بسرعة :”أنا مأمور” وواصل الصراخ..
في الليلة الموالية تطور الأسلوب إلى “ترويض”: أستيقظ من النوم على عملاقين يمسك كل واحد منهما بيدٍ ويجريان بي بسرعة صائحَين: “الرياضة.. الرياضة”..
قلت لأحدهم مرة: “أنتم وحوش”.. رد علي: ” ذا ألاَّ الترغان… ذاك جايك مزال…”…
بدأت أخبار التعذيب “الحقيقي” تصلني: “الجاغوار”، و”الحشو بالفلفل الحارق” و” الصعق بالكهرباء”… وبدأت شخصيا الرحلة خارج “الترويض” و”الترغان”…
كانت أول جلسة “تحقيق” مع المفوض دداهي ولد عبد الله ومفوض آخر أعتقد أنه مات ولذا أُمسك (هنا) عن ذكر اسمه.. اعتقدت وقتها أن هذا المفوض لم يك محققا فقط كان شخصا له حسابات خاصة.. (كان ذلك اعتقادي خلال الجلسات وقد أكون مخطئا)..
بدا المفوض دداهي “ملاكا” ولم ترد على لسانه إهانة.. كان يطرح اسئلته بهدوء واحترام وأحيانا يكون طريفا: ” والله إنكم لحركة متبعرصة).. وهي حيلة استخباراتية فهمتها بسرعة…
كان أول سؤال: “ماهي قبيلتك”؟…. ورددت: ” رغم استغرابي لربط اعتقالي العشوائي بالقبيلة، أنا من كنته”.
دخل المفوض الآخر في سلسلة من الحديث عن “غرور كنته، و”اتْخَوْمِي” كنته، وكون ماء المرحاض لا يليق بكنته…. وأطنب في هذا الأمر إلى درجة جعلتني أنسى أين أنا، وكيف، ومن أكون أمام آلة الطحن التي أنا واقع بين فكيها..
قلت غاضبا:” دداهي لم لا تقول لهذا الرجل ألا مكان للقبيلة هنا؟”. والتفتُ إليه هو:” لوكنتُ هنا على أساس انتمائي القبلي لما استطعتَ النطق (ما اتحل الصاق فمك).. وأردفت: مارس مهنتك بحرفية.. واجهني بمعلومات أكيدة عني تجعلني أنهار وأعترف”.
ابتسم دداهي في هدوء وقال:” فلان.. ما قال لك الشيخ صحيح.. دع قبيلته”..
وبالمناسبة يحتاج هذا المفوض إلى الترحم فقد ارتكب فظائع لا تتصور منها أنه أخذ اثنين أحدهما أكبر سنا من الآخر وبينهما الاحترام وعراهما وحشاهما بالفلفل الحارق وهما ينظران إلى بعضهما البعض… لا أستطيع أن أكتب “رحمه الله”….
على الرغم من أن دداهي كان بعد ولد اميشين الشخصية الأهم فإنه لبس خلال التحقيق ثوب “الملاك” ولم أسمع أنه أساء لفظيا إلى أي أحد.. والأساءة اللفظية ليست أقل شأنا من الاساءة الجسدية..
بعد الجدل القبلي دخلنا في المهم: الانقلاب، والتنظيم العسكري، والأمانة التنفيذية وهيكلة التنظيم. ولم أسأل شخصيا عن “الأموال الليبية”..
قرر دداهي بعد ثلاث جلسات إرسالي إلى فرق “الموت”
أظهرت الأسئلة خلال التحقيقات صراع أجنحة في النظام نفسه وفي المخابرات بدت مقدمة لانقلاب معاوية ولد الطايع في العام نفسه.. كانت هناك جهات تدفع باتجاه تجريم بعض أعضاء اللجنة العسكرية مثل الضباط: محمد الامين ولد الزين، آتيه همات، مولاي ولد بوخريص… وكل الأعضاء القريبين من المقدم هيداله..
وكانت هناك جهات تدفع باتجاه توريط ما كان يعرف ب” تحالف موريتانيا ديمقراطية” في العملية من أجل إضفاء صدقية على اتهام الناصريين بالعمالة لليبيا في أجواء الاتحاد الغريب الذي أقامه المرحومان معمر القذافي والحسن الثاني.. ولهذا الغرض اعتقل معنا السيد الداه ولد عبد الجليل الذي كانت تهمته حينما ذهبنا إلى المحكمة الجنائية الخاصة مثل تهمتي والكوري وحمود وكل الناصريين وهي إنشاء التنظيم الناصري… ووووو”… ولمن لا يعرف الأستاذ الداه من غير الموريتانيين هو في الأصل ذو خلفية ماركسية تبنى بعدها الفكر الديمقراطي الغربي. وكان الناصريون في تلك الفترة يعتبرونه خصما سياسيا وفكريا لهم.
وكانت هناك جهات مصرة على تصفية عدد كبير من ضباط الجيش بتهمة “تشكيل تنظيم عسكري ناصري..”..
وفي الواقع لم يكن للناصريين تنظيم عسكري. بل إنهم قرروا عن وعي الابتعاد عن الجيش… وأعرف شخصيا قادة ناصريين حضروا المؤتمرات السرية ولعبوا أدوارا نضالية كبيرة في الحركة الطلابية، لكنهم بمجرد دخولهم الجيش عزلهم التنظيم وانعزلوا عنه…
أما الانقلاب فلم يفكروا فيه مطلقا، ولم تكن لهم علاقات بالعسكريين في السلطة.. كانوا حركة شعبية تسعى إلى التغيير من خلال الثورة الشعبية…
وتبقى “اللوثة” الليبية” التي ألصقها الخصوم السياسيون واستغلتها السلطة كلما أرادت أن تنقض عليهم.. وما لا يعرفه كثيرون أو لا يريد كثيرون أن يعرفوه أن “التنظيم الوحدوي الناصري” ظل على الدوام في صراع مع النفوذ الليبي.. ودفع الثمن غاليا من وحدته وتماسكه بسبب رفض التجربة الليبية.
.
أمضيت خمس ليال من دون طعام أو شاي أو سجائر.. كان الوكيل ديوب يعطيني من حين لآخر سجارة أدخنها وهو يستعجلني واقفا على الباب خشية أن يدخل أحد الكبار.. أتاني بعلبة حليب رفضت أن اشربها في المرة الأولى، فقد قالت لي “الطفولة” إنهم يضغطون علي بمنع الطعام.. والحليبُ طعام ولن آكل أو أشرب خلسة. لكن ردت الواقعية: ” هم يريدون إضعافي بمنع الطعام. لن أساعدهم سآكل وأشرب ما يهرب إلي.. وناديت جوب…
كان جيوب يأتيني بكأس شاي في علبة حليب فارغة من عند جاري في الغرفة رقم 1 الصحفي عبد الله السيد… كان الزميل عبد الله قوميا يكتب أشعارا قومية جميلة اعتمدت في مكتبة التنظيم. وقد أعطيت إحداها للمرحوم الخليفة ولد أيده فغناها، لكن أعتقد أنه في تلك الفترة لم يكن على صلة بالتنظيم السري.. ولذا لم يطل مقامه بيننا.. وترك خروجه فراغا كبيرا، فقد كان شخصية مرحة أفادني وجوده جارا لي، وأدخل السرور والتفاؤل على مجموعة من الشباب محبوسة في قسم الشرطة بعد نقله إليها من الغرفة الانفرادية.
الزميل عبد الله رجل صوفي ابن زوايا ومن الطبعي أن يقرأ القرآن، لكنني ذات ليلة سمعت من ثقب في الجدار قرآنا ما هو بقرآن..
أصخت السمع من ثقب الجدار فتمكنت من سماع الآية:
_” هل مازالوا يمنعون الطعام ؟.. هل عذبوك؟”
رددت ب،”آية” أخرى مؤكدا بالطريقة التي نرتل بها القرآن (آقبابيد)..
واستمر الاتصال بيننا بهذه الطريقة القرآنية التي لا تستطيع الشرطة أن تكتشفها حتى رُحَّل عني..
3 من 6:
قوميون عرب في ضيافة الزنوج
30 مارس… 2 ابريل
من بين ما سجلت يوم 2 ابريل على “الأجندة” الكُورية البيضاء التي حصلت عليها يومي الثاني في المعتقل:
Torture reached its peak” ( بلغ التعذيب ذروته..)
عن”الأجندة”
أخفيت “الأجنده” أولا بين القمامة المتراكمة في الزنزانة، ومن ثم تحت الفراش، حينما سمحوا به. وحُل المشكل بعد السماح لنا بالكتب.. لكن مشكلها ظل مطروحا بعد أن جمعنا كلنا في قاعدة “الهندسة العسكرية”. فأنا لا أريد أن يطلع غيري على المدون بها.. كان الأصدقاء يرونها معي وأتثبت منهم من بعض الأمور، ولم يكن من بينهم حسب علمي من يعرف الانجليزية، لكني ظللت في غاية الحرص عليها.. واخترت التدوين بهذه اللغة لأن قلة في البلد تفهمها.
عدت إلى الوراء في الأجندة إلى ما قبل اعتقالي في 26 مارس، فسجلت عن الاضرابات والمنشور والكتابات على الجدران.. وعن أول اعتقال في بداية الأحداث؛ وكان في 3 مارس حيث اعتقل
طفل من الناصريين على خلفية شجار مع طفل من الإخوان المسلمين يرفض أن يُضْرِب.
وفي 6 مارس اعتقلت مجموعة من تلامذة الثانوية ،من سكان مقاطعة التيارت بنواكشوط. وفي 16 مارس اعتقل شخص باسم “الشيباني”.. وبدأت موجة الاعتقالات الواسعة يوم الـ 25 مارس.. وواصلت التدوين عن الأحداث حتى مرور شهر على انقلاب 12/12/1984
استخدمت حروفا وأسماء رمزية للأشخاص وبعض الوقائع من باب الاحتياط .. و فككت كل شفرة حينما انتهى التحقيق وجمعنا في الهندسة العسكرية.
******** ******* ********** ***********
كان التعذيب على أشده…جلسات أو وقفات يتخللها الصراخ والغياب… وكان التجويع “وجبة” مكملة يقدمها الزبانية لضيوفهم.
بعد أن ينهي وكلاء الشرطة مهام التعذيب يجتمعون في غرفنا ويبدأ كل منهم يروي قصص ما قام به أو شاهد…
أخبار غير مطمئنة عن المرحوم محمد لد جدو… قال الوكلاء إنه في وضعية صحية صعبة بسبب التعذيب.. أجمعوا على أنه صلب شجاع…وكان يتحدث باحتقار إلى جلاديه..
محمد الحافظ ولد اسماعيل، حمود، كابر هاشم، الناتي.. الخليل ولد الطيب .. أسماء أعرفها وأخرى لا أعرفها.. الكل في المسلخة..
تداول الوكلاء بصق أحد الذين يجري تعذيبهم على وجه مفوض شرطة…
لا خبر عن سيدي محمد لبات.. أخبار قليلة عن محمد الامين ناجم، والكوري ولد حميتي.. عرفت إلى الآن فقط أنهما يواجهان أشرس أنواع التعذيب معزولين في قبوين من أقبية إدارة الأمن في ضيافة المدير شخصيا..
عانيت في هذه الأيام جلسات “حارة” مع مفوضي شرطة ومفتشين وضباط..
ومن “أطرف” أعضاء لجنة “التحقيق- الجلد” الضابط “…. بابا”..
كان “… بابا” رجلا “بزقيا” يتحدث بلكنة خاصة، ويقول عنه المعتقلون إنه كان جريئا على ضرب”المناطق الخاصة” في جسم الانسان..كان يهدد فريسته بأن تصبح عاجزة عن الانجاب: ” إلَ عدت ما تبغي اتعود ما اتْرَ الشَّاشره اتكلم”…
بدأت النقود تنفد وهي هنا مهمة لأنها تستخدم في “تطييب الخاطر”، لكنها مهمة لي أيضا، فأنا أعيش على علبة حليب “روز” يهربها الوكيل ديوب، ويهرب لي فيها كأس الشاي بعد أن أفرغها…
الشاي الآن يُهرب لي من زنزانتين واحدة يقيم بها مناضل شاب اسمه محمد الكوري، والثانية هي قصر “القاضي” الاستاذ محمد محمود ولد محمد الامين..
مَنحْنا الاستاذ محمد محمود صفة القاضي ( بعد أن أصبح في مقدورنا أن نضحك) انطلاقا من تصريح حكومي وصفنا بالحركة الخطيرة التي لها محاكم “تصدر أحكاما ضد المواطنين”..
كان الأستاذ محمد محمود أريحيا كريما خلوقا وقد اتخذه بعضنا أستاذا في مادة اللغة العربية حينما جُمعنا في الهندسة العسكرية.. كنت من بين الذين درسوا على يده ما أمكن من “ألفية ابن مالك”…
وفي الهندسة العسكرية أيضا كان أستاذنا في الرياضة البدنية الدكتور محمد الامين الناتي.. أخذنا عنه مصطلحات لم نكن نعرفها مثل “زنكتشو”…
لم يكن دور ديوب تهريب الحليب والشاي فقط.. كان يقوم بمهمة أخطر.. كان كل يوم يسجل نشرات أخبار الإذاعة الموريتاية وينتظر الوقت المناسب ليسمعها لي، وإذا هو عجز يقدم لي تقريرا شفهيا بما سمع…. كنت عبره أتابع في شكل جيد ما تقول السلطة عنا وتوجهاتها العامة…
كان ديوب يصاب بالهلع حينما يقترب شرطي عربي، لكنه يغلق المسجل في هدوء حينما يكون المار زنجيا…
من بين الشرطيين العرب أفراد قلة جدا تعاملوا معنا بتعاطف أو اعتدال أو إسانية.. كان الشرطي العربي يعطينا الانطباع بأن بيننا وبينه حسابات خاصة.. كانوا يتعاملون معنا بوحشية وحقد ظاهر، ويمعنون في احتقارنا..
الشرطي الزنجي يمارس التعذيب أمام رؤسائه، لكنه حينما يتغيب الرئيس يسند الضحية الساقط على الأرض، من فرط التعذيب، ويقول لمن هو قيد الجلد: ” واصل الصراخ” ليواصل هو الضرب على الحائط أو الأرضية، أو يصدر الأصوات التي توهم بأنه يقوم بعمله…
كانت رسائلنا تصل إلى أسرنا عبر الشرطيين الزنوج وكانوا ينقلون إلينا أخبار الأسر.
ولعله من حظنا أن السلطة قررت أن تختار “فرق الموت” على أسس عرقية .. لست أدري هل كان الاختيار عن قصد أو كان صدفة؟.. أنا متأكد فقط أن اختيارها لغالبية العناصر الناطقة بالحسانية كان موفقا.. فقد أظهر هؤلاء من الحقد ما لا يتصور…
يمكنني القول إن نحو 80 بالمائة من أفراد الفرقة كانوا من الزنوج.. وحتى في الهندسة العسكرية حينما جمعنا بها كنا في ضيافة ثلاثة هم المرحوم الرقيب غيسى، والرقيبان لام عبدو اللاي وجوب شيخنا أستاذي للغة البولارية خلال مقامي هناك..
أتذكر أن الرقيب لام عبدو اللاي كان يحملني على ظهره وأنا مصاب في الكاحل إلى الحمام ومنه.. وأتذكر خدمات الرقيب غيسى الذي سماه المرحوم محمد ولد جدو “قيس الكنتي”.. وأتذكر طيبة الرقيب جوب شيخا..
تفاجأت بعد أعوام بالرقيب لام عبدو اللاي يحاكم في الجريدة بتهمة المشاركة في محاولة انقلابية اتهم فيها 50 من العسكريين الزنوج.. وكم كان حزني وأنا أرى الحديد في معصميه… رحم الله العقيد الشيخ ولد بيده الذي سمح لي بأن أعانقه، وألتقي به وأقدم المساعدة… وكم كان سروري بعد ذلك وأنا واقف في منطقة مظلمة في المقاطعة الخامسة أنتظر من يستلم مني كومة من الرسائل حملتها من ولاتة حينما سمحت لي السلطات بصفتي مراسلا أن أزور سجناء الانقلاب و حركة “فلام”.. كانت هذه المغامرة من أجل لام وديوب وموسى، وعبدول جي، وغيسى وغيرهم، ومن أجل موريتانيا تتبادل الاعتراف، ويداوي مواطنوها جروح بعضهم البعض..
لم تعاطف معنا الزنوج إذن؟…
ذلك موضوع واسع آخر لن أتناوله الآن.. أقول فقط إنه برهان ساطع على أن القومي الناصري الموريتاني والزنجي الموريتاني قوميا كان، أو مواطنا عاديا، هما -عكسا لما يراد- وعبر الاعتراف المتبادل واستبعاد الأحكام المسبقة صِمام الأمان لوحدة بلد متعدد الأعراق والثقافات..
اختتمت ملاحظاتي في الاجندة هذا اليوم بما يلي:
“أشعر الآن بجفاف شديد في الجسم وضعف في القوى وصداع .. إنها ليلتي الخامسة من دون أكل وسط “السهرات الحمراء” والرقص على طبول الجن…”
4 من 6: محمد الامين ولد ناجم:
3 إبريل:
معلومات جديدة عن المناضل محمد الأمين ناجم المعزول في قبو بإدارة الأمن.. فهمت وقتها من المعلومات القليلة التي وصلتني أن حياته في خطر، يواجه أبشع أنواع التعذيب الجسدي و النفسي… وعلمت في ما بعد أن أسرته أمضت شهرا تبحث عبثا عن أي معلومات عن مكان وجوده…
وكلوا به “رجل أمن” لا عمل له إلا الضرب بحذائه على الباب كلما أعتقد أنه نام.. وكان “التحقيق- الجلد” يجري معه مرات في الليلة على أيدي فرق مختلفة…
قال في ما بعد إن التعذيب الجسدي كان أخف عليه من أخذ جلاد بلحيته وقوله له “أكيذبت”…
كان المرحوم محمد الأمين فنيا في الإذاعة الموريتانية وكان نقابيا بارزا.. عرف بحسن الاخلاق والأمانة والصدق والبساطة والالتزام الديني.. وما لا يعرفه الآخرون هو أنه كان من أبرز العناصر في أمانة السر في “التنظيم الوحدوي الناصري”. كان يقوم بأخطر المهام السرية ويعهد إليه بأخطر الوثائق…
اقتربت من عمله الخطر في إحدى سنوات الثمانين، حيث رأى التنظيم أن أسبابا أمنية تستدعي نقل ” ماكينة” سحب المنشورات والوثائق إلى منزلي في حي “إيلو كا” … لم أكن وقتها قد تزوجت فاستقبلت الساحبة في غرفة نومي…
كان محمد الامين يأتي في أوقات مختلفة يجلس معي أمام الناس، ولا يدخل “غرفة السحب”، من أجل ألا يثير وجوده أي انتباه في حال كانت عنده مهمة خاصة…
كان يسحب الوثائق، يضعها على ظهره ويخرج من باب خلفي، ويختفي واضعا عمامته، لا بسا ثوبا متواضعا يناسب ما يحمل أي فقير على باب الله… لم يكن مطروحا أن أوصله بالسيارة…
بعد عملية الافراج عن الناصريين من دون محاكمة لم يحصل المناضل محمد الامين على رواتبه للفترة التي أمضاها في الحبس، في حين حصل الآخرون على رواتبهم في إطار تعليمات بعودة الجميع إلى وظائفهم واعتبار فترة الحبس تعطيلا خارجا عن الارادة تم في نهايته سحب المتابعة من دون محاكمة.
وفصلته الإذاعة من عمله وهو على فراش الموت في داكار ولم يبق أمام تقاعده إلا تسعة أشهر فقط..
توفي الفقيد في داكار ودفن بها في 19 مايو( 2005) غريبا عن وطن عاش من أجله..
ونسيه الناصريون كما نسوا أنفسهم…
كرس المرحوم محمد الأمين ناجم حياته للنضال بأمانة وإخلاص ونكران ذات، وفتح بيته للمناضلين… إنه يستحق علينا الكثير…
ذكرى رحيل المناضل محمد الامين هي 19 مايو القادم…. ألا ترون أن هذه الذكرى العطرة تستحق وقفة؟
رجمه الله………
5 من 6: معتقلون و”معتقلون وهميون”.. “زعيم التنظيم”
4ابريل :
– ثغرة في “الحصار الاقتصادي” المفروض علي منذ خمسة أيام.. وصلتني وجبة غداء… و قيل لي إن ثيابا نظيفة عند قسم الشرطة تنتظر إذنا بالسماح لي بها..
رفض الشرطيون أخذ الثياب في البداية .. ولست أدري لماذا، فلم يتوقف الأهالي عن إرسال الطعام والشاي والسكر السجائر. ولم يكن يصلني أي شيء منذ فرض الحصار..
اضطرالشرطيون في الأخير أن يأخذوا الثياب بعد أن بكت قريبة لي في شكل جارح.. وقالت إنهم قتلوني..
وكم كان وفيا غسال الثياب الذي رفَضَ أخذ نقود قائلا إنه سيظل يغسل ثيابي حتى أعود… شاهدت خلال هذه التجربة الكثير من صور الوفاء الرائعة، لكنني اطلعت على صور لؤم بشعة، منها شهادة “معتقلين وهميين” ضد أقارب وأصدقاء وأولياء نعمة لا يستحقون عليهم سوى الخير…
نقل وكلاء الشرطة أن أحد المعتقلين قال في مواجهة مع معتقل” وهمي”: ” أيها الحقير أنا لم يرغمني التعذيب على الاعتراف بما لم أفعل، وتظن أنت أنك تستطيع!”…
قال لي شرطي في أحد هذه الأيام: ” لقداعتقلنا رئيسكم”.. استنكرت استخدامه صيغة الجمع وقلت: “هوم منهومه يبوي؟”، لكنني كنت في الواقع أريد أن أعرف فشجعته.. قال ضاحكا:”هو يبدو الزعيم فقد جاء يقود سيارته واعتقلناه بعد أن ركنها في هدوء”.
تابعت من خلال وكلاء الشرطة مواجهات بين معتقلين “وهميين” وآخرين يجري سلخهم.. وتابعت أخبار رجال آخرين فضحت الاعتقالات طوياتهم… لقد كانوا أغبياء، تعاملوا مع أجهزة لم توفر لهم الحماية “الاجتماعية”.. لعلهم راهنوا على أنه لا ذاكرة للموريتانيين…
وحتى “أجندتي” هذه التي تختزن أسرارا وذاكرتها حديد، لا تبدو وفية لي ولا لأصدقائي فتفضح كل من ساهم في أكل أجسادنا و لعق دمائنا التي نزفت…
5 ابريل:
أيقظني ديوب في الصباح الباكر يحمل علبة الحليب، وعاد بعد دقائق بكأس الشاي ملفوفة كالعادة في علبة فارغة.. كنت مريضا ولم أنم إلاقليلا، فقد عدت متأخرا من “سهرة” الليلة الماضية منهكا متألما..
سألته:”ألا يمكن أن أنام وبعد أن أستيقظ نشرب الشاي معا هنا..؟.. ألم يفكوا عني الحصار؟”
رد : ” لا.. أنت مسموح لك بالغداء فقط، ولأ أعرف هل أكون حرا في تهريب الشاي إليك من غرفة أخرى في هذا اليوم بعد الآن ..”.
فوضت أمري إلى الله واستلقيت على ظهري منتظرا الكأس المسروقة، وسرحت في وقائع “سعير” الليلة الماضية، والانقلابات والعسكريين. وقادني ذلك إلى تدبر معاني بيان حكومي اتهمنا ضمن أمور أخرى بمحاولة السيطرة على البلاد من خلال “اتحاد العمال، واتحاد الطلاب، و.. الوكالة الموريتانية للانباء!!”..
كان الكوري ولد حميتي يقود اتحاد العمال، وحمود ولد عبدي يقود اتحاد الطلاب… و.. “الوكالة الموريتانية للانباء!!؟”… كان يوجد بها بومدين ولد أحمد سالم رئيسا لمصلحة الأرشيف، وكنت أنا مدير تحريرها..
النقابات تقود العمال والطلاب.. أما الوكالة فإنها “تقود الكلام”.. وهي لم تتحدث قط إلا بافتتاحيات نارية تمجد أمير المؤمنين قائد الأمة محمد خونة ولد هيداله وتلعن أعداءه المحليين والخارجيين.. ومن أشهر افتتاحياتها واحدة (مكتوبة خارجها) تحرض على تصفية الجماعات “السرية المخربة”…
كم هو غبي هذا البيان.. أهو استهداف لأشخاص معينين؟.. ذلك غير منطقي، فالمستهدف أكبر من هؤلاء ومن غيرهم…
في الواقع كان الناصريون في أوج قوتهم.. يقودون المنظمتين النقابيتين الأهم، وينظمون غالبية الطلاب والتلاميذ الموريتانيين في خلاياهم السرية.. ولهم سمعة طيبة في أوساط الموريتانيين العاديين ولدى المجتمع المحافظ الذي لم تلوثه الأفكار الوهابية بعد…
وكانوا في هذه الفترة أيضا قد بدأوا يكسرون سلاحا ظل بعض خصومهم يشهره في وجوههم وهو تخويف المكونة الزنجية منهم.. ومن دون إعطاء تفاصيل، قطع الناصريون خطوات على طريق إفهام البعض من نشطي هذه المكونة أن الفكر الناصري فكر منطلقه إفريقيا وهو فكر إنساني، تحرري، موضوعي، يعترف بالآخر وخصوصياته..وفي شكل واضح عملوا على إقناع الطرف الآخر بإيمانهم بموريتانيا متعددة الأعراق والثقافات… وبدأت الفكرة تتسلل إلى الضفة عبر آلية خاصة..
لم يكن ينقص الناصريين في الواقع إلا ما يحاول الجلادون إلصاقه بهم، وهو الاستناد إلى جناح عسكري داخل اللجنة الحاكمة، أو تنظيم عسكري خاص بهم.. وكانوا في الواقع يفتقرون أكثر إلى إرادة في الوصول إلى السلطة.. كانوا فعلا حركة شعبية واسعة تحلم ببسط العدالة الاجتماعية والمساواة، وتوحيد الأمة وتحريرها من التبعية. لكن لم يكن لديهم أي تفكير في السلطة على المدى القريب، بل إن الشعور الغالب كان نوعا من “الصوفية” “الساذجة”، إلى درجة استهجان التعيين في الوظائف الحكومية الكبيرة.
كان “التثوير” والشحن داخل الخلايا مستمرا كالعادة، فيما تسوء ظروف البلد، ويتخبط النظام في سياسات رعناء، وينتشر الرعب، والبطش..ولم يكن غريبا في هذه الظروف حدوث ردة فعل، خصوصا أن الشارع الناصري بدأ يضغط بقوة لم تعد تسمح بتحاشي الاصطدام بالنظام أو اختيار وقته المناسب…………………………
لم تكن المنشورات والكتابات على الجدران والاضرابات إلا أسلحة عادية استخدمها التنظيم وغيره في السابق، ولم تقد إلى ضربة بحجم هذه، غير أن قلق أطراف في السلطة وخارجها من القوة المتنامية للحركة، واشتراك هذه الأطراف في الحقد عليها ، وصراعات أجنحة السلطة نفسها، أمور أدت إلى عملية الإجهاز .. ويبدو أن تقارير الاستخبارات التي قدمت إلى الرئيس هيداله اتحدت كلها في تسويق الخطر.. وسيؤكد لي هيداله نفسه في ما بعد في أول مقابلة يدلي بها لصحفي بعد خروجه من السلطة أنه أُغرق في تقارير كاذبة. وقال لي بالحرف الواحد إنه لو كان يفهم الأبعاد لما أقدم على كل ذلك. والمقابلة موجودة عندي بصوته، وبها الكثير من المعلومات المهمة التي ليس لها مكان هنا الآن… ومنها أنه كان يدس جواسيس. ويبدو من كلامه أنهم خَدَعوا أو خُدِعوا..
عاد ديوب بالكأس الثانية وأنا أفكر في عقول من صاغوا البيان ومحاولة كل واحد منهم إدخال كلمة أو جملة تخدم ما يريد…..
– خرج “… بابا” من لجنة “الجَلْد” بعد اعتقاله على خلفية تهم بالسرقة والتزوير لم يكشف عنها وكلاء الشرطة.. كان من أطرف الجلادين، لكنه كان عدوا لتكاثر البشرية….(راجع الحلقة الثالثة)…
6 أبريل:
مازلت تحت التحقيق…
– توصل بعض المعتقلين إلى طريقة تختصر الفترة التي يمضونها في “الجاغوار”.. هي أن يعطوا الانطباع بفقد الوعي قبل أن يصلوه… مسألة صعبة جدا فالألم لا يترك للمرء عقلا يفكر به …
– لم أجد اليوم من يُهَرِب لي كاس شاي ولا سجارة … كان حارسي عربيا أصيلا.. يدحرجني بفوهة رشاشه حينما “يسوقني” إلى دورة المياه…
كلمني مرة واحدة حينما رمي إلي الغداء وقال :”هاك..”.. قلت : “أينا الكلب؟”.. لم يرد وأغلق الباب…لم أتناول الغداء في ذلك اليوم…
6 من 6: الشهيد لبات:
7 إبريل…
أثار انتباهي خلال أيامنا الأولى في التحقيق وكيل شرطة شاب مهذب إلى أقصى الحدود عكسا لزملائه العرب.. كان يؤدي عمله بصمت ورفق، وحذر في الوقت ذاته..
كان يعيدني ذات مرة إلى زنزانتي.. تصادفنا في الطريق مع كثيرين “يسوقهم” شرطيون ..كانت مدرسة الشرطة تغص بالناصريين وترتفع منها أصوات الصراخ من كل الأركان…
ثبت عينيه في عيني وأنا أدخل وقال :” كل ليمونة ستنجب طفلا/ ومحال أن ينتهي الليمون…”
كان يكرر دائما بيت نزار قباني كلما رآني في وضعية استياء…
لم أثق في الوكيل محمد… ربما كان مدسوسا علي، لكنني استحسنت أدبه.. وأنا في هذه الظروف على استعداد لقبول أي شيطان يقبل الحديث إلي ويسمح لي بقليل من الهواء يدخل من باب الزنزانة.. أو يهرب لي سجارة أو كأس شاي..
مع الزمن تحولت العلاقة إلى أخوة وصداقة، لم يكن فارق العمر بيننا كبيرا .. لم يزد محمد مطلقا في الإيحاء على بيت نزار قباني خلال الأيام الأولى، ولم أحاول أنا مطلقا استكناه حقيقته…
لم يكن صوته جميلا كثيرا ، لكنه كان أحيانا يحاول إخراجي من أجواء الاكتئاب بتقليد أم كلثوم وفيروز.. أتذكره الآن وهو يدندن: “غني لي شوي.. شوي.. ”
بعد انتهاء التحقيق طلب مني أن أدرسه اللغة الانجليزية فأعطيته من الوقت ما يسمح به عمله.. وقد أبدى ذكاء وقدرة كبيرة على الاستيعاب… التقيت بوكيل الشرطة هذا في سنوات الألفين وقد أصبح يحمل الدكتوراه ورجلا ذا شأن.. كان قصة نجاح…
لم يكن الحصول على الأخبار من صديقي الوكيل سهلا، وكنت أشفق عليه أيضا مخافة أن يكون لبيت نزار دلالة خاصة… وكان يبتعد عن الثرثرة ابتعاد ثقافة أهل الترارزة عنها.. غير أن إيحاءاته كانت بليغة..تحدث لي قليلا عن صعوبات يمر بها الشهيد سيدات..
8 ابريل:
خلال الليل حل نزيل جديد في وقت متأخر بالغرفة الرقم 1 الملاصقة لغرفتي… أيقظني أنينه… لم يعد الأنين والصراخ أمرا مثيرا فقد تعودنا عليهما، لكنه كان يئن بطريقة مؤلمة.. مؤلمة جدا…
في الصباح أعددت شرابا من “المخزون” المهرب وشربت، وناديت الشرطي الذي يحرس الغرفتين: “تعال إذا كنت تريد أن تشرب”…
تناهى إلى سمعي صوت ضعيف من ثقب في الجدار:” أريد أن اشرب”..
خلتني عرفت الصوت.. إنه هو…دفعت الباب بقوة.. أمسك الشرطي برقبة دراعتي من الخلف.. كانت من “الشكه” وتمزقت… دخلت… كان ينزف.. ينزف.. ينزف.. جروح في كل مكان.. الوجه الرأس.. الصدر .. البطن.. الظهر.. كان يلبس بقية ثوب ممزق…
قال لي: “أكلتني الوحوش”…
كان الشرطي الزنجي عند الباب.. أغلقه علينا خوفا على نفسه… رجعت إليه.. استعطفته بوجه المصطفى عليه الصلاة والسلام أن يتركني أعود بشراب.. قال “أسرع… ستخلق لي مشاكل”…
أسندت أعز الناس بصعوبة .. كان يتحرك بصعوبة وألم بالغ.. نظرت في أجزاء جسمه الممزق.. ضبطت عليه ما بقي من دراعته….
كانوا كلابا فعلا…..
كان سيدي محمد لبات (سيدات) من أعز أصدقائي.. أمضينا معا سنوات خارج البلاد أيام الدراسة.. وجمعنا النضال فترة طويلة… وعرفته في بيته.. وعرفته سندا في أيام كنت أحتاج فيها إلى من يقف معي….
كان لحسن أخلاقه ونزاهته مقبولا من الجميع.. من القواعد وقيادات الدرجة الثانية ومقبولا داخل قيادة التنظيم…كان الكل يثق فيه….
10 إبريل:
كانت جلسة التحقيق الللية الماضية مؤلمة للغاية.. كانوا أكثر وحشية… أعادوني في وقت متأخر..
في الصباح كان الألم يأكل كامل الجسد مصحوبا بحمى تسري في الجسم سريان “الجاغوار”.. أرسلت إلى الرقيب سيدي محمد أني مريض.. لم يرد..
في اليوم الموالي طلبت ست مرات عبر شرطيين أن أعالج، لكن الرقيب واصل الرفض.. ومرة لقيته قرب الزنزانة وأنا في الطريق عائدا من دورة المياه، قلت له إني مريض رد في جفاء: ” ادخل”..
11 ابريل:
اليوم رئاسة قسم الشرطة للوكيل ديوب.. زارني ووعد بأن يحاول مع الرقيب.. وكما وعد أقنع رئيسه بإرسالي إلى المصحة..
كان الطبيب رائدا في الجيش خدم في النبيكه بولاية تكانت ويعرفني جيدا، ويحترم والدي رحمه الله .. قلت له “أهلا فلان .. أنا محظوظ إذن…” .. تصرف كما لو كان لا يعرفني وأظهر وجهه استياء بالغا… تفهمت الرجل فالوضع صعب…
أتي الرقيب سيدي محمد بالدواء.. أعطاني جرعة اليوم. ورفض ترك الدواء معي.. قلت: “دع عنك دوائي معي.. لمَ تأخذه؟”.
رد في وحشية: “أخاف عليك من الانتحار”، وخرج…
في المصحة لا حظت أن معتقلين كثرا كانوا مرضى…
12 ابريل:
حديث بين شرطيين عن شخص في حال خطرة… كنت حينما أسأل يقولون لا شيء… ومرة سمعت أحدهم في حديث هامس مع زميله ينطق اسم “لبات”.. سألته: سمعتك تذكر لبات ما به؟… قال أحدهما ” سأكون حارسه الليلة”…
كنت قلقا إلى أقصى حد بسبب الحالة التي رأيته عليها قبل أيام…
15 ابريل:
دخل الوكيل محمد.. وكنت متعبا جدا وفي غاية التبرم.. قال لي: “سيفرج عنكم قريبا”… اعتقدت أنه يريد فقط أن يخفف عني.. قلت: “لا أعتقد.. لجة التحقيق ترفض أن أوقع محضري، مصرة على أن يكون فيه ما لا يوجد إلا في خيالها”.
قال: “هناك أمر عظيم حدث ، وسيفرجون عنكم”..
حينما تأكدت وفاة الشهيد أقمنا ” سلكة” على روحه.. كان الشرطي يتنقل بين غرفنا حاملا وريقات صغيرة مكتوب عليها: “اقرأ من قوله تعالي…. إلى…”.
لم أسمع خلال السنوات التي تلت أن مفتشا أو ضابطا أو مفوضا في الشرطة أصيب بالجنون نتيجة صحوة ضمير..أو استقال أو اعتذر… صادفت في الحياة العامة قتلة لبات آكلي أجسادنا… كانوا أشخاصا عاديين.. يضحكون .. يجمعون المال.. ويربون أطفالهم…
ويل لكم يوم الحشر….
ورحم الله الشهيد لبات..