تتساوى مخترعات الإنسان و ضرورات بقائه التى وُلدت معه لأجـْــــــله ،في تعادُل موجِبـــها و سالِــبها لـيَبْقى فِعْلُه مُرجِّحا، بل محددا لطبيعة الإستغلال أو الإستعمال أو التصرف بها : من لسانه ويده إلى النار والنور والشوك و الحلاوة و المرارة والطعام والضحك والذَّرة والكهرباء و الماء القراح....
وقد عاش هذا الكائن المُكرَّم قادحا ومادحا :مفسرا لهذه المنظومة
ذات المسارين اللذيْن لا ثالث لهما، وإن كان بتَمَرُّدِهِ الجِبلِّيِّ قد حاول اختراع البرزخ ليفلت من حتمية" الموقف" و الوقوف في إحدى الخانتين، ولكنه عَبَـَّـرَ بــه ،فقط ، عن حالة متأصلة فيه ،هي "النفاق" وأسميه (برزخ)النفوس المريضة، ولأنه منزلة عبور لا استقرار ، فإن حكم الجاذبية يقتضي إماَّ "هداية" صاحبه وانحيازه الحتمي إلي القطب الموجب و سكانه الأخيار، وإما "الإنحياز"الحتمي إلى النقيض" والإنضمام إلى القطب السالب... وهذه الحالة البرزخية مَعْبَر يـَمُرًُمنه و به الإنسان حتما فى امتحان أزلي للإرادة، فلنتأمل الحديث النبوي الشريف:
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنـه قال حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو الصادق المصدوق ( إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفه ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغه مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وٍأجله وعمله وشقي أم سعيد فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) رواه البخاري ..
وعكسا لما يراه المهزوزون إيمانا من تشكيك فى ضرورة الإمتثال والإجتناب لأن المصائر محددة سلفا، كما يزعمون، فإن الثنائية "تدفع" إلى "القصد" والمغريات توغر الصدور "بالتردد"، فتتحدد المصائر فى الخواتيم ب"الإرادة" والإستمرار الذي هو "الدفع" أو "التدافع"، كما جلاه الحديث الشريف.
تأسيسا عليه فإن "التواصل" بأدواته المختلفة من الإيماء، أو الوَمْءِ، إلى الكلام فالكتابة فالبندير، والمُبَلِّغ "البرَّاح" ، ومنبرالخطاب والقوال والكتّاب و الجريدة فالإذاعة والمرناة ، وغيرها مجرد أدوات للتواصل بين الناس ؛أصلها الإيجاب ،لأن الخير أَوْلَى، ولكن الإنسان قد يعمل بها حتى لا يبقى بينه وبين حصيلتها النافعة إلا مقدارقليل فيسبق عليه "القول" بإرادته فتجرفه "الأمارة بالسوء" فيمر، حتما ،ببرزخ المصير"الموصل" إلى مآله.
والعكس بالعكس.
وهذا ما يحدث الآن مع الوسيلة الأحدث "شبكة التواصل الدولي" و أدواتها من "الرق"(رسالة قصيرة sms)إلى "التغريدة"twit) )ف"صفيحة الوجه"(facebook).. والأخيرة (إسمها حظاها)فبغض النظر عن الترجمة المباشرة، فإن مدلول صفيحة الوجه فى عبقرية لغتنا العظيمة أنها ناطقة بحقائق صاحبها ،ولو لم يتكلم، وعبقرية "الحسانية" فى قولنا:(الوجه أَقْصَفُ من أن يُدَرِّق شيئاً)، فكيف به إذا تكلم وأعرب و أغرب و قال و تقَوَّل، وشاهده وسمع قوله و تقوله سكان المعمورة بلغاتهم المختلفة و مدركاتهم المتفاوتة وأغراضهم المتنافرة ؟؟
إن طبائع الشعوب ميَّزتْ كل أمة بخواص لا تشترك مع غيرها فيها إلا نادراً:
فتجد شعوبا تمجد الكلام وتعتبر القول قمة التفوق الإنساني تنفق وقتها فيه فعلاً
وانفعالا ،وتشترك في هذه الخاصية شعوب المتوسط من نقاشات "بـــــيزنـــطة" إلى معلقات الجاهليين و سجع الكهان عند "العرب"
وهناك شعوب تشترك في الصمت منها أهل آسيا الوسطى و الشرقية،ومنهم المنهمكون فى التأمل حتى غدا حاجة في حد ذاته، رغم كونه ،فى الأصل ،وسيلة للمعرفة. ومنهم من يعتبر القول ميزة لِخاصّة
مُبْتلاة ، لا مختارة ، لأن القول رغم مُتْعَته ، هو ذنبٌ و خطيئة ، والسكوت فضيلة كالأكل، لا يمارسهما إلا النبلاء، ولتختصمْ العامة كما شاءتْ و شاءتْ لها أرواح الأجداد التي هي جهة الجزاء و العقوبة عند "البانتو".
مربط الفرس وجُمّاعُ القول أننا ،و نحن من الشعوب المتوسطية شغفاً بالقول ومن الشعوب الإفريقية المبُتـلاة بالقول،قد وجدنا في المخترعات الجديدة "فتحا" مبينا لممارسة "القول" فى حده الأدنى و"التقوًُل"،الذي لا حدود له.
وقد يسر هذا الدفق الهائل من موجبات التقول تسرب الولد والبنت من حضن العائلة و رعايتها ،إلى الكثير من الأحضان بباردها و ساخنها بغريبها و قريبها ..
وبلغ السَّــقْيُ (أَساقـَـه)بين النساء، عندنا، وحتى بين الرجال مبلغا،لم يصله عندما كانت حدود بثه الجيران في الفريق او المخيم أو الحي في المدينة، كما تحول حديث البيوت المكتوم إلى مناشير توزع ،لحظتَها،على العامة .
وقد تحولت خصومات الأسر من سر عائلي إلى قضايا إعلامية تلوكها الألسن وتعيث في الأعراض بالأغراض.
ولكنه،وتلك حسنة، أفرغ الصالونات العائلية من الرواد و سمح بالإنتقال السلس إلى المقاهي و النوادي و يسر تبادل المعلومات وتلاقح الأفكار وأتاح مساحة كبرى للتفاهم وإشاعة الحوار والمحاورة وأشاع الحرية ويكاد يلامسُ المسكوت عنه. و تلك محطة عندها سينكأ جراحا و يفتح براحا و يغسل ألواحا ويستل سلاحاً ويزهق أرواحاً و" يُشَـيْتِــكُ "مــــراحا....
إنه - إذًا - مدماك فى صرح البناء ،إن وُجدَ البنـَّـاء، ومعـــولُ هدم، إن عُدِم.
و"الحُــــــــرية الجميلة" شوهاء شمطاء إن عَدِمتْ المشروع الحضاري الجامع و السلك الأخلاقي الناظم....
*شَـــــــذَراتٌ للتــَّـــأمّل :
ــ لا تسمح الحرية في فرنسا أم الثورة بنقاش تاريخ اليهود إلاّبالمدح والثناء و الرثاء،ولكنها تسمح بنكران وجود الله وأنبيائه و رسله.
ــ لا يسمح القانون الفرنسي بالطعن في اللغة الفرنسية كلغة وحيدة للدولة والشعب الفرنسيين حصريا، رغم وجود لغات عريقة عديدة وشعوب غير فرنسية كالباسك، البروفنسال، الألزاس ، البريتون، والكورسيكيين، فضلا عن ما وراء البحار.
ــ تحت قبة البرلمان لا يستطيع مشرع أن يتلفظ بغير لغة الغال.
فَتَأَمَّلْ!!!