من الانتساب إلى الانتماء…
يقول صاحب الفروق في اللغة..”…ثم إني ما رأيت نوعا من العلوم وفنا من الآداب، إلا وقد صنف فيه كتب تجمع أطرافه، وتنظم أصنافه، إلا الكلام في الفرق بين معان تقاربت حتى أشكل الفرق بينها…” ولعل الانتساب والانتماء من هذه المعاني التي تقاربت حتى أشكل الفرق بينها… قال في القاموس “انتسب الرجل إلى الجمعية انتمى.. ينتسب إلى حزب سياسي، إلى جامعة: ينضم…” يرد اللفظان بصيغة الترادف. وقال في القاموس..” انتمى إلى كذا: انتسب، انتمى إلى حزب: انتسب واعتزى…” وهنا أيضا يترادف اللفظان، وفي ذلك بغية أبي هلال العسكري عند تأليفه “الفروق في اللغة” التي ينبغي البحث عنها هنا في ما يحيل إليه الانتماء دون أن يشمله الانتساب. ففي معنى الانتماء النماء والزيادة، أما الانتساب فهو من النسب: القرابة. وبذلك تظل الفروق، وإن ضؤلت، قائمة بين “الانتساب” و”الانتماء”. ولعل الانتساب إلى حزب سياسي ما ينمى ويزيد ليصبح انتماء إلى مشروع اجتماعي يحمله الحزب!!!
إشكالية الانتماء، كما حددته المعاجم، هي التي يفتقدها مجالنا السياسي اليوم بعد تقلبات عديدة مر بها بين جمهوريتين وأحكام استثنائية قسمت الطبقة السياسية إلى “إنسان ذي بعد واحد”، و”لامنتمي”… يحدد هربرت ماركيوز وعي الآيديولوجي، “الإنسان ذو البعد الواحد”، في اقتباسه من فرانسوا بيرو..”يعتقد المرء أنه يموت من أجل الطبقة، وهو في الواقع يموت من أجل رجالات الحزب… ويعتقد أنه يموت في سبيل البروليتاريا، وهو يموت في سبيل بيروقراطيتها… ويعتقد أنه يموت في سبيل الأمة، وهو يموت في سبيل اللصوص الذين يكممون فاها…” (التعايش السلمي، م3، ص631، نقلا عن الإنسان ذو البعد الواحد، ص224). تلكم هي مأساة أيديولوجيينا منذ الجمهورية الأولى حتى الأحكام الاستثنائية. فقد اعتقد بعضهم في الجمهورية الأولى أنه يموت من أجل الطبقة ومن أجل البروليتاريا فقدموا “الشهداء” في أحداث ميفرما، وفي حوادث غامضة، واعتقد البعض الآخر أنه يموت من أجل الأمة، أثناء الأحكام الاستثنائية، فشيع بالزغاريد “شهداء” التعذيب والحوادث الغامضة. لم يمت أحد من أجل موريتانيا؛ لأن وعي الأيديولوجيين بها كان “وعيا زائفا” يطلق فيها “المسيرة الكبرى” لتفجير “ثورة ثقافية” كما نظر لها “الكتاب الأحمر”.. أو يراها بوابة غربية لامتداد بين المحيط والخليج يلعب فيه ضباط بالنرد لتحديد أولوية “وحدة حرية اشتراكية”، أو”حرية اشتراكية وحدة” على هدى “في سبيل البعث”، أو استرشادا ب”فلسفة الثورة”…
واستمر الرفاق في أوهامهم الأممية، وأحلامهم القومية حتى فجأتهم الجمهورية الثانية فطرحوا على أنفسهم سؤالا نقلهم من بعدهم الواحد الذي يمجد الموت..”… ولكن ألم يحن الأوان لتعلم كيف نحيا؟” (التعايش السلمي، ن.م.س.) إلى فضاء “اللامنتمي”. فلم يكن في الجمهورية الثانية ما يستحق “التضحية” من أجله، ولم تكن الجمهورية نفسها تحتفي بالشهداء، وإنما تبرم عقود إذعان مع “أحرص الناس على حياة”. وهكذا غير الأيديولوجيون جلودهم، إذ “نجد رجلا عاش حياته كلها منتميا، وفجأة يرى الهوة أمامه، فيصرخ مدعيا أننا لم نكن ذاهبين إلى أي مكان…” (مقدمة اللامنتمي، لكولن ولسون). والأمثلة في طبقتنا السياسية أكثر من أن تحصى؛ فقد رقص الجميع مع “الضباط” على كل الإيقاعات حسب المتوفر من الآلات…
لقد أدمنوا الانتجاع والانتساب منذ الاستقلال؛ من “النهضة” إلى “حزب الشعب” حتى “حزب عادل” مرورا ب”هياكل تهذيب الجماهير”، و”الحزب الجمهوري”، و”أفديك”، و”آسي”، و”حزب الأمة”، لكنهم حرصوا دائما على عدم “الانتماء” إلى أي من تلك التشكيلات السياسية. وتبنوا جميعا مقولة اللامنتمي الشهيرة..”لا أملك شيئا، ولا أستحق شيئا، وبالرغم من ذلك، أشعر بالحاجة إلى تعويض.” وجاء التعويض في صورة “مكاسب ومناصب”، محددا نوعية الانتساب ومدته.
واليوم.. يجري الحديث عن “تجديد الانتساب” إلى “حزب الاتحاد من أجل الجمهورية”، فهل يحتاج الوطن إلى انتساب حزبي على قاعدة المناصب والمكاسب، أو انتماء إلى مشروع وطني يموت أصحابه دفاعا عن موريتانيا في “حدودها الموروثة عن الاستعمار”، ويحيون من أجل بنائها دون الشعور “بالحاجة إلى تعويض”؟ ذلكم هو الرهان الحقيقي.
لقد آن لنا أن نقلع عن ممارسة السلطة لإدارة الشأن اليومي، وإقامة نظام سياسي يتجاوز الأشخاص، كما حدده الرئيس في خطاب النعمة، قائم على “كتلة تاريخية” تتصور وتنفذ مشروعا اجتماعيا يجد فيه كل الموريتانيين ذواتهم ويحقق مصالحهم. يعود مفهوم الكتلة التاريخية إلى الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، ويعرفه الجابري في توظيفه له بأنه “كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج.” ومن الواضح أن الشروط الموضوعية لإيجاد هذه “الكتلة التاريخية” قد تحققت في البرنامج الوطني الذي عرضه رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز على الموريتانيين في انتخابات 2009، وأعادوا الثقة فيه للمرة الثانية ليتعزز بجملة الإصلاحات الدستورية التي أقرها الموريتانيون بأغلبية كبيرة.
فعلى المستوى الاجتماعي تمت محاربة مخلفات الرق، وعزز تكافؤ الفرص بين المواطنين عبر الولوج إلى الوظائف من خلال المسابقات، وإعادة توزيع الثروة الوطنية من خلال التمييز الإيجابي للفئات الأكثر هشاشة، والبرامج الاقتصادية ذات الطابع الاجتماعي، مثل برنامج أمل، وتوسيع قاعدة مشاركة المرأة والشباب في الوظائف الانتخابية والهيئات القيادية في الجهاز التنفيذي للدولة.
وعلى المستوى الاقتصادي حققت البنى التحتية قفزة نوعية في الكم والكيف، وحورب الفساد بشجاعة ونجاعة، وتم إصلاح النظام الضريبي، وترشيد النفقات، وتمكنت الدولة من السيطرة على الثروات الوطنية لاستغلالها تحقيقا للمصلحة العامة، فارتفعت معدلات النمو، وتراجعت البطالة، وتمت السيطرة على التضخم. ولا يجادل مكابر في أن الاقتصاد الوطني وضع على سكة التنمية المستدامة بعد وضعية الانهيار التي تردى فيها حتى سنة 2008.
يبقى المجال السياسي كعب أخيل في هذه الحصيلة الايجابية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي. ويعود ذلك إلى صعوبة “القطع” على مستوى الفكر والممارسة مع “قيم” درجت عليها الطبقة السياسية لمدة 18 سنة. وهي “قيم” تأسست على عدم “الانتماء” لأي شيء، والاستفادة الشخصية من كل شيء. ولا يعاب ذلك على الطبقة السياسية وإنما يعاب على السلطة الحاكمة التي لم تتطلع إلى إنتاج خطاب وطني تسهم فيه الطبقة السياسية ويعمقه المثقفون وتتبناه غالبية تتيح ترجمته في برنامج سياسي قابل للتنفيذ…
لقد تغير هذا الوضع اليوم، وعلى الطبقة السياسية مواكبة هذا التغير. فقد أصبحت القطيعة مع ممارسات الجمهورية الثانية واستكمال نواقص الجمهورية الأولى عنوان الانتقال إلى الجمهورية الثالثة؛ فحورب الفساد، وأجريت إصلاحات دستورية أعطت للرموز الوطنية معنى يستلهم التاريخ ويستشرف المستقبل. كل ذلك يفترض القطيعة مع أولئك الذين أدمنوا توارث الوظائف الانتخابية منذ التسعينات ينتسبون لجميع الأحزاب، ويصفقون لكل الأنظمة، ولا ينتمون إلا لمصالحهم الخاصة، وبذلك نحقق المطلب الشعبي بتجديد الطبقة السياسية لصالح الانتماء إلى مشروع وطني بعد عقود من الانتساب إلى أحزاب حاكمة…