محمد ولد محمد سالم
على ناصية الشارع عند ملتقى الطرق، حيث تُوقف الإشارة الحمراء السيارات كانوا هناك جالسين يدردشون، وقد نثروا ما في جعبهم وجيوبهم من محاصيل النقود.. كان الوقت عصرا، حركة السيارات قليلة، ما يسمح لأولئك البؤساء بفرصة للراحة وأخذ الأنفاس في انتظار ذروة المغرب.. الإبريق على الفرن بجانب المرأة الجالسة التي تولي وجهها إلى الشارع يوحي بأنها تعد الشاي، بجانبها كانت هناك امرأة وصبي يأكلان الأرز من صينية بينهما، وقبالتهم يجلس رجل ملثم، وقد ولى ظهره للشارع، كان منكبا على شيء بين رجليه، الغالب أنه يعد نقودا، والمرأة الملثمة بجانبه كان واضحا أنها تعد نقوده، وكذلك يفعل الرجل الأعرج الذي أسند عكازه على عمود الإشارة، أما الرجل القمحي اللون الذي يحمل الطفل الأسود فيبدو أنه لا يزال على رأس عمله، وقد هم بالذهاب إلى السيارات عندما توقفت، لكنّ الخصومة الحادة بينه وبين الرجل الأبتر الذراع اليسرى أخره حتى تحركت السيارات، ويفهم من تطاير الكلمات من فييهما أن الأبتر استحوذ على نصيب الأسد من خمسمائة أوقية تصدق بها رجل على ثلاثة منهم، فلم يرض ذلك زميله، فكان ما كان من خصام انتهى بإشهار الأبتر لسكين، وتهديده لزميله أنه سوف يشق بها بطنه، إن هو جاء مرة أخرى على سيرة النقود، وكاد فعلا أن يفعلها، لولا أن الأعرج الجالس قريبا منه أمسك برجله في اللحظة الأخيرة، وجذبه بيد واحدة فتداعى في اتجاهه، وبسهولة أمسك يده الوحيدة التي فيها السكين، وخلصها منه، وهو يقول له.. اهدأ وإلا قبرتك هنا، كان الرجل الآخر، قد فر بعيدا مخافة أن تطاله السكين أو تطال الصبي الذي يحمله.
التفت إلي صديقي ونحن ننطلق بعد أن أفسحت لنا الإشارة الخضراء الطريق، وقال:
- أ رأيت الرجل الذي يحمل الصبي.. إنه ليس ابنه، لا شك أنه استأجره من أمه ليستجدي به المارة.. سيدعي أنه يتيم الأبوين، ولا كفيل، وأنه هو معدم وليس لديه ما ينفق به عليه، أو يدعي أن أمه ترقد في البيت بسبب مرض مزمن لا تجد ما تتعالج به منه.. هكذا يحدث الأمر دائما، وفي النهاية سوف يدفع الرجل لأم الصبي ربع أو ثلث ما يحصل عليه من نقود، وبالطبع لن يصرح بكل المبلغ.. إنه احتراف..
نعم إنه احتراف، واحتراف مُكسِب، يجعل من ابتلي بالطمع يتخذ كل الطرق لكي يدخله.. تذكرت حكاية "الرجل ذو الشفة الملتوية" وهي إحدى مغامرات المحقق شارلك هولمز، التي ألفها آرثر كونان دويل، حيث يختفي رجل الأعمال نفيل سانت كلير، وبعد سلسلة من التحريات والبحث سوف يكتشف شارك هولمز أن نفيل سانت كلير ليس سوى المتسول "هيوج بون" ذي الشفة الملتوية، الذي يجلس قبالة إحدى البنايات في حي بعيد من حيه الذي يسكن فيه، لقد كان نفيل يعيش حياتين منذ وقت طويل، فهو متسول استطاع أن يضع قناعا محكما ويتقمص شخصية رجل ذي شفة ملتوية، وهو أيضا رجل أعمال ناحج، سمحت له الثروة الطائلة التي يجمعها من التسول باستثمارات كبيرة.. لكن ذلك كان في أواخر القرن التاسع عشر.
قصص الثراء من التسول عندنا كثيرة، أتذكر في ثمانينات القرن الماضي في مداخيل سوق المقاطعة الخامسة، صمبا صاحب العمود، والرجل اليابسة التي يمدها أمامه، ويلويها في ثياب المارة، فيتوقف صاحب الثوب، ولا يفلته صمبا حتى يعطيه بعض النقود، كنا نسمع أنه بنى من التسول منزلا من طابقين، وفي ذلك الزمان يعتبر ذلك ثروة طائلة جدا، كذلك كثيرة هي طرق التحايل التي يتبعها بغاة جمع المال بالتسول.. هل هو مُقعد فعلا، ذلك الرجل الذي يتدحرج على ركبيته وسط الشارع، وبين السيارات الكثيرة التي تكاد تدهسه؟، ألا يمكن أن تكون المكامد والمِنعلات التي يتدحرج عليها تخفي ركبتين سليمتين، وأن تكون الساقان والقدمان المخفيات جميعا تحت اللباس الكثيف سليمات؟.. وهل ما يدعيه ذلك الرجل الذي يلف ضمادة على بطنه من مرض أو تدعيه تلك المرأة من ترمل صحيح؟.. وبأي حق يتسول هذا الرجل القوي المتلثم الذي لا تظهر منه سوى عيناه؟.. وهو ينظر إليك بحدة حين لا تدفع له سوى قطعة نقدية زهيدة، وأجزم أنه يفكر في تسديد لكمة إليك.
الطابور طويل جدا، يستفحل في أوقات الذروة التي يكون فيها خط السيارات المتوقفة أمام الإشارات طويلا، هنالك تجدهم بكل أشكالهم وألوانهم وأجناسهم، بكل أعذارهم ودعاويهم.. طابور عن يمينك وآخر عن يسارك، وثالث عن يمين السيارة التي بجانبك، يتحركون بين السيارات جئية وذهابا، ويقطعون طريق السيارات، وإذا لم يكن السائق حذرا، فهو لا محالة سيصدم أحدهم.. وهو ما يحدث كثيرا.. تراهم منسجمين تماما مع وضعهم، يؤدونه بكل طلاقة، ودون حرج.. تمد إليك امرأة يدها، وهي ملتفة إلى الجهة الأخرى تحدث امرأة على بعد سيارة منها، تحكي لها حكاية الرجل الذي خدعها، بوعود بالزواج كاذبة، حتى سلبها ما عندها من نقود ثم اختفى، على إثر ذلك تبدأ بسبه وشتمه، وتنهي الحديث مع صاحبتها على وعدٍ بأنها ستكمله لها بعد أن تنتهي منك، وحين تتلفت إليك تدرك أنك لم تضع نقودا في يدها، ولم تحرك ساكنا في سبيل ذلك، فتنبهك بصوت حاقد، كأنك أنت الرجل الذي كانت لتوها تتحدث عنه، ولا محالة سوف تشتمك إن لم يكن علنا ففي السر.. لن تبقى في جيبك قطعة نقدية واحدة، ولا ورقة من فئة المئين، هذا إذا كانت فيه أصلا، لأن من العسير أن تسلم تلك النقود من أطفال البيت، وقد تضطر لإنفاق أكبر تحت تأثير حالة مؤلمة لأحد أولئك البؤساء، وأنت تتمنى في دخليتك أن تكون حالة حقيقية وليست مصطنعة، ومن المؤكد أن هناك حالات حقيقية كثيرة في مجتمعنا الذي بلغ فيه الفقر والفاقة نسبا مخيفة.
لن تخلو المجتمعات من التسول، فقد مضت سنة الله في الكون بأن جعل الناس درجات، منهم الغني ومنهم الفقير ومنهم بين ذلك، ومنهم القانع الذي لا يسأل الناس إلحافا، ومنهم المضطر للسؤال، ومنهم الطماع الهلوع الذي يسأل من غير حاجة، لكنّ الظاهرة عندنا استفحلت حتى تجاوزت الحد، وأصبحت مشكلة يصح أن يقال عنها إنها قضية وطنية، فأينما توجهت في نواكشوط، وعند أي إشارة مرور أو تقاطع توقفت فستجدهم هناك ارتالا من المتسولين الملحين، وستجدهم في الأسواق وفي المساجد بكل الأوجه والأشكال والأعذار، وسيطرقون عليك باب بيتك، تباعا من الصباح حتى المساء، وليس لك أنت المسلم إلا أن تعطي ما استطعت لأن ذلك دين، ولا عليك من حقيقة السائل، هل هو صادق أم مفترٍ، فأمره إلى الله، ولا يرد السائل ولو كان على ظهر فرس، واليوم تجدهم على متن سيارة متوقفة فيستجدونك أن تعطيهم ما يشترون به البنزين.
إنه مظهر مشين في مدينة نامية في دولة ديموقراطية مسؤولة، فهؤلاء ليس هذا مكانهم، ومن العيب، بل من الإهمال وعدم المسؤولية أن يملأوا طرقا رئيسية يغشاها ضيوف الدولة الرسميون، والسياح القادمون من الخارج، وأن يتجمهرون عند أبواب الفنادق والمؤسسات الرسمية وقاعات الاجتماعات الرسمية وأبواب السفارات، هذه حالة لا تليق بدولة مسؤولة، وتشير بأصبع الاتهام إلى المؤسسات المعنية بهؤلاء المساكين، كيف تتركهم هكذا، مشردين ملحفين في الطلب؟، يثيرون اشمئزاز كل من يزور بلادنا، ويعطونه انطباعا بأننا دولة من المتسولين، مما يجعله يغير رأيه إن كان مستثمرا يسعى لإقامة مشاريع في البلاد أو مسؤولا من دولة أخرى أو من منظمة دولية جاء للاتفاق على مشاريع تخدم الوطن، أو سائحا سمع عن بلادنا وأعجب بها، فأراد أن يستشكفها.. لن يجد ذلك الزائر أيا كان غرضه في نفسه الحماس للعودة مرة أخرى إلى بلادنا، وسيعمل على إلغاء المشروع الذي جاء من أجله، لأنه لن يثق في دولة هذا مظهرها.. ومؤسسات رعاية بلغ بها الإهمال حد ترك مواطنيها للشارع يتكففون كل زائر وكل مقيم.
لماذا تتقاعس المؤسسات المعنية عن إحصائهم والتكفل بهم، والتنسيق من أجل الحد من هذه الظاهرة، لماذا لا تكون لهم ملاجئ يأوون إليها ويأكلون فيها ويشربون بدل أن يتجمعوا على رصيف شارع من شوارع المدينة الحسّاسة للأكل والشرب والثرثرة، لماذا لا تكون لهم عطاءات شهرية تكفهم عن السؤال، ومتابعة صحية تمنعهم من أن يعرضوا عاهاتهم وأمراضهم في الشارع؟، أليست هناك مؤسسات عديدة رسمية وشبه رسمية وخصوصية وشعبية، يمكنها جميعا أن تنسق في ما بينها من أجل احتواء هؤلاء البؤساء وتضميد جراحاتهم وستر عوراتهم.. إننا اليوم بحاجة إلى ميثاق وطني لمكافحة التسول يضع أسس شراكة نافعة بين كل تلك المؤسسات، ويشارك فيه حتى المواطن العادي من أجل أن نتغلب على هذه الظاهرة، وعلى المؤسسات الرسمية بشكل خاص أن تبادر بمكافحة هذه الظاهرة، وأن تفي بالتزاماتها الوطنية نحو هؤلاء المواطنين، وتضع أسسا لذلك الميثاق الوطني.