إعلانات

إمارة الترارزة ودورها فى مقاومة التوسع الفرنسي فى المنطقة خلال القرنين 19 و 20

أربعاء, 31/12/2025 - 03:54

محمد المختار ولد السعد

 

تعتبر إمارة الترارزة بوابة البلاد البحرية، إذ تطل على المحيط الأطلسي بساحل يناهز 600 كلم، وعلى الضفة اليمنى لنهر السينغال بمسافة تربو على 200 كلم.

وقد جعلها هذا الموقع الاستراتيجي المتميز تدخل مبكرًا فى علاقات مع الأوربيين ظلت تتأرجح بين السلم والحرب حتى الاحتلال الفرنسي للبلاد فى مطلع القرن العشرين. كما مكنها هذا الموقع من التحكم فى مراكز التبادل الأطلسية وثلاثة من أهم المراكز النهرية التى تصارعت عليها القوى الأوربية طويلا للاستئثار بتجارة العلك.

ونتيجة لهذه الوضعية الجيوبولتيكية الخاصة، تعرضت إمارة الترارزة مبكرًا لعمليات التغلغل الاقتصادي فالسياسي الأوربي عموما، والفرنسي خصوصًا، لا سيما منذ مطلع القرن 19 حيث بدأ التوسع الأوربي فيما وراء البحار بعد نهاية الحروب النابليونية فى 1815، وتمركزَ أولى الولاة الفرنسيين فى مدينة سان لويس السينغالية حالين محل مدراء الشركات التجارية الملكية.

وكانت إمارة الترارزة القوة السياسية الوحيدة على الضفة اليمنى للنهر التى تصدت بالقوة منذ مطلع القرن 19 لأطماع الفرنسيين فى الضفة اليسرى ونازعتهم السيادة عليها؛ لما كان للتوسع في تلك المنطقة من إضرار بمصالحها الاقتصادية والسياسية وروابطها الاجتماعية المتعددة الأوجه معها.

وقبل الحديث عن دور الترارزة فى مقاومة التوسع الفرنسي فى المنطقة خلال القرنين الماضيين، ينبغى التذكير – باقتضاب – بدواعى وتجليات السياسة التوسعية الفرنسية فى حوض نهر السينغال خلال القرن 19 حتى نضع الحدث فى سياقه التاريخي العام الذى يُمكِّن من فهم أبعاده وغاياته الكبرى.

 

  •  دواعى وتجليات السياسة التوسعية الفرنسية فى حوض النهر خلال القرن 19:

 

شكلت إفريقيا المكان المفضل لسياسة فرنسا التوسعية التى جاءت لتعويض خسارة مستعمراتها الزراعية فى العالم الجديد، وإفلاس صناعاتها النسيجية فى الهند، وفشلها فى الأخذ بنصيب من تركة الرجل المريض. وجاء تردِّى الأوضاع الاقتصادية والسياسية فى فرنسا الثورة والإمبراطورية ليعطى دفعاً لنزعتها التوسعية.

ويكفى أن نتذكر أن التفكير فى تحويل مستعمرة السينغال من مركز تجاري إلى مستعمـرة زراعية قد جاء إثر اندلاع الانتفاضات فى سان دومينيك سنة 1791، ليتقرر ذلك المبدأ منذ 1797[1] وتَحُولُ حروب الثورة والإمبراطورية دون الشروع فى تنفيذه حتى 1817.

وكان استيلاء البرجوازية التجارية على الحكم فى فرنسا مع ثورة 1830[2] وسعيها للأخذ بنصيب من تركة الرجل المريض، وأطماع لوبي مارسيليا التجارية والسياسية فى الواجهة الأخرى للمتوسط، والبحث عن سند خارجي لإنقاذ عرش آل بوربون المتداعي وحكومة بولينياك  Polignacالمهزوزة داخلياً وراء احتلال الجزائر فى 1830. كما أن فشل سياسات حكومة لويس فيليب Louis Philippe(1830-1848) المتوسطية والمصرية قد أعطى دفعاً قوياً لاحتلال الجزائر والتغلغل فى حوض نهر السينغال والعمل على الربط بين تينك المستعمرتين.

ويكفى فى هذا المقام أن نومئ إلى حملات بيجو Bugeaud[3] العنيفة التى انتهت باستسلام الأمير عبد القادر فى 1847، وجهود فيديرب Faidherbe للتغلغل فى التخوم الصحراوية[4]، وعمل الوالي  بُوَّى وِيُّومِيزْ Bouët-Willaumez على اكتشاف أعالي نهر السينغال وإيجاد روابط صحراوية بين الجـزائر والسينغال انطلاقاً من خطته الرامية إلى «مهاجمة إفريقيا فى آن واحد من الغرب ومن الشمال، ومن الأجنحة والرأس»[5].

وترك إفلاس سياسة الإمبراطورية الثانـية (1851-1870) فى أوربا وانشغالها بالحرب ضد آلمانيا ومخلفاتها، أثره البالغ على سياسة فرنسا التوسعية فى إفريقيا. وكانت الحاجة إلى تناسى هزيمة سـيدان[6]Sedan، وتعويض خسارة الألزاس واللُّورين[7]، وإغراءات بسمارك Bismarck(1815-1898) لها بالتوسع فى إفريقيا، أهم دواعى انطلاقة التوسع الفرنسي الحثيث فى ظلِّ الجمهورية الثالثة (1870-1940)، ولاسيما منذ عهد جيل فيري Jules Ferry (1885-1879) الذى ظهر مخططه الاستعماري لأول مرة ضمن مقدمته لكتاب قضايا تونس Affaires de Tunisie الصادر فى يناير 1882[8].

ووجدت السياسة التوسعية الفرنسية تجلياتها الواضحة فى الحوض الأسفل لنهر السينغال منذ نهاية الحروب النابليونية واستعادة السينغال من الإنجليز سنة 1817، فى وقت أحكم الترارزة قبضتهم على مصبِّ النهر، وتشعبت علاقاتهم مع "والو" وانضاف لأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التقليدية بعد استراتيجي أملته طبيعة الحضور الفرنسي فى المنطقة وتأرجح علاقاتهم مع الترارزة.

وكان مشروع إنشاء مستعمرة زراعية فى "والو"، ومناهضة التبادل مع الإنجليز فى بورتانديك، والتدخل فى شؤون الإمارات الداخلية وفى علاقاتها مع ممالك الضفة اليسرى، وإقصاء البيضان من تلك الضفة، أهم تجليات السياسة الاستعمارية الفرنسية فى حوض نهر السينغال، ومصدر الصراعات والحروب المتكررة مع جيرانهم الشماليين وخاصة الترارزة الذين اكتووا أكثر من غيرهم بنيرانها وحملوا لواء التصدى لتلك السياسة منذ إرهاصاتها الأولى المتمثلة فى مشروع الاستعمار الزراعي(1818-1831)، وحرب زواج الأمير محمد الحبيب من اجَّمبت وصية عرش "والو"(1833-1835).

وكان على محمد الحبيب (1829-1860) بالذات أن يتصدى لأكثر مظاهر تلك السياسة عتواً وجبروتاً، وأمضى أسلحتها وأشدها فتكاً وتدميراً خلال حربه مع ممثلها العنيف فيديرب Faidherbe ما بين 1855-1858.

وسنحاول فيما يلى أن نفصل القول قليلاً فى ردود فعل السلطة السياسية التروزية على التوسع الفرنسي فى مصبِّ النهر خلال القرن التاسع عشر.

 

ب. الترارزة والتصدى للتوسع الفرنسي فى المنطقة خلال القرن التاسع عشر:

تزامنت عودة الفرنسيين الأخيرة إلى السينغال بعد انتهاء الحروب النابليونية، مع أوج أزمة الخلافة على العـرش فى إمارة الترارزة بين الأمير أعمر بن المختار (1800-1829) وامحمد بن أعلى الكوري (ت. 1826)، ومع ذلك فقد تصدوا للسياسة التوسعية الفرنسية فى المنطقة فى سلسلة من الحروب كانت أولاها حرب الاستعمار الزراعي.

 

  1. أعمر بن المختار وإفشال مشروع الاستعمار الزراعي فى والو:

لم يكد الوالي الفرنسي اشمالتز يستعيد قلعة سين لويس في 17 يناير 1817 حتى شرع في دراسة إقامة مستعمرة زراعية في منطقة النهر لتعويض خسائر فرنسا في جزر الأنتيل وتوفير مصدر اقتصادي عوضًا عن تجارة الرقيق. وبعد أن أتم وضع تصوره النظري للموضوع، وأحاله إلى البارون بورتال Baron Portal وزير البحرية والمستعمرات الذي سيصادق عليه رسميا في 1818، حاول كسب بعض زعماء المنطقة لمشروعه ولاسيما ملوك الضفة اليسرى التي ستقام فيها المزارع. وهكذا بادر في يوليو 1817 إلى إجراء مفاوضات مع المامي يوسف زعيم فوته التي كان مقررًا أن يقام هذا المشروع على أرضها (خاصة منطقة تورو)، وأبدى المامي يوسف استعداده إلا أن وفاته في تلك الأثناء ونزعة تورو الانفصالية قد حالتا دون ذلك، فما كان من اشمالتز إلا أن حول اهتمامه نحو والو وأبرم اتفاقية مع ملكه أعمر فاتيم امبرسو Amar Fatim M’Borso ووجهاء قومه تنازلوا له فيها عن الأراضي التي يريد إقامة المستعمرة عليها (دكَانه وريشارتول والأماكن المحيطة بها أساسًا) مقابل ضرائب عرفية جديدة (8.000 فرنك) وحماية "والو" من الترارزة[9]. وأشفع اشمالتز تلك الاتفاقية باتفاقيتين مع أمير البراكنة أحمدو بن سيدي اعلي وشيخ إيدوالحاج محمد آغربط على التوالي في 20 مايو 1819 و 30 يونيو 1819 لضمان أكبر حظوظ النجاح لمشروع الاستعمار الزراعي ـ بحكم جوارهما المباشر لمنطقته – وذلك تحسبًا لمعارضة الترارزة له التي كان هذا الوالي يتوجس منها في الواقع خيفة ويتظاهر بتجاهلها كما هو واضح من رسالة إلى الوزير يقول فيها: «لا أعرف ما إذا كان بوسعهم [الترارزة]، وهم في الوضع الذي هم فيه[10]، الإقدام على أعمال عدائية، لكنه سوف يكون من السهل في تلك الحالة القضاء عليهم أو طردهم من البلد، وهو أمر لعمري عظيم الفائدة»[11].

وخلافا لتوقعات اشمالتز لم يكد الترارزة يأخذون علما باتفاقية 8 مايو 1819 حتى أعلنوا معارضتهم لها وشنوا حربًا على "والو" جرح فيها الملك ووزيره وقتل العديد من رجاله وخرب مجموع أراضي «والو» ما عدا ثلاث أو أربع قرى على مشارف سين لويس حمتها السفن والمدفعية الفرنسية[12]، معربين(أي الترارزة) بذلك عن استيائهم لتجاهل اشمالتز لسيادتهم السياسية الفعلية على "والو" وتَجَرُّؤُ ملكه على توقيع تلك الاتفاقية دون إذنهم، بل واعتماده عليها في عدم دفع مغرمه التقليدي للترارزة البالغ 100 ثور سنويا أو قيمتها التي قدرها الفرنسيون وقتها ب 4.000 فرنك[13].

ولم يتعلل أعمر بن المختار في رفضه للمشروع بنفوذ الترارزة السياسي على "والو" ولا بتجسيده المادي(المغرم) فحسب، وإنما بملكية الأسرة الأميرية نفسها لـ«دكَانه» مركز المستعمرة الزراعية حيث يقول في رسالة وصلت سين لويس في 14 مايو 1821 موجهة إلى لكوبي Le Coupé خلف اشمالتز يستعرض فيها أسباب نزاعه مع هذا الأخير، ما نصه: «ودكَانه قرية لأهل محمد بابانه[14]لا تباع ولا تعار»[15]. وفي تلك الأثناء عمد الوالي إلى تعميق الهوة داخل الترارزة المتصارعين على السلطة وذلك بتوقيعه في 15 نوفمبر 1819 اتفاقية مشتركة بين امحمد بن اعلي الكوري وأهل "والو" يتنازل بموجبها عن حقوق الترارزة التاريخية في «والو» ويعترف بالسيادة الفرنسية عليها مقابل تحالف الطرفين ضد الأمير أعمر ولد المختار ومدِّ الفرنسيين لهما يد المساعدة. غير أن ذلك الحلف لم يفلح في تحقيق أهدافه ولم يثن أعمر بن المختار عن قصده المتمثل في إفشال المشروع الزراعي حيث واصل هجماته على الفرنسيين وحلفائهم ونجح ابتداء من 19 فبراير 1820 في إقامة حلف واسع ضد "والو" والفرنسيين، لكل طرف منه دوافعه الخاصة، ضم ملك كايور وأمير البراكنة (أحمدو بن سيدي اعلي) وزعيم تورو (المامي ببكر)[16]. وقد استولى هذا الحلف في 5 من مارس 1820 على عاصمة "والو" ووصلت هجماته إلى مشارف سين لويس.

وهكذا أوقد اشمالتز حربا شلت الحياة في دلتا النهر لم يكن بمقدوره إطفاء لهيبها، مما جعل وزير البحرية والمستعمرات يتحامل عليه ويحمله مسؤولية فشل مشروع الاستعمار الزراعي[17]، فأقيل من منصبه في 3 من يوليو 1820 ليعين مكانه النقيب البحري لكوبي Le Coupé الذي أُمر رسميا بالعمل على تحقيق السلام مع الترارزة بالطرق السلمية[18]

وإذا كان هذا الإجراء، في حدِّ ذاته، يعتبر اعترافا ضمنيًا بدور الترارزة في إحباط المشروع الزراعي، فإن الفرنسيين قد اعترفوا بذلك الدور صراحة وبنفوذ الترارزة في والو حيث يقول "لكوبي" في تقرير له إلى الوزير بتاريخ 27 إبريل 1820 ما نصه: «يشكل بيضان الترارزة ـ بدون شك ـ عقبة أمام تنفيذ مخطط الاستعمار الزراعي، فقد غضبوا، بحكم سيادتهم شبه التامة على «والو»، من كون ملكه قد تجرأ على التنازل لنا عن حقوقه بدون رضي منهم، وللانتقام منه أعلنوا عليه الحرب»[19].

وقد ذكر هذا الوالي في تقرير آخر إلى الوزير بتاريخ 17 مارس 1821 أنه لم يتوصل إلى شيء بعد يومين من المفاوضات مع الترارزة عند تكشكمبه[Le Desert عند الفرنسيين] في فبراير 1821 سبقتها سلسلة من المراسلات والوساطات، جراء ما أسماه شروطهم اللامعقولة للسلام والتي حصرها في ثلاثة شروط رئيسية:

  • التأكيد على حقوقهم في "والو" وعدم استعدادهم للتنازل عنها
  • المطالبة بتحطيم منشآت الاستعمار الزراعي بكل بساطة
  • التفاوض مع أمير الترارزة بشأن أية مشاريع مقبلة في المنطقة بحكم سيادته عليها[20].

وعبر الوالي في الأخير عن قلقه بشأن المستعمرة، بل إنه أخبر في اليوم نفسه أحد الضباط الفرنسيين السامين في كَوْرَي برغبته في استخدام القوة ضد الترارزة، معتقدًا أن 800 رجل كافية لدحرهم عقابا لهم على ما قابلوه به من «الرفض والكبرياء والتعالي، بل والإهانة»[21].

وفجأة تتمكن مجموعة من وسطاء سين لويس بزعامة المولد بلكريه Pellegrin، بفضل علاقاته الشخصية مع الأمير ـ ولاسيما مع محمد فال بن عمير النافذ وقتها في الترارزة ـ من إقناع أعمر بن المختار بالحضور إلى سين لويس حيث تم التوقيع على اتفاقية سلام في 7 من يونيو 1821 تلغي اتفاقية 15 نوفمبر 1819 وتنص مادتها الثانية على اعتراف الوالي بسيادة الترارزة الفعلية على والو ورغبته في شراء حق استخدام أراضيه، في حين منحت مادتيها الثالثة والرابعة للفرنسيين حق الزراعة والبناء على الضفتين اليسري واليمنى مقابل «جزية» جديدة والتزام الترارزة بضمان الأمن والاستقرار فيها[22].

وقد أشفع هذا الاتفاق باتفاقية أخرى في 21 يونيو من السنة نفسها يلتزم فيها الوالي بتولى دفع مغرم المائة ثور سنويًا التي كان "براك" والو يقدمها للترارزة، واعتبر باري ببكر[23] أن تلك الاتفاقية «تجسد اعتراف فرنسا بسيادة الترارزة على ذلك البلد».

وتعكس الفقرة التالية من رسالة من أعمر بن المختار إلى الوالي الفرنسي كتبت أثناء المفاوضات التي سبقت الاتفاقيتين السابقتين مدى تشبث الترارزة بحقهم على "والو" حين يقول: «...بيّنا لهم [أي رسل الوالي] أن ما طلبت منا في كتابك الذي أرسلت معهم لا يمكن فينا وإنما يمكن فينا الصلح على ما يقع عليه الصلح بيننا في الزمن الأول، فاترك الحالة على ما كانت عليه فإن مغرم شَمَامَ لا يباع بشيء من الدنيا»[24].

وما كادت وطأة الصراع التروزي ـ الفرنسي المتولد عن مشروع الاستعمار الزراعي تخف بموجب اتفاقية 7 يونيو1821 حتى نشبت خلافات جديدة أقوى وأقوم قيلاً بسبب محاولات صَدِّ الترارزة عن التبادل مع الإنجليز فى بورتانديك وما تولد عنها من حروب أهلية وقف فيها الفرنسيون بكل ثقلهم إلى جانب ابن أعلي الكوري وأنصاره.

 وحسبنا خوضًا فى ملابسات ذلك الطور الأول من التصدى التروزي للتوسع الفرنسي فى مصبِّ النهر الذى فصلنا القول عنه فى مكان آخر[25].

وإذا كانت العلاقات التروزية الفرنسية لم تعرف صراعًا مفتوحًا فى نهاية الثلاثينيات، فإن الفرنسيين ظلوا يتوجسون خيفة من السلطة التروزية ويظاهرون عليها بعض قومها.

وجاءت اتفاقية 25 مارس 1829 المصادق عليها في 15 إبريل من السنة نفسها لتؤكد على العمل باتفاقية 1821 وتلح على التمسك بها.

ويظهر محضر المفاوضات التي سبقت توقيع تلك الاتفاقية(1829) والمؤلف من 40 صفحة من الحجم الكبير درجة النضج والحنكة التي تميز بها وفد الترارزة المفاوض بقيادة أحمد لليكَاط والتي مكنتهم في النهاية من حمل الفرنسيين على الاعتراف بما قاموا به من تخريب في صفوف الإمارة (اتفاقية 7 يونو 1821 السرية مع محمد فال ولد عمير للحيلولة دون التبادل مع الإنجليز في بورتانديك، ومركزة تجارة العلك على النهر وما أسفرت عنه من مشاكل وحروب داخل السلطة الأميرية)، والتحريض ضدها في والو، مما مكنهم من الحصول على مكاسب جديدة والتأكيد ـ مرة أخرى ـ على استمرار العمل باتفاقية 1821 التي تعترف بحقوقهم في "والو"[26].

غير أن كل ذلك لم يحسم الصراع على النفوذ بشأن «والو» بين الطرفين، بل إن حرص فرنسا على الاستئثار بالسيادة عليه ظل ينمو مع نمو أطماعها الاستعمارية في المنطقة، وتتعلل بأوهى الأسباب لتجسيد مراميها كما كانت الحال في زواج محمد الحبيب من اجّنْبَتْ وصية عرش «والو».

 

2- حرب الزواج أو حرب محمد الحبيب الأولى ضد الفرنسيين(1833-1835):

لقد هيّأ مقتل المختار بن امحمد بن أعلى الكوري، واحتدام الصراع على السلطة فى "والو" بين فرا بندا Fera Penda وخارفي كزاري Kharfi Xari واستنجادهما بمحمد الحبيب، الظروف للدعوة إلى إقامة حلف هجومي بين الطرفين ضد الفرنسيين وإعطائه دعامة سياسية بزواج الأمير التروزي من وصية عرش "والو" فى 18 يونيو 1833. وقد أعطى ذلك الزواج للصراع التروزي-الفرنسي فى مصب النهر بعدًا سياسيًا جديدًا.  

وهكذا شكلت "والو"، مرة أخرى، حلقة مركزية فى سياسة الترارزة النهرية وقنطرة السياسة التوسعية الفرنسية فى حوض نهر السينغال. ولذا تذرع الوالي سان جرميه St.Germain بذلك الزواج واعتبره «حدثًا ستكون له نتائج بالغة الخطورةلأنه سيمكِّن يوماً ما من تتويج أحد ملوك البيضان ملكًا شرعيًا لهذا البلد ـ ذلك التتويج القائم الآن عمليًا ـ  ومن تخريب القاعدة الأساس التى ترتكز عليها المستعمرة والمتمثلة فى حياد الضفة اليسرى أثناء نزاعات المستعمرة المتكررة مع البيضان»[27].

وهكذا أقدم الوالي في 19 يوليو 1833 على الإطاحة بالملك «فارا بندا» متهما إياه بالتواطؤ فيما جرى وعيَّن مكانه «خارفي» الذي كان منفيًا في سين لويس.

وأمام عجزه عن إقناع وجهاء «والو» بفسخ ذلك الزواج، أعلن الوالي الحرب على «والو» والترارزة ابتداء من 21 يوليو 1833، فأحرق القرى الكائنة على الضفة اليسرى وشل التبادل في المنطقة، فسبب ذلك تذمر التجار الفرنسيين؛ فأرسلت حكومة باريس قوة حربية بقيادة النقيب كرنيل Quernel لحسم الموقف لصالحها دون جدوى.

وقد قام الوالي الجديد بيجول Pujol في مايو 1834 بتجميد تلك الحملة مؤقتا واعتبر أن سياسة سلفه لم تَجُرَّ إلا الخراب والدمار في "والو"، واعتاض عنها بحصار اقتصادي وعسكري ضد الترارزة[28].

وهكذا فرض حصارًا على ضفتي النهر للحيلولة دون تموين الترارزة من تلك المنطقة، ورابطت سفنه الحربية ابتداء من 15 فبراير 1835 قبالة بورتانديك لقطع الاتصال مع الإنجليز خارقا بذلك اتفاقية 1783 بين البلدين مما أوقد حربًا بحرية ودبلوماسية مع تلك القوة الأوروبية وأجج الحرب مع الترارزة دون التمكن من تسديد ضربة قوية إليهم.

واستمر تفاقم هذا الوضع على الساحتين المحلية والدولية إلى غاية 30 أغسطس 1835 حيث نجحت جهود بلكريه Pellegrin – مرة أخرى – في التفاهم مع الترارزة، وإقناع محمد الحبيب بالتنازل عن المطالبة لنفسه ولمن يخلفه بعرش "والو".

لكن تلك الاتفاقية لم تمنع محمد الحبيب من تسيير شؤون "والو" كما يشاء، فقد نسبت له وثيقة فرنسية صادرة في 1838 قوله: «فلتشتغلوا الآن بزراعة الأرض وتنمية المواشي بغية تزويدي بالزرع والثيران التي قد أحتاج إليها، أما سياسة بلدكم فتلك مهمتى».

وتتأكد سيادته السياسية على المنطقة من خلال إصراره وإصرار ابنيه سيدي واعلي من بعده على جباية الضرائب على التجار في منطقة سين لويس التي كان زعماء الضفتين مُسَلِّمِينَ عمليا بسيادة الفرنسيين عليها لأكثر من سبب، كما تشهد على ذلك رسالة له إلى الوالي الفرنسي يقول فيها «...ولا دخل لأحد من الترارزة أو من النصارى إلا أهلها [أي الإتاوة] لأن الدَّخْلَةَ المبنى فيها(شبه جزيرة سين لويس) ملك لهم [أي أولاد أحمد بن دامان] كملك عبيدهم وبقرهم وإبلهم وخيلهم»[29].

ولم تقتصر صراعات محمد الحبيب مع الفرنسيين على "والو" فحسب وإنما تصارع معهم على الساحة البركنية طيلة خمسينيات القرن 19 في نطاق الصراع على الإمارة منذ وفاة أحمدو بن سيدي اعلي سنة 1841، كما شكلت حملات الترارزة في كايور واديولوف التي تكثفت ابتداء من 1841 مظهرًا آخر من مظاهر الصراع على النفوذ في منطقة النهر.

وجملة القول إن محمد الحبيب قد حقق ما كان يصبو إليه من نفوذ في تلك المنطقة بالطرق السياسية ودافع عنه بما أوتي من قوة عند الضرورة كما كانت الحال في حربه مع فيديرب Faidherbe.

 

3.حرب احتلال الضفة اليسرى وتغيير شروط التبادل على الضفة اليمنى(1855-1858):

عرفت العلاقات بين الترارزة والفرنسيين منعطفا جديدًا في منتصف القرن 19، تميز بسياسة فرنسا التوسعية الواضحة في منطقة النهر التي انتهت بإخضاع الضفة اليسرى للاستعمار المباشر في 1855 وتغيير شروط التبادل مع الإمارات البيضانية بعد أن رَجَحَ ميزان القوى العسكرية لصالح فيديرب.

وقد جاءت هذه السياسة الفرنسية الجديدة في النهر لاحتواء أزمة تجارة سين لويس المستعصية منذ مطلع القرن 19 بصفة خاصة، واستجابة لأطماع الأوساط السياسية الاستعمارية الفرنسية بوجه عام. وتجلت هذه النزعة بوضوح منذ سنة 1853 حيث ذكَّر وزير المستعمرات الوالي ابروتي Protet بما مده به من إمكانيات ضرورية للتغلب بالقوة على كل مقاومة لتنفيذ السياسة الجديدة، وأمره بإنشاء مركز "بودور" كمنطقة متقدمة لإخضاع سكان المنطقة وتغيير شروط التبادل على النهر[30].

وفي هذا النطاق طالب تجار سين لويس «بإلغاء المحطات التجارية التي هي نوع من المعارض يتم فيها تبادل العلك تحت رقابة زعماء البيضان وفي ظروف مهينة وغير مُشَرِّفةٍ بالنسبة للفرنسيين، وإبدالها بمنشآت تجارية قارة ومحصنة: إحداها في «دكَانه» والأخرى في «بودور»...»[31]

ويعلق التقرير نفسه على إلغاء المحطات قائلا: «إن إلغاء المحطات والإتاوات سيضعنا في مواجهة مع البيضان... فمحمد الحبيب الذي ازدادت غطرسته يهدد بالصلاة في كنيسة سين لويس عند أول قطيعة مع البيض[النصارى] ويتبجح محمد اعلي زعيم قبيلة عزونة قائلا: "إن باستطاعته الاستيلاء على المدينة [سين لويس] بواسطة محاربي قبيلته وحدهم"…»[32].  

وأمام تعثر ابروتي Protet في تنفيذ السياسة الفرنسية الجديدة في منطقة النهر، عُيِّن فيديرب Faidherbe واليًا جديدًا على السينغال في نوفمبر 1854 وأسندت إليه تلك المهمة التي لخصها الوزير في رسالة بتاريخ 8 من دجمبر 1854 بقوله: «لقد طلب التجارُ بصفة خاصة القضاءَ على محطات التبادل، وحرية مبادلة العلك في الأماكن التي يختارونها لذلك، سواء على الضفة اليسرى أو اليمنى، وإنشاء مركز أو عدة مراكز على الضفة اليسرى لتكون نقطة ارتكاز لأسلوب التبادل الجديد والقيام في أمان ببعض المشاريع الزراعية، في كل من "والو" و"فوته". يضاف إلى تلك الرغبة الرئيسية بالنسبة لنا، ضرورة جعل والو من الآن فصاعدًا في مأمن من نير ونهب البيضان بوضعها تحت حمايتنا وجعل سفننا وقواربنا – خدمة لمصلحة تجار السينغال [الفرنسيين] – تتمتع بحق اجتياز النهر طولا وعرضا دون أن تكون ملزمة بدفع أي إتاوات للزعماء الحربيين. وعلينا أخيرًا أن نقنع السكان البيضان والزنوج على الضفتين... بأننا نلزمهم بالاعتراف بسيادة واحترام حكومة السينغال...»[33].

وعلى الرغم من شح موارد مستعمرة السينغال الجبائية وما تعانيه ميزانيتها من عجز بنيوي، فإن فيديرب لم يفتقر إلى المال والسلاح والدعم المعنوي لإنجاز مهامه بسرعة وعلى أكمل وجه. فقد انتقلت الميزانية العسكرية للمستعمرة من 1.438.000 ف سنة 1854 إلى2.077.863 ف سنة 1859، بينما تضاعفت الإمكانات العسكرية ثلاث مرات تقريباً فى الفترة ذاتها إذ انتقل عدد التعزيزات من الجنود من 665 جندي إلى 1.882 جندي[34].

وتزداد أهمية هذه الإمكانات إذا عرفنا أن مسؤوليات الوالي الإدارية قد قُلِّصَتْ بفصل كَوري Gorée وتوابعها إدارياً عن سان لويس من نهاية 1854 إلى بداية 1859 للتفرغ لحلِّ مشاكل النهر.

واستحدث، ابتداء من 1856، جريدة Moniteur du Sénégal et dépendances التى كانت جهاز دعاية بكل معنى الكلمة، بالغ فى استخدامه أثناء حربيه مع محمد الحبيب والحاج عمر. ولجأ فيديرب أكثر من مرة إلى الدعاية الكاذبة فى تلك الجريدة تبعاً لحاجة الوقت، حتى  «نشر بيانات كاذبة باللغة العربية عن متمردين مسلمين مضى عليها عدة أشهر، وأعلن عن انتصارات لم تتحقق أبداً…»[35].   

     ولم يبخل عليه "لوبي" تجار بوردو القوي بزعامة آل موريل بروم Maurel & Prom بدعمهم المعنوي الحازم ومؤازرتهم الفعالة قبيل تعيينه على رأس المستعمرة وبعده. فقد دافعوا عنه ونصروه على خصومه المحليين وتدخلوا لصالحه أكثر من مرة على مستوى أصحاب القرار فى باريس.

وكان مدير المستعمرات النافذ ماسترو Mestro ووالي السينغال السابق بـوى ويوميز Bouët-Willaumez  أقوى سند باريسي لدى فيديرب. ونلمس تأثير هذا الأخير واضحاً فى مراسلات صديقه الشخصي الأميرال فرناند هامليه Fernand Hamelin، وزير البحرية والمستعمرات ما بين 1855 و1858، مع الوالي فيديرب حيث اقترح عليه فى رسالته الصادرة فـى 13 نوفبر 1855 تطبيق السياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر فى السينغال[36] وذكره ـ فى هذا الصدد ـ ببرنامج بوى الاستعماري لسنة 1844[37].

وعن موقف البيضان من تلك السياسة، يقول فيديرب في رسالة إلى الوزير بتاريخ 19 يناير 1855: «إن البيضان لا يريدون تغيير أي شيء مما كان قائما، وبعبارة أخرى فهم يريدون أن نسدد لهم مبلغا معينا عن كل سفينة حسب حمولتها سواء كان بها علك أم لا... وقد ظل محمد الحبيب يؤكد على الدوام، ولحدِّ الساعة، أن أي شيء لن يتغير بالنسبة للعوائد ولمحطات التبادل ما دام حيا...»[38].

أما بخصوص موقف الترارزة من أطماع الفرنسيين في "والو" وتعلق الترارزة به، فيقول فيديرب: «إن قضية "والو" هي القضية الأكثر خطورة، فمن يطالب الترارزة بالتخلي عن هذا البلد كمن يطالب فرنسا بإخلاء اللورين والآلزاز، بيد أنني أعتقد أن ذلك ضروري وممكن»[39].

واقترح فيديرب في هذه الرسالة على الوزير برنامج عمل أهم فقراته:

  1. «إننا [الفرنسيون] لم نعد نقبل بأن نكون مجبرين على مقايضة العلك في فترة معينة، وفي مكان معين، ووفق نمط معيّن، بل إننا نود على العكس من ذلك أن نبادل العلك عندما نرغب في ذلك وحيثما أردنا ذلك»،
  2. «لم نعد نرضي بأن تعتبر دول النهر ضرائب الدولة العرفية كإتاوات قهرية تدفع من قبلنا...»،
  3. «إننا نود تحرير الضفة اليسري للنهر من سلطة البيضان، وبعبارة أخرى... فإننا لم نعد نسمح لأمراء البيضان بفرض سيادتهم على الضفة اليسرى، فسنحطم أو نطرد قبائل عزونة وإجكباجه وتغرجنت وأولاد أخليفه التي تأتي كل سنة لقضاء فصل الصيف في "والو" وتعيش على حساب ذلك البلد..»[40]. وتضيف هذه الرسالة ـ البرنامج قائلة: «أعتقد أنه في حالة استحالة التفاهم مع زعماء البلاد كما هو شأننا الآن لكون أولئك الذين يتمتعون بسلطة فعلية حقا ـ مثل أمير الترارزة ـ تعميهم الأبهة والكبرياء ولكون الآخرين لا يملكون أية سلطة..، أعتقد أنه ليس أمامنا سوى طريق واحد هو أن نعمل ما نريد عمله ولنحارب من يعارضونه..». ويواصل فيديرب عرض مشاريعه قائلا: «وبعدها سنعمل على حضور أمير الترارزة ونجرى معه محادثات لن تطول إذا ما أعلنا له أننا نريد استقلال "والو" (خ/منا)»[41].

وأمام تعارض أطروحات الجانبين كان من الطبيعي اللجوء إلى القوة لحسم الموقف. ففي صبيحة 15 فبراير 1855 هاجم الفرنسيون ـ حسب رواية فيديرب المغرضة للأحداث ـ حي عزونه التروزي المتجمهر على الضفة اليسرى للنهر والمكون من 150 خيمة. وقد استيقظ الحي مبكرًا وتنبه لحركة الجيش الغازي وفرَّ بمواشيه تاركًا الخيام والأدوات والبضائع وحوالي مائة رأس من الماشية، لكن الفارين وقعوا في كمين انتزع منهم 700 رأس من البقر و69 سجينًا بين النساء والأطفال[42].

 وفي منتصف مارس 1855 بدأ فيديرب حملة عسكرية في وسط "والو" ضد تحالف محلي بقيادة اعلي ولد محمد الحبيب لمقاومة الغزو الفرنسي لوالو، وتشهد وثائق الأرشيف الفرنسي على دور أعلي البارز في المقاومة حيث تقول: «لقد قاوم اعلي بن محمد الحبيب وحيدًا وصمد بفعالية»[43].

ولمواجهة صمود اعلي عبأ فيديرب قوة بلغ تعدادها 1100 جندي، وأحرق 40 قرية في والو وواصل الحرب طوال صيف 1855 ليتمكن أخيرًا في ديسمبر من «إعلان "والو" منطقة فرنسية». وإذا كان فيديرب قد أخضع والو عسكريا، فإن العديد من سكانها ـ بما فيهم أسرة تييديك المالكة وحاشيتها ـ قد التحقوا بالترارزة وظلوا يقاتلون إلى جانبهم ورفضوا الانصياع لتهديدات فيديرب وإغراءاته. فقد جاء في رسالته إلى «ناتاكو فال» رئيس عبيد عرش "والو" الصادرة في 20 مارس 1858 قول فيديرب:

«...بما أنكم لا تريدون طاعتي والعودة إلى والو تحت قيادتي، فإننى أعتبركم منذ اليوم أعداء لي، وسألاحقكم أينما توجهتم وأعلن الحرب ضد من يأويكم، وما دمتم تعتبرون أن اعلي هو سيدكم فليحميكم مني. إن اعلي بيضاني لم يشتغل أبدًا إلا في نهب واغتيال السودان. وإنكم بانضوائكم تحت رايته تُقدمون على تصرف جنوني، وتكونون بمثابة النعاج التي تتخذ من الذئب زعيما لها...»[44].

ولإبعاد خطر الترارزة عن مستعمرة "والو" الجديدة، كان على فيديرب أن يجلي البيضان إلى الضفة اليمنى. وفي هذا المضمار يقول في رسالة إلى محمد الحبيب صادرة في 3 أغسطس 1855: «...وأرى أن ابنك اعلي كان السيد المطلق في "والو"، وأن أولاد بنيوك واجكباجه وأولاد بوعلي... وآخرين يخربون والو وكايور واديولوف ويفرغونها من سكانها...»[45].

ويحاول فيديرب أن ينظر بأسلوب وعظي تسليمي بقضاء الله وقدره خليق بمن يوجه لهم خطابه، لموقفه الرافض لتمركز البيضان على الضفة اليسرى للنهر، فيقول في منشورين وزعهما في كل من الترارزة و"والو" بتاريخ 8 نوفمبر 1855: «ألم ير محمد الحبيب أن الله أجرى البحر وجعله حاجزًا وفصلا وحدًا بين البيضان والسودان، فلا بد من احترام حدود الله...»[46].

ويتجلى تباين مواقف الطرفين كذلك من استعراض شروط الصلح المرفقة بهذا التعميم ورد محمد الحبيب عليها، وتتلخص شروط فيديرب في:

  1. كون الفرنسيين هم وحدهم حماة "والو"؛
  2. كل قافلة تروزية تعبر "والو" للتجارة فيها أو في كايور مرغمة على المرور بنقاط محددة سلفا ووفق شروط معينة؛
  3. لا يسمح لأي تروزي مسلح بعبور النهر ولا لأي حي بيضاني بالإقامة على الضفة اليسرى؛ 
  4. يتولى والي السينغال ضمان أمن القوافل التجارية التروزية العابرة إلى والو أو كايور؛
  5. إذا رغبت الترارزة في المتاجرة مع الفرنسيين فإن تلك التجارة ستكون حرة تماما دون محطة معينة أو إتاوات أو إغلاق للموسم التجاري.

ويرد محمد الحبيب على تلك الشروط بشروط للسلام أكثر صرامة وحزمًا، فيشترط من جانبه:

  1. زيادة الإتاوات الممنوحة للترارزة والبراكنة و"والو"؛
  2. تحطيم كافة القلاع والمراكز الفرنسية على النهر باستثناء سين لويس؛
  3. منع السفن والقوارب العسكرية الفرنسية من الملاحة في النهر؛
  4. دفع إتاوات جديدة مقابل تزود الفرنسيين بالمياه والأخشاب من سين لويس وضواحيها؛
  5. ترحيل فيديرب إلى فرنسا مذمومًا كشرط مسبق لأية مفاوضات[47].

وقد تبادل الرجلان مجموعة من الرسائل ـ بصورة مباشرة وغير مباشرة ـ يعزف كل منهما فيها على وتيرته الخاصة. فها هو محمد الحبيب يرد على رسائل دعائية وجهها فيديرب إلى أولاد بنيوك والمختار ولد سيدي ولد عبد الوهاب[وزير محمد الحبيب] وزعماء البراكنة برسالة يتهدده فيها ويدعوه للنزال «...في موضع تحبونه[أنتم الفرنسيون] لنتقاتل فيه، فإن غلبتمونا فذلك ما تحبون، وإن غلبناكم عرفتم أن ما كنتم تقولون إنكم تخرجون إلينا فهو كذب. واعلموا أن الشر طوله لا يضر إلا الضعفاء منا ومنكم، وأنت يا "هلين" تعلم أنكم لا تغلبوننا أبدًا، فكيف تغلبوننا وأنتم في بطن السفن؟ فاخرجوا إلينا إن كانت عندكم قدرة على القتال وإلا فاقبلوا الغلبة»[48].

وأشفع محمد الحبيب رسالته تلك «بهجوم فوري على سين لويس في 21 إبريل 1855 شارك فيه ـ حسب المصادر الفرنسية ـ ألفا مقاتل(؟!) لكنه أرغم على التراجع...»[49].

ولم يكن الشعور بخطر التوسع الفرنسي في حوض النهر وضرورة مواجهته قبل فوات الأوان الشغل الشاغل بالنسبة للسلطة الأميرية وحدها وإنما كان قضية المجتمع الأميري كله في منطقة الترارزة ولاسيما الأرستقراطية الزاوية التي تنبهت مبكرًا لهذا الخطر وعملت على مجابهته بالوسائل المتاحة، بل إنها عملت جاهدة على توحيد مختلف الإمارات الموريتانية للتصدي للخطر الفرنسي المخيم على المنطقة منذ نهاية العقد الثاني من القرن 19.

وفي هذا الإطار تدخل مساعي الشيخ سيديا الكبير الدؤوبة التي توجت باجتماع تندوجة في يناير 1856 الذي جمع أمراء الترارزة والبراكنة وآدرار وممثلا عن إمارة تكانت بعد سنة ونيف من اندلاع الحرب بين محمد الحبيب وفيديرب. كما تندرج فيه أيضا محاولات الشيخ سيديا نفسه تصنيع البارود محليا، وطلب الأسلحة من ملك المغرب المولى عبد الرحمن، ورائية ابنه الشيخ سيدي محمد الشهيرة:

رويـــــــــــــــــــــدك إننى شبــــــــــــــــــــهت دارا      عـلى أمثالــــــــــــــــــــــها تقــــــــــــــــــــــــــــــــــف المــــــــــــــــــــــــــهارا

والتي يقول فيها:

ولو في المسلمين اليوم حر
لفكوا دينـهم وحموه لـما
حماة الدين إن الدين صارا
فـإن بادرتمـوه تداركـوه
وروم عاينوا في الدين ضعفا
فإن أنتم سعيـتم وانتدبـتم
وإن انـتم تكاسلـتم وخمتم
فألفوكم كما يبغـون فوضي

 

 

يفك الأسـر أو يحمي الذمـارا
أراد الكافـرون بـه الصـغارا
أسيـرًا للصـوص وللنصـارى
وإلا يسـبق السـيف الـبدارا...
فرامـوا كلما راموا اختـيارا
برغم منـهم ازدجروا ازدجارا
برغـم منـكم ابتدروا ابتدارا
حيارى لا انتداب ولا ائتمارا

 

وإذا كان اجتماع تندوجة لم يفلح في توحيد قوى تلك الإمارات العسكرية ضد الفرنسيين، فقد وفق ـ ولو مؤقتا ـ في تسوية الخلافات الداخلية بينها وبين محمد الحبيب ـ وحتى بينه وخصومه الداخليين (خندوسة) ـ مما مكنه من تكريس قواه لمجابهة التوسع الفرنسي في المنطقة.

وقد التف معظم سكان المنطقة حوله وعاضدوه (علنًا أو ضمنيًا) في حربه مع فيديرب. وسنقتصر بهذا الخصوص على مثالين من ذلك الدعم هما مقاطع من رسالة للشيخ سيديا الكبير وأبيات من قصيدة لاجدود بن اكتوشني. فقد جاء في الرسالة المطولة التي بعث بها الشيخ سيديا إلى محمد الحبيب أثناء استعداده لتلك الحرب ما نصه:

«هذا وإنه من عبد ربه الغني به سيديَّ بن المختار بن الهيبه إلى سيِّد أقرانه ومقدم أهل زمانه محمد الحبيب بن أعمر بن المختار نضر الله أيامه ونصر أعلامه وأعانه على إقامة الدين ومكنه من نواصي أرباب الكفر المعتدين(...)، وبعد فإنا نوصيك بتقوى الله العظيم واقتفاء سنة نبيه الكريم ونؤكد عليك في الوصية بثلاثة أمور أحدها أن تحسن نيتك في مجاهدتك للكفرة الذين أنت بصدد مجاهدتهم بأن تنوي بمجاهدتك لهم أداء فرض الكفاية (...).

واعلم أيضا أننا معك بهمتنا ودعائنا وعنايتنا ورعايتنا في جميع ما أنت فيه من نصرة دين الله وإعلاء كلمة الله وإسفال كلمة الكفر بالله والمعصية، ونرجو لك كمال النصر والظفر والفرج من كل أمر نازل والمخرج من كل ضيق حاصل...». (راجع نص الرسالة في مكتبة أهل هارون بن الشيخ سيديا).

أما اجدود بن اكتوشني فقد دعا في قصيدة تناهز مائة بيت إلى مواجهة الخطر النصراني ومؤازرة محمد الحبيب قولا وعملا واستخدام كل الوسائل العسكرية والاقتصادية لمجابهة الأعداء. وفي هذا السياق نكتفي من تلك القصيدة بالأبيات التالية:

..حاصر المسلمينَ جندُ النصارى
أيها المسلـمون شـدوا علـيهم
سارعـوا للجـهاد بعد التـواني
لا تخونـوا إمامكـم وانصـروه
قد دعاكـم فلم يزدكـم دعـاه
طالما حـاول الجـهاد وَحِـيدًا
فانصـروه ينصركـم الله طـرًا
يا "حبيـبًا" أوجـف عليهم بخـيل
رابطوهـم بكـل ثـغر مخـوف
وأعدوا من القوى ما استطعـتم

 

 

بـيد الله أن يزيـل الحصارا(..)
وانزلوا "الزِّيـرَة" وانزلوا "كنارا"
واجعلوا خشـية الإلـه شـعارا...
إن فـي خونـه لـذلا وعـارا
لجـهاد العـدو إلا فـــرارا
أوَحِـيدٌ يـروم فـتح النـصارى؟
واقتلـوا المشركـين والفـجارا
وبـرجـل يهـدم الأمصـارا...
بعـناجـيج شـزبـًا ومـهارا
واشتروا الخيل والقلاص المـهارى

 

إلى أن يقول داعما مواقف محمد الحبيب بشأن فرض الحصار على بيع العلك للنصارى الذي لم يستجب له تماما كل الزوايا:

لا تعينوا بالعلك حزب الأعادي
فاقطعوا عنهم الشراء حـذارا

 

 

أتعــيـــــــــــــــــــــنون آثـمًا كـــفارا
أن يصروا على الأذي إصرارا

 

ورد فيديرب على ذلك الحصار الاقتصادي بحصار اقتصادي آخر، فحظر بيع الأقمشة والزرع للترارزة على طول النهر. وطالب بتعزيزات عسكرية لمواصلة الحرب وبفرض حصار بحري على بورتانديك لمنع الترارزة من التزود بالسلاح والذخيرة وحملهم على القبول بشروطه للسلام. وأعرب الوزير ـ مجدداً[50]ـ فى 17 مايو 1856 عن معارضته لذلك الاقتراح حتى «لا يعيق المفاوضات الجارية مع الإنجليز التى ستعطى دون ما شك حلاً أفضل فى القريب العاجل…»[51].

وكان وقع الحصار على تجارة العلك قوياً على ساكنة سان لويس مما زاد التذمر فى صفوف الفئات الدنيا والمتوسطة من تجار تلك المدينة؛ فتم اللجوء إلى كَاليم للحدِّ من سوء أوضاع المستعمرة، وتدخل موريل Maurel و كالفى Calvé- منظر سياسة ديكوس الاستعمارية - لدى مدير المستعمرات لتعزيز موقف الوالي المتزعزع والتأكيد على «أن فيديرب هو رجل الوضعوأن الوقت مناسب جداً لخوض حرب مجدية ضد الترارزة»[52].

وبعد انقضاء فصل الأمطار، تواصلت الحرب بضراوة جراء إلغاء محطات التبادل. وأفلحت جهود الشيخ سيديه الكبير ومحمد الحبيب فى إقناع أمير البراكنة محمد بن سيدى بمؤازرة أمير الترارزة فى حربه ضد الفرنسيين الرامين إلى النيل من مصالح الأمراء المادية والمعنوية. وأعرب فيديرب عن أسفه على عجزه عن مساعدة الأمير البركني "للصمود" فى وجه ضغوط محمد الحبيب، لأن قواته كانت منهكة بعد حملة عسكرية دامت ثلاثة أشهر. 

وإذا كانت منطقة النهر عموماً - وسان لويس خصوصاً - قد عانت فى 1856 من نقص حاد فى الحبوب حتى همَّ فيديرب، رغم اعتراض بعض أعضاء مجلس المستعمرة، بفتح محطتي تبادل فى فوته الرافضة للنظام الاقتصادي الفرنسي الجديد؛ فقد كانت معاناة الترارزة أكبر لما لحق بقاعدة اقتصادهم من هدم وتخريب (السطو على الأحياء وحرق المنازل واللوازم، ونهب المواشى والأرقاء على نطاق واسع..)[53].

وقد أعطى النقيب أزان Azan[54] وصفاً مجملاً لآثار تلك الحرب على الجانبين لا يخلو من دقة حين قال: «لم يعد تاريخ والو منذ ما يربو على ثلاث سنوات سوى سلسلة من الصدامات والغارات المسلحة، يسفر عنها نهب مواشى واسترجاع أخرى، واختطاف عبيد من قبل هذا الطرف أو ذاك، ونهب قرى ولفية على الضفة اليسرى، وأحياء بيضانية على الضفة اليمنى، وسفن حربية تجوب الضفتين باستمرار طيلة تلك الفترة، وتلاشى أي نوع من التجارة مع بيضان الحوض الأسفل للنهر، أي ما بين سان لويس وبودور…».

وقد طال أمد تلك الحرب أكثر مما كان الفرنسيون يتصورونه لتصميم الترارزة على الدفاع عن مصالحهم المادية والمعنوية المهددة، وعدم ملاءمة الوسائل الحربية الفرنسية مع حركية البيضان المجالية الواسعة، ومحدودية فعالية الحصار الاقتصادي قبل النصف الثاني مـن 1857، بفعل وجود بورتانديك وكَورى. وقد أقلق ذلك كله فيديرب وحمله على الذهاب إلى باريس فى إجازة سنة 1856، والتلويح بما سيجنيه الفرنسيون من فوائد اقتصادية من الاستيلاء على معادن ذهب بامبوك بأعالى النهر، فى محاولة للحد من الشكوك التى تحوم حول جدوى حربه الهدامة فى أسافل النهر وأعاليه.

  كما قدَّم، فى دجمبر 1856، خطة للتعامل مع الأوضاع المتردية فى منطقة النهر إلى الوزارة يتصدرها السلام مع الترارزة. وقد أقر الوزير تلك المقترحات معرباً عن اعتقاده «أن الوقت قد حان لمنح السلام للترارزة، مع ضرورة أخذ كل الاحتياطات لجعل ذلك السلام حقيقياً…»[55].

غير أن استئناف الحرب بضراوة فى 1857، وأخذ الترارزة المبادرة فيها بشنِّ الحرب على مختلف الجبهات، بعد أن أحكم بروتى قبضته على كَورى ومنع الترارزة من التَّمَوُّنِ منها، وتخلى الإنجليز عن بورتانديك إثر اتفاقية 7 مارس 1857؛ لم يكن من شأنه أن يحدَّ من قلق فيديرب وتشاؤمه إزاء تطورات الأوضاع على ضفتي النهر الذى عبر عنه لوزيره فى رسائله الثلاث الصادرة فى6 ، 7 و24 مايو 1857.

فقد بين فى رسالته المؤرخة ب 7 مايو أن محاولات التقارب التى قام بها تجاه الترارزة لم تعط سوى نتائج سلبية. فالأمان الممنوح للزوايا بصفة تجريبية، وارتيادهم سان لويس ودكَانه، لم يساعد فى رفع الحظر عن العلك ولا فى ربط صلات مع أمير الترارزة وإقناعه "بالعودة إلى جادة الصواب"، بل أعرب عن قبوله بالسلام شريطة إعادة الأمور إلى مجراها الأول(استمرار المحطات وسيادة الترارزة على والو).

وأعرب فيديرب عن رفضه لأية "مغارم" جديدة أو التنازل عن والو "المشترى فى 1819 والمنتزع بالقوة فى 1855". وطالب محمد الحبيب بالتنازل قائلاً إنه لا قبل له بما لدى الفرنسيـين من جنود وأسلحة متطورة ولاسيما المدفعية والسفن البخارية وفرق الخيالة الكثر. ولوَّح أمامه بمخاطر تجارة الفستق على تجارته من العلك وإمكانية الاستعاضة بها عنها إذا لم يرض بالشروط الفرنسية.

وعمل فى الوقت نفسه على تفكيك وحدة الصف التروزي وبث الشقاق بين القبائل  بمنحه السلام لأكثرها معاناة من الحرب سعياً إلى استمالتها.

ويرى المبادلون السين لويسيون الذين اتصلوا وقتها بالترارزة عكس رأي الوالي. فقد قالوا إن الفرنسيين أرهقتهم الحرب، وإن عدداً من كبار تجارهم يرغبون فى تحقيق السلام بأي ثمن، وأن فيديرب لم يمنح السلام للزوايا بمحض إرادته وإنما تلقى الأوامر بذلك من وزيره.

واتخذ فيديرب من تصرف أولئك المبادلين ذريعة لتعليل ما أعطى محمد الحبيب للحرب من دفع لم يسبق له مثيل، وحجة لطلب تعزيزات مستعجلة من وزيره من ضمنها خمسون فرساً وثلاث سفن حربية لمواجهة الموقف المتردى.

وكان استحواذ اليأس عليه باديا حين حدث الوزير عن مدى إرهاقه وكثرة أعدائه المحليين، وقال: «وسنحارب الترارزة ما استطعنا حتى بدء الفيضانات بعد شهرين، وبعدها تكون لدينا فسحة 6 أشهر للتفكير فيما يجب القيام به السنة المقبلة…».  

وأعرب الوزير فى رسالته الجوابية الصادرة فى 19 يونيو عن تشجيعه للوالي على المضي فى حربه ضد الترارزة، وإعطائه الأوامر لقائد المحطة البحرية فى غرب إفريقيا بمده بما يحتاج من عتاد ورجال «لتسديد ضربة حازمة وحاسمة للبيضان»[56].

وكان من أشد معارك تلك الفترة وقعاً على مستعمرة سان لويس، معركتا الركيز وكَاندون Gandonاللتان خصص لهما فيديرب حيزاً كبيراً فى العددين 55 و63 من Moniteur du  Sénégal الصادرين بتاريخ 14 إبريل و9 يونيو1857.

فقد جرت المعركة الأولى قرب بحيرة الركيز إثر قيام جيش المتطوعين السينغاليين بقيادة فرابندا بغارة على حي من المرادين، فتصدت له وحدات تروزية بقيادة سيدى بن محمد الحبيب وانتزعت منه الحي وكبدته خسائر جسيمة نافت على المائة قتيل من الوحدة الفلانية فى ذلك الجيش وحدها[57].

وكان فتور الهمم الفرنسية من تفاقم الوضع واستمرار تلك الحرب باديا من تقرير المونتير دى سينغال[58] عن حملة 13 مايو1857 الانتقامية من معركة الركيز. فقد صرح فيديرب بأن الحامل على تلك الحملة المؤلفة من 1950 جندياً، و 285 فرساً، وخمس سيارات وثلاثة مدافع ثقيلة؛ هو محاولة الرفع من معنويات الزنوج الذين أصيبوا بيأس بعد معركة الركيز. ويبدو أن نتائج تلك الحملة كانت محدودة إذ اكتفى التقرير ـ على غير عادة فيديرب ـ بالقول إنها كبَّدت الترارزة ما بين 25 إلى 30 قتيلاً.

وطالب الوالي بمدِّ المستعمرة بفرقة من سباهية الجزائر فى صائفة ذلك العام، وتلقى عريضة دعم من كبار التجار الأوربيين ورسالة تضامن ومواساة فى قتلى تينك المعركتين من بعض سكان ومتطوعة سان لويس للرفع من معنويات وحداته بعد الضربات الأخيرة.

 وستزيد غارة فرقة من الترارزة بقيادة سيدى أحمد بن امحمد شين على قرية كاندون الولفية المحالفة للفرنسيين فى 20 مايو1857 من هموم فيديرب وتذمر الأوساط المناهضة للحرب فى المستعمرة. فقد أسفرت تلك الغارة عن قتل عشرة من رجال القرية، وأسر 80 من أهلها، والاستيلاء على 450 رأس من الأبقار، وإحراق القرية. وانسحب المغيرون بسلامة، وهاجموا فى طريق عودتهم بعض قرى والو المحصنة تدعمهم تعزيزات جديدة بقيادة أعلى بن محمد الحبيب.

ولم يحدَّ الاشتباك مع أفراد من تلك الوحدة، سلكوا طريقاً للعودة غير طريقها، وأسر ثلاثة منهم وإعدامهم فى الساحة العمومية لإحدى تلك القرى والتمثيل بهم، من وقع ذلك الحدث الذى أثار رعباً شديداً فى سان لويس والمراكز الفرنسية على النهر، وزاد من تذمر بعض أوساط المستعمرة حتى دعت إلى إعادة النظر فى تحالفات فرنسا المحلية[59]

وأكد تقرير فيديرب فى 24 مايو 1857 إلى وزير البحرية والمستعمرات[60] أن الترارزة قد برهنوا على درجة كبيرة من الجرأة والفعالية الحربية خلال صائفة 1857.

وصرح بأن أوضاع المستعمرة لا تسير على ما يرام منذ رسائله الأخيرة، وأن الهجمات الأخيرة ثبطت عزائم الزنوج وسكان سان لويس وأصابتهم بخيبة أمل شديدة، فى الوقت الذى زادت فيه آمال محمد الحبيب فى النصر.

وقال إن بعض كبار التجار أعربوا عن أسفهم على المطالبة أصلاً بإصلاحات فى السينغال، وأن «سكان البلاد ملُّوا الحرب ولم يعودوا يمدون لنا يد المساعدة بشكل جدي».

كما أعرب عن خوفه من أن يمتد، من حين لآخر، عدوى فتور الهمم واليأس إلى وحدات الجيش والبحرية الفرنسية، "وعندها سأكون أعزل تماماً كما أشرت إلى ذلك فى رسالتى رقم 304. ويستحوذ القلق اليوم على مصلحة البحرية أكثر من غيرها، ويجب، بالتالي، أن يبحث لها عن علاج فوري… وأجمل تقييمه لحالة المستعمرة العسكرية بالقول «إن الأسطول غير كاف، والوحدات متعبة، والأعوان معنوياتهم منخفضة جداً».

وتعكس تلك الرسائل بوجه عام قلق فيديرب الشديد من المنعرج الخطير الذى اتخذته الحرب فى مصب النهر، وأخبر وزيره أنه سيرسل مدير علاقاته الخارجية إلى دكَانه، إذا ما ساءت الأحوال أكثر، للاتصال سراً بوزير الترارزة والتوصل معه إلى حلٍّ للنزاع. واستعرض تعليماته المكتوبة المعدة لهذا الغرض المؤلفة من خمس نقاط، وطلب رأي وزير البحرية والمستعمرات بشأنها.

واقترح فى مجال التنازلات للترارزة، أن تقوم الإدارة الفرنسية بتسديد 20.000 فرنك سنوياً لمحمد الحبيب عوض ضرائبه على والو، وأن يقبلوا لابنه أعلى إقامة سلطة مع أنصاره من أهل والو فى كايور شريطة أن لا يعودوا مستقبلاً إلى والو.     

وذهب بعض أخصائيى الفترة الفرنسيين[61] إلى القول إن الحرب كادت تحسم عسكرياً لصالح الترارزة قبل خريف 1857 فى ثلاث مناسبات كانت أولاها محاولة محمد الحبيب الاستيلاء على قلعة اَنْدَرْ St.Louis فى 25 مايو1857 ونجاتها بأعجوبة حملت فيديرب على كتابة مقاله الرومانطيقي عن تلك النجاة[62].

وتمثلت المناسبة الثانية فى مخاطر حصار سان لويس والاستيلاء عليها فى يوليو 1857 أثناء سفر الوالي إلى مدينه؛ بينما كانت الهزائم التى تكبدها الفرنسيون وحلفاؤهم قرب الركيز المناسبة الثالثة.

وإذا كانت المصاعب المتولدة عن استمرار الحرب وطول أمد الحصار الاقتصادي قد أقلقت صغار ومتوسطى المبادلين السان لويسيين وجعلتهم يتذمرون منها، فإن أصحاب الدور التجارية قد تمادوا فى مساندة الوالي. فقد وقفوا فى وجه انتـقادات المعارضة المحلية وتململ الوزيـر فى عريضة 4 يونيو 1857 المرفوعة للسلطات المركزية لدعم فيديرب والتحذير من الوقوع ـ مجدداً ـ فى خطأ 1835 حيث تمَّ عزل كرنل Quernel فى وقت كان النصر ماثلا فى الأفق. وأكدت العريضة أن «المسألة قضية حياة أو موت بالنسبة للمستعمرة. فعلينا أن نعرف ما إذا كان السينغال ملكاً لفرنسا أو لشعب بيضاني…»[63].

وقد أدرك فيديرب وقتها دقة الموقف وضرورة تقديم تنازلات للترارزة بشأن مسألة الضرائب العرفية للخروج من مأزق حرب احتلال والو وتغيير شروط التبادل وإعداد الأرضية للتوسع فى كايور، فاقترح فى 24 مايو1857 تسديد بيصة عن كل 1.000 رطل من العلك تبادل فى دكَانه أو سان لويس لمحمد الحبيب، «وغض الطرف عن البيضان فى اديامبور، وكايور، واديولوف شريطة أن يتفادوا والو الذى أصبح إلى الأبد إقليماً فرنسياً. وباستطاعتنا أن نستولي على توبى وكَنجول بعد استتباب السلام مع الترارزة…»[64]

واستخدم فيديرب علاقاته الودية وقتها مع بكار بن اسويد أحمد، فالتزم له بإقناع أميري الترارزة والبراكنة بالقبول بالشروط نفسها التى قبل بها هو فى اتفاقية 1 نوفبر1857 لتحقيق السلام معهما.

وإذا صحت رواية مارتي Marty[65] عن تمالؤ أولاد أحمد وأولاد دامان مع بكار بن اسويد أحمد لحمل محمد الحبيب وامحمد بن سيدى على الجنوح للسلم مع الفرنسيين؛ فإن مساعى بكار تجاه الأميرين لم تُجْدِ فتيلاً، فعمد إلى إقناعهما بالوسائل الملتوية...

والواقع أن مارتي Marty لم يفعل أكثر من نقل رواية العدد 111 من Moniteur du Sénégal الصادر فى 11 مايو 1858 دون عزوها. وتعزو تلك الرواية خلاف الأميرين الظاهر مع أولاد أحمد وأولاد دامان وحلفائهم أولاد الفاغي إلى خرقهم الحظر المفروض على تجارة العلك بإقدامهم على حراسة وتأمين سبل قوافل تجار العلك بدل منعها من الاجتياز إلى المحطات الفرنسية المحصنة فى  دكَانه و بودور.

 ولا يستبعد أن يكون انشقاق تينك المجموعتين النافذتين وتحرشهما بالأميرين قد ساهم - كما ساهمت عوامل أخرى كثيرة - فى التعجيل بإنهاء الحرب. وهذا ما ذهب إليه كلترى Cultru[66] فى روايته المجملة عن ذلك الحادث.

ومهما يكن من أمر فإن مفاوضات السلام مع الترارزة قد بدأت فى 24 دجمبر 1857، فى حين استمرت المناوشات العسكرية حتى مايو 1858.

ويبدو من تقارير فيديرب أن تلك المفاوضات كانت صعبة وعرفت بعض المآزق أحياناً، إذ يصرح فى رسالته الموجهة إلى الوزير فى 17 فبراير 1858 «أن أي تسوية accommodement مع الترارزة تبدو مؤقتاً أمراً مستحيلاً…»[67]. وقد يكون لتلك المصاعب علاقة بانفجار الموقف فى اديامبور Ndiambour بين الفرنسيين وأهل كايور واستنجاد ملكه بمحمد الحبيب الذى قالت المونتير دى سينغال[68] إنه جهز جيشين لنصرته، أحدهما بقيادته والآخر بقيادة ابن أخيه سيدى أحمد بن أعلى خملش، أملاً فى قيام انتفاضة عامة ضد الفرنسيين فى تلك المملكة تُغَيِّرُ موازين القوى فى المنطقة.

وتحدثت رسالة الوالي الصادرة فى 18 مايو 1858 عن بدء مفاوضات جادة مع الترارزة، لِيُعْلِنَ فيما بعد عن إبرام اتفاقية سلام فى العشرين من ذلك الشهر، أشفعت بأخرى مماثلة مع البراكنة فى 10 يونيو من السنة نفسها.

ولا يمكن فهم الأسباب الكامنة وراء هزيمة الترارزة وقبولهم بتلك الاتفاقية المجحفة ما لم نأخذ بعين الاعتبار سياسة التخريب التي مارسها فيديرب على أصعدة مختلفة، داخلية وخارجية (إغراء سكان الضفة اليسرى بالمال والسلاح بما في ذلك منحهم كامل غنائم ما يقومون به من غارات على الضفة اليمنى بمفردهم ونصف غنائم الغارات المشتركة مع الجيش الفرنسي...)، وما أصاب قاعدة الترارزة الاقتصادية من انهيار جراء سياسة النهب الواسعة النطاق وما عرفه التبادل التجاري مع الأوربيين والضفة اليسرى من توقف، وما عرفته الجبهة الداخلية من تصدع جراء ذلك كله فضلا عن دور الخلافات والثارات القبلية في ذلك المجتمع التى أحسن فيديرب استغلالها. فقد تذمر الكثير من قبائل الزوايا جراء نهب المواشي وقتل الأنفس وأضرار الحصار الاقتصادي (ندرة الملابس والحبوب)، وتواطأت قبائل تروزية مع الخصم- ولاسيما المحاذية منها للنهر - وعصت قبائل أخرى السلطة الأميرية.

وهكذا اضطر محمد الحبيب للقبول بالشروط الفرنسية للسلام ـ الذي ارتفع الكثير من الأصوات المطالبة به في إمارته ـ التي ألحقت ضررًا كبيرًا بسلطته وأذنت برجحان ميزان القوى السياسي والتجاري في المنطقة لصالح الفرنسيين، إذ أُجْبر على الاعتراف بالسيادة الفرنسية على الممالك السودانية - ولاسيما "والو" - وتغيير شروط التبادل مع الفرنسيين.

لكن هل تنازل الترارزة بالفعل عن حقهم في "والو"؟ وهل قبلوا بالسيادة الفرنسية على النهر؟ لا يتسع المقام لإجابة شافية عن هذين السؤالين، لكن يظهر من وثائق الفترة التي تلت هزيمة الترارزة على يد فيديرب وقبولهم بالصلح، أن النفوذ التروزي بقي ملموسًا على الضفة اليسري للنهر وإن تم الحد منه نسبيا. ففي رسالة من وزير البحرية والمستعمرات إلى الوالي فيديرب مؤرخة ب 21 نوفمبر 1859، يؤكد الوزير على ضرورة «"تحرير تجارتنا [الفرنسية] تماما من الإتاوات ومن نهب بيضان الضفة اليمنى»[69]، كما يوصيه باليقظة تجاه الترارزة والبراكنة.

ويؤكد سيدي بن محمد الحبيب في رسالة إلى الوالي على حقه في جباية الضرائب على التجار الوافدين إلى سين لويس وأنه لا يستثنى من تلك القاعدة سوى سكان تلك المدينة الفرنسيين، فيقول: «واعلم أن سماسيرهم لا أقبلهم إلا بعادتهم التي كانوا يؤدونها لأن جل خنطي منهم لا أترك منهم إلا ما سكن اندر، لأنه لا يمكن أن يكون بعضهم يعطى وبعضهم لا يعطى فذلك يؤدى إلى فسادهم، ولا أقبل ذلك ما دام نجم في السماء»[70].

وفي توجيه من وزير البحرية والمستعمرات الفرنسي للوالي فاليير Valière بتاريخ 26 مايو 1870 يتحدث عن التخلي لسكان «تورو»، و«ديمار» في فوته عن حق تعيين مسؤوليهم مع العمل على جعل الترارزة يحترمون بنود اتفاقية 1858 والتدخل عند الضرورة للحيلولة بين البيضان مع الانتشار في ذلك البلد[71].

وخلال عهد اعلي بن محمد الحبيب (1873-1886) لدينا مجموعة من الرسائل بعث بها إلى ولاة سين لويس تشير إشارات مختلفة إلى استمرار نوع من الروابط الوثيقة مع سكان الضفة اليسرى والوصاية عليهم من خلال قوله: («عيالنا في شمامه»، «آمكبل»، «السوادين لا بد لهم من أن يكونوا تحت يد أحد فقوموا بأمرهم وإلا خلوا بيننا وبينهم نردوهم على حالتهم الأولى»...)[72]

وستستمر نبرة حنين الترارزة هذه إلى السيادة على الضفة اليسرى حتى إخضاع البلاد للاستعمار في مطلع القرن العشرين الذى كان للترارزة دورهم المشهود فى التصدى له.

 

ج- دور الترارزة فى مقاومة الاستعمار الفرنسي المباشر: لست أفضل من يتحدث عن الفترة الاستعمارية فى موريتانيا؛ لأنها لا تدخل فى مجال اهتمامي الضيق الذى يقف عند عتبة ستينيات القرن التاسع عشر، ولم أقم بالبحث فيها؛ ومن لم يقم بالبحث فلا حق له فى الكلام. غير أنه من المعروف لدى عامة الناس أن الترارزة -  على الرغم مما أصابهم من وهن فى ملتقى القرنين التاسع عشر والعشرين - كانوا أول من واجه الاستعمار الفرنسي على الساحة الموريتانية خلال القرن العشرين، كما كانوا أول من تصدى له فى حوض نهر السينغال خلال القرن 19؛ وإن تناسى هواة الحديث اللاواعي عن المقاومة التنويه بذينك الدورين.  

فعلى الرغم من الاتفاق الذى أبرمه كبلاني مع الأمير أحمد سالم ولد اعلى والاتصالات التى أجراها مع سيدى ولد محمد فال ولد سيدى؛ فإن الفرنسيين لم يطمئنوا إلى مواقف زعماء الترارزة من الاحتلال الفرنسي. وقد عبر عن ذلك بوضوح كل من الرائد جلييه[73] والنقيب غاستون دفور[74] الذى يعلق على حالة النشوة التى شعر بها الفرنسيون بعد رحلة كبلاني إلى سهوة الماء قائلا: «... ومع ذلك، كان الأولى أن لا نغتر بخصوص المستقبل، إذ كان رؤساء الترارزة أشدَّ كبرياء من أن يخضعوا ، نهائيا، لسيطرتنا..».

فسرعانما رفض أحمد سالم ولد أعلى الأوامر الفرنسية بالبقاء فى منطقة گيوه وتوجه شمالا للاتحاق بأنصاره من أولاد أحمد بن دمان ولعلب وأولاد أبى السباع فى نواحى تگند، فما كان من قائد القوة المرابطة فى "اخروفه" إلا أن أرسل مفرزة فى أكتوبر 1903 لاعتراضه، ففاتها الأمير والأساس من قواته المقاتلة، وجرت بينها مناوشات خاطفة مع مؤخرة الجيش التروزي الذى توجهت وحداته الأساس نحو الشمال. وكان الفرنسيون يريدون صدَّ الأمير عن التوغل شمالاً مخافة أن يقوم بمهاجمة مركز "اخروفه"، أو إعاقة إنشاء مركز نواكشوط، أو التواصل مع معارضة آدرار[75].  

وقد كانت معركة سهوة الماء فى 16 يونيو 1903 بقيادة المختار أم بن الحيدب أول معركة واجهت قوات الاحتلال الفرنسي المباشر فى موريتانيا، وتلتها سلسلة مناوشات بين الطرفين كانت آخرها فى 31 مارس 1904 حيث استشهد المختار أم ومثلت قوات الاحتلال بجثمانه الطاهر. كما تم القيام بهجوم ليلي فى نهاية 1904 على مركز الركبه من قبل مجموعة من أولاد دمان.

وفى 1905 التحق العديد من مناهضى الاحتلال الفرنسي فى الترارزة بالمقاومة فى آدرار وخاضوا إلى جانبها العديد من المعارك ضد الفرنسيين. وفى الفترة ذاتها، تم الهجوم علي مفرزة من القناصة فى ضواحى نواكشوط وقتل 11 منهم[76].

وانتظمت عدة مجموعات تروزية فى صفوف المقاومة وجابهت العدو على ساحات مختلفة من أرض الوطن، حيث اشتركت مجموعة منهم بقيادة سيدى بن محمد فال بن سيدى إلى جانب تحالف واسع من قوى المقاومة فى معركة النيملان جنوب غربي تجكجة بتاريخ 25 أكتوبر 1906 التى منيت فيها طلائع الحملة على تگانت وآدرار بهزيمة كبيرة. كما اشتركت قوة منهم فى معركة أعكيلت الخشبة فى 16 مارس 1908 بشمال إنشيري بقيادة سيدى أحمد بن أحمد بن عيده وسيدى بن محمد فال بن سيدى، وجرح فيها هذا الأخير، وقتل قائد مركز أكجوجت النقيب ربو Repoux واثنين من الرماة، وجرح الملازم الأول اشميث وجندي فرنسي آخر.

وفى نوفمبر 1906، جرت مواجهة بين الفرنسيين وقوى المقاومة فى "اعكيلت انعاج" قتل فيه جنديان وجرح أربعة. وفى يونيو 1907، تم الهجوم على مخيم كتيبة الجمالة الفرنسية الأولى فى ضواحى "اخروفه" وقتل اثنان من حراسه وتم الاستيلاء على أسلحتهم وعلى نحو الأربعين من الجمال[77].

وقاد أحمد بن الديد معركة أحواز بوتلميت فى 3 من يوليو 1907، ومعركة العزلات جنوب ألاك فى 4 من يونيو 1908 التى تم فيها الاستيلاء على قافلة إمداد فرنسية وقتل قائدها واثنين من حرسها، وفر الباقون.

وفى صبيحة 28 نوفمبر 1908، دارت معركة لكويشيشي الشهيرة بين مفرزة من قوات الاحتلال الفرنسية بقيادة الملازم الأول ربول Reboul ومجموعة من المقاومة بقيادة أحمد بن الديد. وسرعانما انهزمت القوات الفرنسية أمام ضربات المقاومين الذين "استخدموا الميدان بمهارة تستحق الإعجاب" حسب تعبير النقيب كاستون دوفور[78]. فقد قتل الملازم الأول ربول و12 فارسًا منذ اللحظات الأولى للمواجهة وبقيت جثثهم بين يدي المقاومين، بالإضافة إلى 16 حصانًا مسروجًا، و18 سيفًا، و14 بندقية كارابين، بينما استشهد 4 من أفراد المقاومة. كما قتل 10 من المجندين المحليين فى الليلة الموالية لمعركة لكويشيشي.

ومن حسن الطالع أن تختار دولةُ الاستقلال تاريخَ هذه المعركة ذكرى لعيد الاستقلال الوطني؛ ففى ذلك دلالة رمزية واضحة المغزى على إرادة التخلص من نير الاستعمار وإعادة الاعتبار لهؤلاء المقاومين الأشاوس.        

 

خاتمـــــــــــة: يبدو بجلاء مما تقدم، أن الترارزة كانوا أول من اصطلى بنار مقاومة التوسع الفرنسي فى المنطقة منذ أوائل القرن التاسع عشر، وكان لهم دورهم المشهود فى مقاومة الاستعمار الفرنسي المباشر للأراضى الموريتانية.

وإذا كنا قد اقتصرنا فى هذه العجالة على الجانب العسكري من تلك المقاومة، فإن الجانب الاجتماعي والثقافي منها أقوى وأطول أمدًا، إلا أن الحديث عنه يتطلب بحثًا مستقلاً آخر لا يتسع المقام له الآن.

 

[1]- W.B.Cohen: Français et Africains. Les Noires dans le regard des Blancs 1530-1880, traduit de l'anglais par Camille Garnier, coll. Bibliothèque des Histoires, éd. Gallimard, Paris 1981, p. 234

[2]- بروديل: حركية الرأسمالية، ترجمة محمد البكري و محمد بولعيش، منشورات عيون، دار قرطبة، الدار البيضاء 1977، ص. 50.

[3]- توماس روبير بيجو :(1849-1784)تألق كضابط شاب خلال حروب الإمبراطورية، وانضم إلى آل بربوه فى 1814ثم التحق بنابليون الأول، وانتخب نائبا فى البرلمان سنة 1831. وبعد أن أثبت كفاءاته العسكرية على أكثر من صعيد، أرسل إلى الجزائر سنة 1836 حيث وقع فى السنة الموالية اتفاقية التافنة مع الأمير عبد القادر التى سرعان ما نكثتها الحكومة الفرنسية. وعين والياً عاماً على الجزائر ما بين 1840-1847، حيث نظم احتلالها وعمل على تكوين وحدات عسكرية خفيفة وسهلة الحركة، ودعا، وهو ما يزال فى فرنسا، إلى شنِّ حرب لا هوادة فيها ضد المقاومة. ومارس بيجو سياسة إبادة وتدمير لا تبقى ولا تذر، فبالغ فى  أعمال السلب والنهب والتقتيل بلا رحمة للقضاء على الأمير  عبد القادر وأنصاره.   

[4]- أسس قلعة بوسعاده فى 1850، والأغواط فى 1851، وتُكوُرْت فى 1854

[5]- ANSOM: Sénégal IV, doss. 29, Bouët au ministre, 15.2.1842.

[6]- نسبة للمدينة الفرنسية الواقعة فى إقليم اللاردنArdennes المتاخم لبلجيكا التى تجابه فيها البروسيون والفرنسيون فى3/9/1870 وقتل وجرح من هؤلاء 15.000 و أسر منهم 91.000 - من ضمنهم نابليون الثالث - ونفي 3.000 إلى بلجيكا. راجع عنها:

Dominique et Michèle Flémy: EncyclopédieQUID tout pour tous 1989, Ed. Robert Laffont, Paris 1988, p. 637.

[7]- Marc FERRO: Histoire des colonisations, des conquêtes aux indépendances (XIIIe-XXe siècle), Seuil, Paris 1994, 24 & suivantes.

[8]- المرجع السابق نفسه، ص. 346.

[9]-Archives nationales, Section Outre-mer(ANSOM), Sénégal et dépendance I, carton 16, dossier 16E: «Notes concernant les démêlés qui ont existé entre la Colonie du Sénégal et Amar ouldou Mokhtar, Roi des maures Trarza, depuis 1819 jusqu’en 1829 », p.2

[10]- إشارة إلى الحرب الدائرة وقتها بين الأمير اعمر بن المختار ومنافسه على الإمارة محمد بن اعلي الكوري.

[11]- AN.SOM : sénégal I, 6A, 1819

[12]- AN.SOM : sénégal IV, 16E, 1819

[13]- Barry B.: Le Royaume du Waalo, le Sénégal avant la conquête. F. Maspero, Paris 1972, p.223

[14]- نسبة لمحمد ببانه بن اعلي شنظوره بن هدي بن أحمد بن دامان، جد الفرع الثالث من أبناء أعلى شنظوره الذي لم يتقلد منه أحد الإمارة، وإن كان ذا نفوذ كبير فيها.

[15]- Archives nationales du Sénégal, (A.N.S): 9G1, 14/5/1821 & P.Marty: LEmirat des Trarza, E. Leroux, Paris, p.401

[16]- A.N.S. 2B4, G.G. au Minidtre, Dagana, 24/2/1820

[17]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I.6A, novembre 1820

[18]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I.7A, 1820

[19]-A.N.S.O.M, Dépôt de fortifications des Colonies(D.F.C.), Carton 83, pièce n°154, St.Louis, le 27/4/ 1820      

[20]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I.C7: D.G. à Ministre, St.Louis, le 8 mars 1821

[21]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I.C7: D.G. à mon général, St.Louis, 25 mars 1821

[22]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I. Carton 16, doss.16 E, « Notes concernant les démêlés.. », op. cit., p. 4    

[23]-Barry B.: Le Royaume du Waalo, op. cit, p. 225

[24]- Archives nationales du Sénégal, (A.N.S): 9G1, ch.3, pièce n° 38, 1821

[25]- محمد المختار ولد السعد: إمارة الترارزة وعلاقاتها التجارية والسياسية مع الفرنسيين من 1703 إلى 1860، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه فى التاريخ، جامعة تونس الأولى، 1999، ص.433-452. 

[26]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.IV, carton 16, dossier 16E

[27]- ANSOM: Sénégal et dépend.I, doss.15c, DG à Ministre, St-Louis, le 7 septembre 1833

[28]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I. 18C, DG à Ministre, 26/5/1833 

[29]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I. 15C, DG à Ministre, 7/8/1833

[30]-A.N.S.O.M, Sénégal et dép.IV. 14B, 1838 

[31]-A.N.S, 9G1, pièces n° 110

[32]- Christian Schefer: Instructions générales données de 1763 à 1870 aux gouverneurs et ordonnateurs des établissements français en Afrique occidentale, Paris 1927, t.2, p. 240.

[33]-Annales Sénégalaises de 1854 à 1885, Paris, Maisonneuve, Paris 1885, p.1&2

[34]- المرجع نفسه، ص. 296-297  و شفير: التوجيهات العامة، م.س، ص 270

[35]- Hommes et destins, Académie de sciences d'Outre-Mer, t.1(nouvelle série), Paris 1975, p.232

[36]- أشار الوزير بشكل خاص إلى ضرورة إنشاء مكاتب عربية فى مختلف المناطق التى يريد الفرنسيون السيطرة عليها وربطها بجهاز مركزي فى عاصمة المستعمرة (إدارة العلاقات الخارجية)، وتكييف التنظيم الاجتماعي المحلي مع المتطلبات الاستعمارية الفرنسية. وذكَّر فيديرب بأنه خير من يطبق تلك السياسة لمعرفته الجيدة بها من خلال سنوات تجربته النشطة فى الجزائر التى جعلت منه واحداً  من أبرز رواد المدرسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر.  

[37]- راجع نصها الكامل فى: Schefer: Instructions générales…,op.cit., t.II, p. 284 -294

[38]- Idem, p. 3 & 4

[39]- Schefer, op. cit., p.267

[40]- Idem, p. 274

[41]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I.: 41B.DG à Ministre

[42]-Idem

[43]-Idem

[44]-Annales Sénégalaises, op. cit., p. 9

[45]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I. 41B, St.Louis, 3 avril 1855

[46]-A.N.S, 3B 94, St.Louis, 20 mars 1858

[47]- A.N.S, 3B 93, faidherbe à Mohamed Lehbib, 3 &vril 1855

[48]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép. XIII, doss. 30

[49]- A.N.S.O.M, Sénégal et dép.I. 41B, DG à Ministre & Faidherbe: Le Sénégal, la France dans l’Afrique occidentale, Paris 1899, p. 137

[50]- سبق للوزير أن أعرب عن تحفظه ـ وتحفظ زميله فى الخارجية ـ على ذلك الإجراء المحرج لعلاقات فرنسا الدبلوماسية مع إنجلترا، وذلك فى رسالته المؤرخة فى 20 فبراير 1855 رداً على اقتراح فيديرب بهذا الخصوص  الوارد فى رسالته الصادرة فى  19 يناير 1855.

[51]- راجع بهذا الخصوص: Schefer: Instructions générales…,op.cit., p. 283

[52]- ANSOM, Sénégal I, doss. 41 d: Lettre personnelle de M. Calvé à Mestro du 16.7.1855

[53]-كانت حصيلة السنتين الأوليين التى أعطاها فيديرب أو أحد أعوانه، فى مقال دعائي مطول يسعى إلى الرد على المشككين فى دوافع تلك الحرب وجدواها نشرته Moniteur du Sénégal…(nº 36/1856, p.4)، تبلغ 1.000 شخص بين قتيل وأسير، ونهب 43.700 رأس من الماشية و 2.500 رقيق. وإذا كان من المشروع تماما التحفظ حول تلك الأرقام الصماء وسياق إنتاجها الأيديولوجي وتناقضها مع معطيات رسمية أخرى، فإن ذلك لا يحد من قيمتها الدلالية فى سياقنا المخصوص. 

[54]- H. Azan: “Notice sur le Walo", Revue marit. et col., t.X, janvier-avril 1864(467-498), p. 471

[55] - ANSOM, Sénégal I, doss. 43: Le Ministre à Mr. le Gouverneur du Sénégal, Paris, 20 janvier 1857

[56] - Schefer: Instructions générales…,op.cit., t.II, p. 300-301

[57]- Moniteur du Sénégal…,op.cit., nº 55 du 14 avril 1857, p.1-2

[58]- العدد رقم 61 / 7-17 مايو 1857.

[59]- Moniteur du Sénégal …,op.cit., nº 63 du 9 juin 1857, p.1-3

[60] - ANSOM, Sénégal I, doss. 41 b: Faidherbe à ministre, nº 306 du 24 mai 1857

[61] - Y.J.Saint-Martin: Le Sénégal sous le second Empire. Naissance d'un empire colonial (1850-1871), Ed. Karthala, Paris 1989, pp. 332-333

[62] - Moniteur du Sénégal et dépendances, nº 63 du mardi 9 juin 1857, pp. 1-3

[63] - ANSOM, Sénégal I, doss. 43 c: Pétition du commerce de St.Louis du 4/6/ 1857

[64] - نقلاً عن: Y.J.Saint-Martin: Le Sénégal sous le second Empire,op.cit., p. 334

[65] - Etudes sur l’Islam et les tribus maures, les Brakna, Paris, E. Leroux, 1921, pp.69-70

[66]- Histoire du Sénégal du XVe siècle à 1870, Paris, E. Larose, 1919, p. 332

[67]- Schefer: Instructions générales.., op.cit., t.II, p. 303

[68]- العدد رقم 104 الصادر فى 23 مارس 1858، ص. 1 

[69]- Schefer, op. cit., p. 318

[70]-A.N.S., 9G2, ch.1, pièce n°9/1865

[71]-Schefer, op. cit., p. 401

[72]-راجع مراسلات اعلي ولد محمد الحبيب مع الولاة الفرنسيين في السينغال ضمن:

Archives Nationales du Sénégal, série G.

[73]- الرائد جلييه: التغلغل فى موريتانيا، عربه: الدكتور محمدن ولد حمينا، دار الرضوان للنشر والتوزيع، نواكشوط 2007، ص. 136.

[74] - تاريخ العمليات العسكرية فى موريتانيا، ق.17-1920، تعريب وتعليق/ المقدم محمد المختار ولد محمد ولد بيه، مكتبة القرنسين 15-21، نواكشوط 2012، ص. 68.

[75]-  الرائد افرير جان: قصص مغامرات وجولات وحروب فى بلاد البيضان، تقديم وتعليق جنفييف ديزيرى فييمن، ترجمه د. محمدن ولد حمينا، ترجم ونشر على نفقة السناتور السابق: سيدى ولداهي السباعي، (د.ت)، ص. 53 و 66

[76]- جلييه: التغلغل فى موريتاني، ص. 137-138.

[77]- المصدر نفسه، ص. 179.

[78]تاريخ العمليات العسكرية فى موريتانيا (ق.17-1920)، تعريب وتعليق المقدم/ محمد المختار ولد محمد ولد بيذَه، مكتبة القرنين 15-21، نواكشوط 2012/116.