انتهينا ـ في وقفتنا السابقة ـ إلى أنه لم يأْتِ حِينٌ من الدهر ليتَّسِق الكيان، في قِوامٍ وطني، يتعزز فيه الإيمان بالجماعة، ويَرْسَخ التعلق بالرموز العامة، ويشتد النزوع إلى تحقيق الأهداف، ويقوى وازع الوطنية واحترام القانون؛ حتى إذا ما أوشكت الدولة أن تتجاوز طور البلوغ (18سنة) ـ توَلَّى أمرها أولو البأس؛ مُحاوِلِين حَمْلَها على ولاء الطاعة والقبول؛ وهي محاولة لا تَسُوغ إلا بمواءمة السائد في الاعتقاد، ومراعاة صيغ الوجود الاجتماعي.
ولعل رَتْق تاريخ هذا الكيان، في أنماط أنظمته السياسية وصيغ وجوده الاجتماعي
باختزال العهد الاستعماري، أهَمُّ في الوشاية بما تهيأ له من إمكان الاستظلال، بحكم يُظِلُّ سائر أقاليمه؛ ودونما رَيْبٍ، فإن مُسْتجْلِيَ ذلك التاريخ لن يعزب عنه أن الوعي الجمعي لهؤلاء القوم كان مُتَشِّكلا وِفْق ما يحدد أوصاف من يوكل إليه الأمر العام، أنه ـ في أغلب الأحيان ـ مُتغلِّبٌ تجب طاعته، ودون التغلب ـ في الإمكان ـ التهيُّؤُ، حيث الميل إلى الانتظام؛ وذلك مسوغ أن ينصب، ولوكان مفضولا.
لم تَلْبَث الأهلية ـ في أوصاف وشروط حاكم قومنا أولاء الذين وصفهم بعض ثاقبي النظر مِمَّن نظَّروا لأحوالهم السياسية، أنهم “أشباه ناس” ـ أن تشكلت، محكومة بالخنوع واستسهال الرضوخ؛ فإلى اعتقادهم بوجوب طاعة المُتغَلِّب، وتَعَيُّن نَصْب شيخ أو إمام، حتى ولو كان مفضولا، كانت مقولة طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله؛ تَعزَّزَ هذا المنحى، مُعَضَّدا ومُعْتمِدا مقولات أُخَر من مثل: سدِّ الذرائع، ودَرْء الشبهات في المُلْبِس من الأمور، وارتكاب أخف الضررين.
تَشَكَّل ـ إذن ـ وعْيُنا صيغةَ الانتظام الجماعي ـ خارج دائرة القبيلة ـ وفاقا مع انْدِياح فضاء رَحْبٍ نتعاطى الانتماء إليه، في مستوى ثانٍ من مستويات الانتماء، تعاطيا أو إحساسا لا تؤطره خبرة متراكمة في فقه السياسة؛ بقدرما توجه وتحدد طابعه سياسة فقه لم تأْتِ صياغة نوازله بمراعاة الخصوصية الظرفية؛ وإنما هي تنزيل أحكام عامة، يَنِدُّ عن بعض اقتضاءاتها مقتضى لأحكام وجزئيات أخرى، تتطلب نظرا فقهيا يراعي تَفهُّم المستجد من ملابساتها، دون هاجس الطاعة العمياء.
ما يبدو لنا هو الحاجة إلى فقهاء السياسة، وليس سياسة الفقهاء؛ إذا ما ظل هم هذه الأوحد هو التكفُّل بالخطاب التسويغي، وتكرار المسوغات ذاتها، وإعادة إنتاج الدوافع والمحاذير، بإسباغ شرعية العدل والاستبداد، أو التغيير في ظل الاستقرار، أو حماية الذاكرة الجماعية وتجديد الفاعلين؛ لا يختلف في الشعارات إلا البريق الظرفي؛ وتبقى حلية التحسين هي هي؛ ويبقى تكييف وتسويغ المُمَكِّنين هو هو؛ غير مُراعٍ أيَّ اختلاف، في الزمان، ولا مُكْتنِفات الفعل.
أما فِعْل أولي البأس ومراعاة صِيَغ الوجود الاجتماعي، فهي ما أبغي تناوله في الوقفة التالية ـ بحول الله وقوته.