إصدارات سوداوية متتالية تتمحور حول مساءلة الماضي
لندن: ندى حطيط
يصف أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» مدينة مستقبليّة فاضلة يحكمها الفلاسفة. لكن «اليوتوبيا» كما نفهمها اليوم كنوعٍ أدبي تسميّة نحتها البريطاني توماس مور في القرن السادس عشر الميلادي، ليصف بها حكاية جزيرة تعيش أجواء نظام مختلف عن إقطاعات العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، فالناس فيها يعملون لست ساعات على الأكثر يومياً، ويشتركون في الموارد فيما بينهم. وعلى الرغم من أن مور خلال روايته تلك لم يقّدم الكثير على صعيد التأمل بالاتجاهات الممكنة لتطور التكنولوجيّات مستقبلاً، إلا أن «يوتوبيا» تحولت إلى فاتحة نوع أدبي جديد ترافق صعوده مع البدايات الأولى لعصر النهضة، وبلغ ذروته بعد 300 عام تقريباً على ضفاف النظام الرأسمالي الحديث، الذي أعطى البشريّة أملاً بغد أفضل قبل انتكاسة ذاك الأمل بدايات القرن العشرين، مع تفشي الغزوات الاستعماريّة ومآسي الحربين العالميتين، التي أنتجت أعمالاً في غاية التشاؤم حتى وصفت بالدستوبيا - أي نقيض اليوتوبيا - مثل الرواية المقلقة «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي أو «1984» لجورج أورويل.
منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية عام 1945 بما شهدته من قنابل نووية وهولوكوست وموت مدن وضحايا بالملايين، وآلام لا تنتهي ومشاهد فاجعة، بدا أن البشرية قد استوعبت درسها، وبدأت تتجه بثقة إلى أفضل أوقاتها على الإطلاق. فالقوى الكبرى في أوروبا تقاربت، ولم تعد تلجأ للسلاح لحل خلافاتها، وتحوّلت الصين واليابان إلى إمبراطوريات اقتصاد وثقافة، وسقط القطب السوفياتي الذي كان مصدر القلق الأكبر للإمبراطورية الأميركية العظمى، بينما استكملت معظم دول العالم الثالث استقلالها - الشكلي على الأقل -. وفي موازاة ذلك فإن تقدّم العلوم والتكنولوجيا جعل من حياة البشر عموماً أطول، وأكثر أماناً، وأوفر صحة ومنحهم تواصلاً ومعارف غير مسبوقين. ومع ذلك فإن الأدب عموماً خلال الفترة ذاتها، وتحديداً النّوع الروائي الذي يتصوّر شكل المستقبل منه، بدا أنه يعيش في أجواء مختلفة تماماً، تغلب عليها مناخات القلق والتشاؤم والسوداوية بدلاً من التفاؤل بغد أكثر إشراقاً. ولعل زيارة خاطفة إلى أي متجر كتب في الغرب، أو مراجعة سريعة لقوائم أكثرها مبيعاً في الصحف تؤكد غلبة ذلك المزاج الكئيب، سواء في الرّوايات الصّادرة حديثاً مثل «المحطّة الحادية عشرة» لجون ماندل أو «حرب أميركيّة» لعمر العقاد، أو حتى في الكلاسيكيّات المستعادة كـ«1984» لجورج أورويل أو «قصّة خادمة منزل» لمارغريت أتوود. ولا يقتصر الأمر على منظومة تجارة الكتب، بل وتعدتها إلى الجوائز الأدبيّة التي منحت تلك الديستوبيّات أرفع تكريماتها «الأرض المكسورة» لإن كيه جيميسين حصلت على جائزة «هيوغو» 2017، و«القوّة» لناعومي إلديرمان حصلت على جائزة «بيليز» للكتابة النسائيّة 2017. كما وأن أكثر المسلسلات التلفزيونيّة المأخوذة عن أعمال روائيّة رواجاً في العام الحالي كانت «الموتى السائرون» المأخوذة عن سلسلة كوميكس ديستوبيّة بالاسم ذاته، وكذلك «قصّة خادمة منزل» المأخوذة عن رواية أتوود المعروفة.
في الوقت ذاته تصدر روايات يوتوبيّة نادرة منذ «يوتوبيا» توماس مور المؤسّسة (1516)، والأندر منها تلك التي تتحول إلى كلاسيكيّات أدبيّة تنتصر على فخ الزمان، وكان آخرها ربما «حكاية مزارع» لأوكتافيا بتلر التي صدرت بداية التسعينات من القرن الماضي - وهي حتى تنطلق من أجواء ديستوبيّة قبل أن تتقدم أحداثها لتطرح رؤية يوتوبيّة - . فمن الذي سرق منّا اليوتوبيا، ويدفع بنا إلى متاهات قاتمة بشأن ملامح المستقبل؟ ولمصلحة من الترويج للحاضر على هناته بأنه يبقى في المحصلّة أفضل ما يمكن بالنظر إلى الاحتمالات السوداويّة التي تنتظر البشرية على المنعطف التالي؟
تتفاوت تصورات النقّاد الأدبيين في الغرب بشأن تحديد الأسباب الغامضة لغياب اليوتوبيا عن المشهد الروائي باختلاف مرجعياتهم الفكريّة. فالبعض اعتبر ذلك نتاجاً حتمياً لأجواء ما بعد الحداثة التي كسرت كل ثيمات عصر الحداثة الطليعية لمصلحة فضاءات اللاغائية والغم الجمعي والتنبؤات الكئيبة وتشظي الهويّات وانهيار الهرميات الثقافية والاستعانة عن اليقينيات بالإحداثيات المؤقتة العابرة والاغتراب والوحدة وفقدان الأمل والتضاؤل أمام التكنولوجيات، وهي فضاءات شكّلت وعي جيلنا المعاصر، فلا غرابة أن تأتي نتاجاته الأدبية وذائقية قرائه من مادة عصرها لا أكثر. بينما يرى آخرون أن لا شيء يحدث بالصدفة، والتيارات الأدبية والفكرية في محصلتها نتاجات توجهها الطبقات المهيمنة لمصلحتها، التي هي في تعارض حاسم مع أي طروحات أدبيّة قد تتحول إلى تيارات ثقافيّة حول شكل غد أفضل ممكن، لأن تلك الطروحات مهما تنوعت فإنها لا بدّ وستتجه إلى تجاوز مثالب الرأسمالية نحو عالم أكثر عدالة في ظل اشتراكيّة شاملة لا تكاد تختلف كثيراً في إطارها العام عن تصورات «البيان الشيوعي»، وفكرة ديكتاتورية تحالف العمال والفلاحين. ويقول أصحاب هذا التوجه إن المنظومة الرأسمالية منحازة بالمنطقين الموضوعي والعملي إلى الديستوبيا دون اليوتوبيا، بوصف الأولى تمنح التيار العريض من جمهرة القرّاء - والمشاهدين بالطبع عند تحويل تلك الأعمال إلى أفلام سينمائيّة أو مسلسلات تلفزيونيّة - الدّافع اللاواعي للتمسك بالحاضر الذي بكل ما فيه من هيمنة وانعدام عدالة وسوء توزيع للموارد - يبقى وفق تلك الأعمال - جنّة الله في أرضه مقارنة لما يمكن أن تتطور عليه الأمور مستقبلاً، وتغرقهم في مشاعر تجربة الفقد دون أن يعانوا فعلاً من الفقدان لما سوف يرونه بعدها كفردوس لا يريدون الهبوط منه.
وعلى الرّغم أن وجهتي النظر هاتين تفسران معاً أو كلاً على حده شيئاً مما يحدث في المناخ الثقافي الغربي، وبالتبعيّة مصائر الأنواع الأدبيّة، فإن تياراً ثالثاً يرى أن المسألة تقنيّة محضة مرتبطة ببنية العمل اليوتوبي ذاتها قبل أن تكون عرضاً لتحولات المزاج الثقافي. فاليوتوبيا تقوم أساساً على وصف مجتمعات مثاليّة تمكنت أو أُجبرت على حل صراعاتها الأساسيّة، والتفتت إلى تحقيق عدالة مستديمة، الأمر الذي لا يسمح بصياغة توترات دراميّة كافية لتدعيم السّرد الروائي، أقلّه مقارنة بالديستوبيّات التي تبدو محملّة من حيث المبدأ بكل توتر درامي ممكن.
بالطبّع فإن تلك التيّارات النقديّة الثلاث - إن جازت التسمية - التي تبحث أسباب غياب أدب اليوتوبيا المعاصرة تتمحور في مجموعها حول مساءلة الماضي والحاضر الأدبي دون المضي بمحاولة رسمِ مسار مستقبل تلك الأعمال. هل سيكون انتصار الديستوبيا حتمياً وتضمحل اليوتوبيا كعمل أدبي؟ نقاد الأدب لا تصوّر محدد لديهم، لكن عرّافي علم المستقبليّات يصفون العالم غداً بأنه شيء ما لا هو ديستوبيا ولا يوتوبيا، بل تحولات تقنيّة هائلة تجلب معها مشاكلها العويصة غير المعروفة، مما يجعل عالم الغدّ أشبه ما يكون بالحاضر، أو بالماضي حيث هناك دائماً ملامح إيجابيّة في كل تجربة بشرية وأخرى سلبية، وأن التحدي أمام الإنسان سيبقى كما هو الآن وكما كان دائماً: الإبحار بسفينة البشرية بين التيارات المتناقضة للأزمنة.
ربما في مكان ما، هناك على حواف وادي سيليكون في قلب صحراء مستصلحة، يسهر توماس مور معاصر لنا على كومبيوتره النقّال ليكتب الرّواية المؤسسة لأدب جديد يطلق خيال البشرية عن مستقبل عالم قادم الأيّام في نوع أدبي جديد يكون ما بعد اليوتوبيا والديستوبيا معاً. عالم كلما تغيّرت الأشياء فيه فإنها تبقى فعلياً كما هي. وفي الانتظار، لا «يوتوبيا» لنا.