إعلانات

حَمْدَنِياتٌ (5) …/عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ

ثلاثاء, 30/12/2025 - 00:46

كان الشيخ حمدَن رحمة الله عليه مقبولاً محبوباً في المجتمع، مُحبا وناصحا للجميع، لم يكن جارحاً أبداً، يكُلم العالمَ والجاهلَ، يُجالس الكبير والصغير، ويمشي في الحاجة مع البعيد والقريب على حد السواء، ذا حس فكاهي متميز. مع كل ذلك، كان حمدن ذا شخصية قوية ومواقف متينة …

له مواقف ظريفة ونكة كثيرة في العلم والشعر والأدب وغيرها، يتذوقها الناس ويتندرون بها. كان كثيراً ما يقول “إن الابتسامة توقيع بالقبول” …

مما يروى أن الرئيس المختار بن داداد رحمة الله عليه استوضحه يوما – عندما كان حمدَن وزيرا للشؤون الإسلامية – عما سمعه مِن أن الحجاج الموريتانيين لم يلتزموا بقواعد النظافة في الطائرة المُستأجرة لنقلهم، مما قد يمس بسمعة البلد، فأجابه حمدَن بأسلوب تلطيفي ظريف بما معناه : “فخامة الرئيس، لقد فعل حجاجُنا الميامين ما فعلوا هذا السنة، وسنمنعهم من فعله في القابل إن شاء الله”، يقال إن الرئيس المختار لم يتمالك نفسه من الضحك، وهو الفهامةُ للإشارات، العارفُ بمرجعية الشيخ حمدن وخلفيته الاجتماعية والثقافية …

وكان يقول إن خاله القاضي حامد بن بَبَّها كان يتحرج غاية مِن التعامل مع بعض القضايا التي كان للدولة فيها رأي لا يوافق ما يراه هو شرعا، فقال له حمدَن: أنت تعلم أن السلطان يجوز له أن يعزل القاضيَ عن الحُكم في باب معين من الفقه، والدولة برأيها ذاك كأنما عزلتك عن الحُكم في تلك القضايا، فلتُحِلْ ما أتاك منها إلى السلطات تبرأ ذمتُك منها، فامتثل حامد لرأيه، وكان له به راحة، وهو الوَرِعُ المراعي مرضاته سبحانه وتعالى في أدق تفاصيل أفعاله …

وقد جاءه يوما -وأنا حاضرٌ- رجلان فعرفَّه أحدهما عليهما قائلا “هذا أنا فلان وهذا أخو زوجتي” ثم أضاف “لقد نطقتُ في حق زوجتي بكذا”، فقال له حمدَن: هذا يسميه الفقهاء ظهاراً، اذهب فأخرج قدر كذا من الأرز وارجعُ إلى أهل بيتك، عندها سأله أخو المرأة قائلا : “وأنا ماذا أفعل؟” فقال له حمدن ” لا تفعل شيئاً، فلست بالزوج ولا بالزوجة …

وسألته مرةً امرأةٌ – وهو ضيف على السهرة الرمضانية – عن العبادة بالصمت، كما هو شائع عند الكثيرين في بلادنا، وخاصة في أوقات محددة كقُبيل الشروق الغروب، فأجابها بما معناه “أن الأشهر أن العبادة لا تكون بالصمت إلا أن قِلة الكلامِ كثيرةُ الفائدة … “

و كان يومًا أحدهم يقرأ عليه من نظم : “مراقي السعود” في الأصول للعلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، و تحديدا في مبحث “مفهوم الموافقة”، و بعدما بيَّن له إن مفهوم الموافقة نوعان : فحوى خطاب و لحن خطاب، و إن فحوى الخطاب هو أن يكون الحُكم المسكوت عنه من باب أحري فقوله تعالى : ” و لا تقُلْ لهما أُفٍّ و لا تنهرهما ’’ يُفهم منه بالأحروية النهيُ عن ضرب الوالدين و إن لم يرد النهي عن الضرب صريحا في النص، وبعد أن بين له أن لحن الخطابَ هو أن يكون الحكم المسكوت عنهُ مساويا للحكم المنطوق، سأله الطالب : و ما مثال الحكم المسكوت عنه المُساوي لقول : ’’ أُفٍّ ” للوالدين، فأجابه سريعا بالحسانية : مثالهُ : “التِشڭامْ” .

مِن ظريف نكته الأدبية قصته مع خليله الشيخ “عدود” خلال سفرهم الذي وصف فيه حمدن المضيفة في قطعة كتبها وترك شطرها الأخير ثم ناولها رفيقه، فما كان من الشيخ “عدود” إلا أن أكمل القطعة مستندا إلى ذكائه الحاد وشاعريته المتوهجة … 

وقفتْ بينَ سائحٍ وسياسي

ترشدُ الناس في خفيف اللباس

ورمتها العيون وهي تناجي

في هدوء مجموعة الأجراس

وأشارتْ أن المقاعدَ تحوي

سترةً للنجاة عندَ الإياس

فوجمنا وقد بدت كلماتٌ

لاتدخن والبس حزام الكراس

وصعدنا وفي النفوس رجاءٌ

والتجاءٌ لِخالق الأجناس

واستوينا في الجو ثم شربنا

فترى القوم بين عار وكاس

أتْحفتنا بالحلويات جميعاً

وبعطر قد صين في أكياس 

فنزلنا فشيعتنا عيونٌ

قطع الله وصلها بالمواس 

ليت هذه الفتاة كانت تراعي

(حرمة الشرع أو شعور الناس)

يقول الشيخ حمدَن، لقد جعلت الشيخ “عدود” أمام امتحان صعب، إما أن يكون فيه شاعراً أو فقيهاً، لكنه نجح في الامتحان فكان فقيهاً بقوله “حرمة الشرع” وكان شاعراً بقوله “شعور الناس”

بحكم خلفيته الاجتماعية والثقافية، كان لحمدن جانبٌ باطنيٌّ وصوفي راسخ. مما كان يقول إنه رأى في المنام أنه زار جده محمذن بن أحمد بن العاقل في مدفن “الميمون” فلما انتهى من زيارته ذهب معه وتوجها إلى جده أحمد بن العاقل في مدفن “انْبَنْبَ” فزاراه ثم رافقهما أحمد وتوجه الجميع إلى الشيخ سعد أبيه في “النمجاط” ثم إلى لمرابط محمذن فال بن متالي في “انوعمرتْ” ثم إلى الولي أحمد بزيدْ في “تمغرتْ” ثم إلى الشيخ سيديا عند “تِندَوجَه” في كل مرة يصاحبهم من جاؤوا لزيارته، يقول الشيخ حمدن : حتى إذا اجتمعو كلهم حلَّقوا في الهواء وانصهروا وكأنما تكونت من ذلك الانصهار فصرت في الحُلم ألمس مكانا من جسدي تلوَ الآخر، وأقول في كل لمسة : هذه لَبِنةٌ من محمذن وهذه لَبِنة من الشيخ سعد أبيه وهذه لبنة من فلان إلى غير ذلك …

ومن غريب ما يروى عنه في تفسير الأحلام، وكان عارفاً به -وهو علم لَدُني لا دخل للكسب فيه – أن أحدهم أخبره أنه رأى في المنام أن وزير المالية يضربه فقال له “سيأتي راتبك للشهر القادم ناقصا”، يقول الشيخ حمدن في “شرح” ذلك التفسير: “ليس بين صاحب الحلم ووزير المالية مِن العلاقة إلا راتبه، فبالتالي لا ضررَ يلحقه منه إلا من خلاله …

 

عز الدين