إعلانات

عن الشريعة والدولة / د السيد ولد إباه

ثلاثاء, 27/03/2018 - 01:03

في كتابه الأهم: «الشريعة» الذي صدرت مؤخراً ترجمته العربية، يوضح «وائل حلاق» أطروحته المحورية في دراساته للفقه الإسلامي المتعلقة بالتمييز بين الشريعة من حيث هي منظومة أخلاقية قيمية مدارها المجتمع الإسلامي والقانون الحديث الذي هو المظهر السيادي للدولة القهرية التي تقوم في أسلوب حكامتها على الضبط والتأديب. الشريعة تستند لمبدأ العرف والمعروف وتهدف للعدل والسلم وتوطيد اللحمة الاجتماعية، وتسعى لنشر السعادة والسلم ووظيفة القانون هي حمل الناس على التعايش وفق مبدأ المصلحة والتعايش، ومن ثم لا سبيل لتحويل الشريعة إلى مدونة قانونية كما هو دأب حركات الإسلام السياسي، ولا إلى تحديث الشريعة لتأهيلها للوظيفة القانونية كما يريد الإصلاحيون المسلمون منذ محمد عبده والأفغاني.

يحمد لـ«حلاق» في دراساته الغزيرة حول الفقه الإسلامي أنه تعرض بالتفكيك والنقد إلى أطروحتين كبيرتين سادتا بقوة في الدراسات الاستشراقية، تذهب أولاهما (وهي التي كانت مسيطرة) إلى أن التقليد الإسلامي فقير المدونة التشريعية، ولم يكن الفقه الإسلامي سوى نسخة مشوهة من القانون الروماني الذي نقلته الإمبراطورية الإسلامية، وأضفت عليه شرعية عقدية ودينية، في حين تذهب الأطروحة الأخرى إلى أن الإسلام دين قانوني سياسي لا مكان فيه للاهوت والأخلاق، ومن ثم لا يمكن أن يتلاءم مع قيم المدنية الحديثة وفكرة الدولة التعاقديّة الحيادية تجاه تصورات الخير الجماعي الجوهرية. ما يبينه «حلاق» هو أن الشريعة هي محور الإسلام عقيدة وأحكاماً، وهي قاعدة انتظام المجتمع الإسلامي الذي لم ينط بالدولة أساس الوظيفة السياسية العمومية بالمعنى الراهن أي بناء للأطر التضامنية الجماعية، لكنها لم تكن قانوناً ولا يمكن أن تكون قانوناً باعتبار أن القانون بالمفهوم الحديث يعني استبدال المرجعية الأخلاقية للشريعة بمرجعية إكراهية ملزمة يضمنها العنف الشرعي للدولة.

لا نحتاج إلى بيان أن الخلفية النظرية التي يستند إليها «حلاق» هي من جهة مقاربة الفيلسوف الفرنسي «ميشل فوكو» النقدية في ربطها بين حركيّة إنتاج المعرفة والحقيقة ومسارات السلطة في دلالاتها الواسعة التي لا تتلخص في القوة والإكراه (وهو هنا يواصل الخط النقدي الذي بدأه إدوارد سعيد في نقده للاستشراق)، ومن جهة أخرى يرجع إلى مقاربة الفيلسوف والقانوني الألماني «كارل شميت» في معالجته لتطور المفاهيم اللاهوتية داخل الأنساق العلمانية للدولة السيادية الحديثة.

ما يصل إليه حلاق من هذه المرجعية المزدوجة هو أن الدولة القانونية السيادية الحديثة ليست خياراً مغرياً للمسلمين ويجب ألا يسعوا إلى أسلمتها لأنها قامت على القطيعة مع التصور الأخلاقي للسياسة نظراً وممارسة (نفس أطروحة ليو شتراوس)، ولم تتمكن من إقامة ما تدعيه من عدل وسلم ومساواة، بل غيرت الآليات الإجرائية للقهر والتسلط ومنحتها منظوراً شرعياً شكلياً يلغي مسبقاً أي إمكانية للخروج عليها.

ما نريد أن نعلق به على هذه الأطروحة هو أن «حلاق»، وإنْ كان وفق بطريقة لا شك فيها في نسف المقاربات الاستشراقية الكلاسيكية والجديدة حول تاريخ الفقه الإسلامي بإبراز خصوصياته المعرفية والقيمية والكشف عن محطات تشكله التاريخي، ونجح في إبراز العلاقة التي قامت تاريخياً بين الحقل الأهلي الذي تتنزل فيه الشريعة، وإطار الحكم السياسي للدولة، إلا أن النتيجة التي تفضي إليها أبحاثه هي تقرير التعارض الجذري بين التدبير الأخلاقي للشأن العمومي الذي هو مدار الشريعة، والتدبير القانوني للدولة الحديثة، بما يجعل الدولة خياراً «مستحيلًا» من منظور التقليد الإسلامي.

وإذا كان من الصحيح أن للدولة القومية الحديثة جذوراً لاهوتية مسيحية بارزة في تصورها للسيادة والتمثيل وفي مقاربتها القانونية في حين أن الدولة في التقليد الإسلامي لا يمكن لأسباب عقدية جوهرية أن تجسد الدين في أبعاده المطلقة، كما أن الفقه الإسلامي يختلف نوعياً عن القانون في دلالاته للتكليف والأمرية والجزاء، إلا أن نموذج الدولة الكلية ذات البنية البيروقراطية الإدارية هو وحده القادر اليوم على حفظ نمط الاجتماع الإسلامي، ولا معنى للرهان على حيوية المجتمع المسلم الذاتية المستندة للمثل الأخلاقية.

ما يتعين التنبيه إليه هو أن مسلك علمنة المعايير اللاهوتية ودمجها في العقل السياسي الحديث واكبه اتجاه واضح إلى تحييد الكيان السياسي الجماعي دينياً بما يعني وضع القواعد الإجرائية الكفيلة بتعليق المعتقدات الجوهرية وإحالتها إلى الوعي الفردي، بما يترتب عليه أن الدولة الحديثة أرادت أن تمتص الجوهر القيمي المشترك في الديانات، وتحول الحقل العمومي إلى مجال لتعايش وتداخل الإرادات الفردية الحرة. ما ينبغي السعي إليه راهناً في المجتمعات المسلمة هو استيعاب الدين في قيمه المرجعية العميقة التي هي القاعدة الأخلاقية المشتركة التي يتأسس عليها البناء الاجتماعي مع اعتماد آليات التدبير العقلاني البيروقراطي الحديثة التي أثبتت نجاعتها في إدارة المجتمعات الحديثة، بما يكفل في الآن نفسه حفظ الدين في تعاليه وتجنيبه التوظيف الأيديولوجي وإبعاده عن التجاذب السياسي.