إعلانات

كيهيدي مدينة "تآلف القلوب" (ح2)

ثلاثاء, 19/12/2017 - 14:33

"هويتنا هي التحدي الجوهري" (الرئيس المختار ولد داداه)

بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
كيهيدي الثالثة !

... واندلعت حرب الصحراء فأتت على الأخضر واليابس، وجاء انقلاب العاشر من يوليو بقيادة تحالف أقصى اليمين وأقصى اليسار المتعطشين إلى السلطة والمال متحالفين مع العدو الصحراوي وبعض دول الجوار التي تؤويه، ومستفيدين من تواطؤ وصمت بعض الدول الكبرى.
حاول المنقلبون التماس شرعية فعلهم من ضرورة إخراج موريتانيا من حرب خاسرة قد أنهكتها؛ ولكن الحصيلة النهائية للانقلاب كانت وبالا على موريتانيا. ذلك أن أضراره ومفاسده تجاوزت بكثير جميع أضرار ومفاسد الحرب، ولم تنه الحرب. ولقد حان وقت المكاشفة والحديث بصراحة عن حصيلة تلك المغامرة؛ إذ أصبح الحدث جزءا من التاريخ (مرت عليه أربعون سنة) وانتقل معظم صانعيه إلى جوار ربهم دون أن تعرف أجيالنا ما له وما عليه، وتستخلص منه الدروس والعبر حتى لا نركع مرة أخرى !
ويمكن تلخيص نتائج ذلك الانقلاب في :
* اختطاف الجيش الوطني، وتحويله من جيش جمهوري يحمي الوطن والدولة، إلى جيش عشائري منهزم يوجه أسلحته إلى دولته ووطنه وقادته، وإلى بعضه البعض دفاعا عن العشائر وأعداء الوطن والمفسدين.
* التفريط في حقوقنا ومكاسبنا في الصحراء وتكريس عبودية وتبعية البيظان من صحراويين وموريتانيين غرر بهم باسم القبيلة لدول الجوار، ورهن مستقبلهم لها مقابل شعارات زائفة ودراهم ودنانير معدودة. وقد كادت موريتانيا أن تؤول إلى نفس المصير لولا إباؤها وشجاعة أبنائها الأبطال الذين قادوا انتفاضتي 16 مارس 1981 و12 /12/ 1984.
* دك الأسس التي بنيت عليها الدولة الموريتانية؛ وخاصة :
ـ احترام المال العام والفصل بين السلطة والمال.
ـ احترام القانون ومساواة الجميع أمامه.
ـ صيانة الوحدة الوطنية.
​ورغم ما لهذه الأركان الثلاثة التي قامت عليها الدولة الموريتانية من أهمية قصوى، فإن ركن الوحدة الوطنية فيها بمثابة القلب في الجسم. يقول الرئيس المختار ولد داداه (رحمه الله) في كتابه متحدثا عن أولوية الوحدة الوطنية وعن ثنائية الأصول العرقية الثقافية لسكان موريتانيا : "فثنائية الأصول هذه حقيقة لا يمكن لأي قائد موريتاني أن يغيبها أو يتجاهلها دون أن يعرض وجود البلد نفسه لأخطار جسيمة. وتعد معرفة المسؤولين الموريتانيين لها واعترافهم بها من الأمور الضرورية لبناء الوطن الموريتاني على أسس مكينة".
ويستشهد في ذلك بقول بديع لأحد شيوخنا الحكماء : "إن موريتانيا بسكانها السود والبيض شبيهة بالعين؛ والعين لا تؤدي وظائفها على ما يرام إلا إذا سلم سوادها وبياضها. ثم إن سواد العين وبياضها عنصران متلازمان لا يتأتى فصلهما ولا ينبغي التفريق بينهما بحال من الأحوال". (موريتانيا على درب التحديات، ص 149 ـ 150).
​لقد أصبحت البلاد غداة انقلاب يوليو في أيد غير أمينة وغير مسؤولة ضحت بمصالح الوطن في سبيل البقاء في السلطة والاستحواذ على المزيد من الامتيازات، فتبنت في سبيل ذلك سنة 1979 نظاما تربويا يزرع الفتنة والفصل العرقي بين الأجيال، وأخذت بسياسة الاعتماد في الحكم على الفصائل العنصرية المتطرفة وضرب بعضها ببعض؛ الشيء الذي أشعل نيران الفتن في المجتمع فكانت محاولة انقلاب 1987 وما تلاها من فتن وتصفيات عرقية فظيعة أودت باللحمة الاجتماعية وبأواصر الأخوة ووشائج القربى ومزقت عرى العقيدة والتاريخ والجوار فحلت بنا وبجارتنا الشقيقة (السنغال) كارثة 1989 - 1990 التي حصدت آلاف الضحايا وشردت عشرات - بل مئات- الآلاف، وفاقت خسائرها المادية مئات مليارات الأوقية. حلت كارثة في الأرواح والممتلكات بالبيظان؛ وخاصة من سكان ولايات الترارزة والبراكنة والعصابة الذين كانوا يسيطرون على التجارة وبعض الخدمات في السنغال، والذين ضحى بهم النظام فلم يقدم لهم أي حماية أو تعويض بسبب ما لمسه في تلك الأحداث من كسر شوكتهم وتقليل وزنهم الاقتصادي والاجتماعي في البلاد بعد أن كانوا سادتها. كما حلت كارثة بالمواطنين السنغاليين في موريتانيا، وكذلك السنغاليون من أصول موريتانية؛ فقد تعرضوا في موريتانيا والسنغال للقتل والنهب والتسفير. لكن الضرر الأبرز والأفدح هو ذلك الذي تعرض له المكون الإفريقي في المجتمع الموريتاني حين استهدف من طرف بعض الفئات الاجتماعية الغافلة وبعض أجهزة الدولة، فشاع فيه القتل والنهب والتسفير، وتمت تصفية بعض المنتمين إليه عرقيا من بعض أسلاك الدولة.
فبسبب تلك الفتنة التي دبرها النظامان الحاكمان في السنغال وموريتانيا ضد شعبي البلدين الشقيقين نزلت مصائب لا تحصى ولا تعد لم تكترث لها سلطات البلدين ولم تهتم بجبرها يومئذ؛ بيد أن أفدح أضرار تلك الفتنة هو ما حاق بالوحدة الوطنية بين المكونات العرقية في موريتانيا؛ إذ حلت المواجهة والصراع محل الوحدة والوئام، وأصبح النظام طرفا في ذلك الصراع بدل أن يكون حكما.
كان لا بد إذن من كيهيدي ثالثة تنهي ذلك الوضع الشاذ وتعيد مياه الوحدة الوطنية إلى مجاريها. لقد دافع بعض المثقفين - وخاصة من مكونة- البيظان عن الوحدة الوطنية، وقاوموا العنصرية والظلم؛ وفي مقدمتهم لفيف المحامين الذين تعهدوا لأرامل ويتامى التصفية العرقية في الجيش، وبدأت بعض الأحزاب المعارضة تتشكل وتتخذ مواقف شجاعة وتستقطب كافة المكونات الاجتماعية مثل حزب اتحاد القوى الديمقراطية. وظلت حنجرتا المطربتين الكبيرتين المعلومة ومنينه ابنتي الميداح تصدحان بنشيد :

نحنا يالداير همنا ** واتگول انك تبغينا

بـــونا آدم وامنــا ** حـــواء امســـلمينا.

وهو من كلماتي.

ولكن الدولة ظلت تتخذ منحى آخر !
في رسالة مفتوحة بعنوان "حتى لا نركع مرة أخرى" وجهتها غداة زلزال 8 يونيو 2003 إلى من يهمهم الأمر طالبت - من بين خارطة طريق مفصلة- بحوار عاجل يكون من بين بنوده في إطار "تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية" القيام بـ"تقديم الاعتذار باسم كافة المجتمع إلى ضحايا العهد الاستثنائي؛ وخاصة ضحايا 1990 والتعويض لهم أو لذويهم بصورة عادلة".
لقد أسمعتُ لو ناديتُ حيا ** ولكن لا حياة لمن أنادي !
وتم رفع التحدي فجر 3 أغسطس 2005.
وجرى الحوار الوطني الذي دعوت له. وتبنى الحلول التي اقترحت في ذلك المقال / الرسالة. وتمت خطوات طيبة في الاتجاه الصحيح. ولكن كيهيدي ثالثة ظلت شَموسا عصية على الساحة الوطنية تنتظر عاشقا يقدم حمر النعم مهرا لها..
... وجاء الرئيس محمد ولد عبد العزيز ! فأخذ القوس باريها..
خمسة قرارات اتخذها الرجل أخمدت نار الفتنة، ورأبت صدع المجتمع، وجددت شباب الوحدة الوطنية؛ رغم أنف الحاقدين والمبطلين :
* التوجه إلى كيهيدي..
* إقامة صلاة الغائب على أرواح الشهداء.
* تقديم الاعتذار باسم الأمة المتصالحة لذوي الشهداء وللضحايا.
* التعويض العادل للضحايا وذويهم. 
* تنظيم عودة كريمة للمبعدين إلى وطنهم.
يومها نهضنا من كبوتنا، وزرعنا التفاؤل والأمل، وفتحنا آفاق المستقبل الوضاء؛ أولسنا إخوة في الدين والوطن والتاريخ؟
يقول توماس أديسون : سقوط الإنسان ليس فشلا، ولكن الفشل أن يبقى حيث سقط.

يتبع