جلس الثلاثة على نفس الطاولة، بعد تبادل التحية المعهودة، تقدم منهم النادل. وقف على مسافة من الطاولة كالعادة، ثم قال:
– شاي، قهوة بالحليب، وقهوة مضبوطة؟
– قهوتي اليوم مرة.
نظر إليه صديقاه باستغراب!!!
– ألا ترون ما يجري حولنا! ألا نشاركهم المرارة ولو في القهوة!
ظل صديقاه صامتين، فأضاف متحمسا:
– ألا ترون تضحيات الشباب! ألا تسمعون صيحات الشعوب! العالم يتغير من حولنا ونحن نائمون…
– اللهم حوالينا لا علينا…
انفجر نضال ساخطا…
– بل اللهم في عقر دارنا، وملأ شوارعنا… متى تستفيق من سلبيتك يا سالم؟
– لدي فتى يحضر الثانوية العامة، وكريمة تتزوج هذا الصيف، فإذا حل بنا ما حل بالجيران خسرا مستقبلهما…
استشاط نضال غضبا…
– ألا يمكن أن ترى أبعد من أنفك يا سالم؟ مصائر شعوب وأمم تتغير من حولك، عروش تهوي، وشعوب تنتفض بعد طول سبات، وأنت تفكر في ثانوية ابنك، وعرس كريمتك!
– إنما أنا رب الإبل…
ظل صابر يستمع إلى النقاش، وهو يحتسي قهوته الممزوجة بالحليب. التفت إليه نضال:
– ماذا تقول يا صابر؟ أم أنك تحابي أخا زوجك؟
تردد صابر قليلا ثم قال:
– سالم، رجل مسالم، وما يحدث حولنا فيه فوضى عارمة ودماء كثيرة، لكن انتفاضة الشعوب رائعة…
تشجع نضال:
– إذا اهتم كل واحد منا بمصالحه الخاصة، ولم ينظر إلى المصلحة العامة المقدمة عليها لن نفعل شيئا. سنظل في وضعنا المزري هذا. جيراننا تجاوزوا مصالحهم الخاصة ليضحوا بالغالي والنفيس في سبيل المصلحة العامة… قاطعه سالم متهكما:
– لكن البوعزيزي مات من أجل عربة خضاره، ولم يمت من أجل تونس…
– ضحك صابر ضحكة خفيفة. لاحظ تجهم نضال فأراد أن يغير موضوع النقاش…
– بكم تتوقع أن يفوز البرصا هذا المساء؟
رد نضال بحدة لم آت من أجل البرصا هذا المساء، سأذهب لمتابعة الحصاد.. توقعت أن آخذكما معي. غادر المقهى وهو يتوعد…
– سيأتي يوم بلا مقاهي، ولا كرة قدم، ولا شباب مخنثين…
كان نضال ابنا لسياسي يساري، دخل السجن في الستينات، أيام الحملة على اليسار، وبقي فيه سنوات عديدة ذاق خلالها صنوف العذاب، وتعرف على أبناء التيار الإسلامي الذين قاسموه الزنازن والعذاب، فلاحظ أمرا غريبا. كان شباب الإسلاميين أقدر على تحمل حياة السجن من رفاقه اليساريين. كان رفاقه ينهارون بسرعة… فقد بعضهم عقله، وانزلق بعضهم الآخر إلى “التعاون”، ولم يبق منهم صامدا سوى ثلة يتزعمها هو، ويتناقص عددها باطراد… صحيح أن رفاقه يتحدثون عن حالات من “تعاون” بعض الإسلاميين، لكنها، إن صحت تظل محدودة… تقرب من قيادات التيار فاكتشف السر: التعويض الذي ينتظره الإسلاميون في عالم الغيب هو سر صمودهم. أما رفاقه فلم يكن أمامهم سوى هذا العالم الذي خسروا فيه كل شيء، فأراد بعضهم تدارك الأمر… حين خرج من السجن توطدت علاقته بالحركة، ثم أصبح أحد كوادرها. انضم إليها ابنه نضال، فدخل السجن في الثمانينات حين شنت الحملة على الحركة. في السجن تعرف الشاب نضال على شباب السلفية فأعجبته جذريتهم، ووضوح رؤيتهم وصرامتهم، فأخذ يقترب منهم لكنه ظل عضوا في الحركة إلى أن مات والده وهو في السجن، فتحول إلى السلفية بشكل صريح، بعد أن فصلته الحركة لاشتباهها فيه. خرج نضال من السجن حديثا بعد المراجعات داخل التنظيم والمصالحة مع السلطة على أن يقتصر التنظيم على الدعوة وينبذ العنف ضد الدولة والمجتمع…
تابع سالم وصابر “الديربي” في صمت ثقيل، فقد كان نضال ينعش الطاولة بتعليقاته على المباراة وانتقاده الدائم للحكام… بغيابه فقدت المباراة بعض نكهتها… في طريق العودة إلى البيت، سأل صابر، بصوت خافت قلق…
– هل تتوقع يا سالم أن يصل الربيع إلينا؟
– لا أعرف، لكن الأمر محتمل جدا…
ساد الصمت من جديد. عادا معا إلى البيت، فقد كانا جارين… رن هاتف صابر. كان نضال على الخط..
– أريد أن أراك الآن.
تردد صابر…
– الوقت متأخر…
– الأمر مهم، لا أستطيع الحديث في الهاتف…
تمشيا في الشارع.. مرت بجانبهما دورية أمن.. كان نضال متحمسا كالعادة..
– اسمع يا صابر! لدي معلومات أكيدة ستبدأ المظاهرات غدا، ستنتشر في البلاد، وسيسقط النظام. لا بد أن نشارك في هذا. هذا وطننا يا صابر، والثورة تكنس من يقف في وجهها.. أخرج من ترددك قبل فوات الأوان…
– ماذا علي أن أفعل؟
– لا تذهب إلى العمل غدا، إبق في بيتك.
– سنحرك الثانوية، ونبقيك بعيدا عن الشبهة.
– لكن المدير المساعد…
– سنتدبر أمره. كل ما هو مطلوب منك أن لا تذهب إلى الثانوية غدا، سنؤمن لك راحة طبية. إتفقنا. ودون أن يترك له فرصة للإجابة ابتعد في زقاق مظلم.
عاد صابر إلى بيته، فلم يستطع النوم.. كان يفكر في الثورة، ودوره فيها.. سيصبح مشهورا، مثل عشرات المغمورين الذين وضعهم الإعلام في الواجهة.. وربما يصبح زعيما سياسيا.. لكنه فكر في الأطفال الذين سيخرجون إلى الشارع غدا.. لإسقاط النظام… تكور على نفسه تحت اللحاف… سيمنع ابنه غدا من الذهاب إلى الثانوية…
(يتبع).