إعلانات

وتدثّرتُ بِحُزني

جمعة, 26/12/2025 - 02:43

خالد عبد الودود

 

كانَ عليَ أن أُطيل مكالمتي مع لَمين يوم الخميس الماضي، لأنها ستكون آخر مرة أسمع فيها صوتَه المَقام..

كان يوم الخميس الماضي 18 ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية وكنا ضيوف كلية الآداب، فاتصلت به على الواتساب لنذهب معًا، قال لي بلباقته وأدبه المعهود: أنا آسف ياصديقي، من سوء حظي أنني لم أستطع الجلوس معك ومع الدكتور يحيى الهاشمي و الدكتور ولد متالي، على منصة الندوة، قلتُ: يا لِتَعسي إذا ..

حين تلقيتُ الخبر؛ جزعتُ بآمالي إلى الكذب، وقلتُ: لعله كاذبا، وربما كان مجرد تشابه أسماء

ثم ما لبثتُ أنْ خرجتُ من نار الشك إلى جحيم اليقين المُفجِع؛ وما كان لَمين ليضيع اسمُه في زحمة الأسماء فهي لا تشبِهُه وإن تطابقت حروفُها

وجدُتي أحقّ مِن أبي فرات محمد الجواهري بقوله:

وحينَ تَطغَى على الحرّانِ جمرتُه

فالصمتُ أفضل ما يُطوَى عليه فَمُ

لُذتُ بصمتي، وتدثّرتُ بِحُزني، وغالبتُ نفسي على ما فيها مِن أسًى وشَجَن؛ واعتصمت باليقين وإن كان طيفُه لا يفارقني، وصوته في مَسمَعي نَدِيّ شجِيّ

آهٍ يا صاحبي…

ما عليكَ لو مكثتَ قليلاً لعلّنا نُكملُ حديثنا عن كتابات إبراهيم بن عُمر السكران الذي جعلتَني أكتشفهُ حين أهديتني كُتُبَه السبعةَ دفعة واحدة؛ وثامنُهم طبعة فاخرة من مقدمة ابن خلدون!

ألاَ مكثتَ قليلا لعلنا نحسِم خلافَنا حول لغة نزار قباني وسياسة عبد الناصر واللامِيّتَين ومذكرات أبي حفص ومظلمة مُرسي، ولعلنا نختلف ولو مرة واحدة حول شجاعة أبي إبراهيم وروائع المتنبي وآردين ديمي وقصائد محمد إقبال ومقاطع الشنقيطي وبؤس الوطن المُتّشح بالسواد عليك ..

وكيف تُلَبّي النداء السماويّ هكذا ببساطة، دون أن تمنح حضنا أخيراً أو ابتسامة أو تلويحة بِكَف نَدِيّة، أو فرصة لوداع أخير!

كيفَ سافرتَ فجأةً دون إذنٍ

لم تُودِع أكنتَ تنوي الرحيلا!

أهانَ عليكَ أن تَذَرَ تلامذتك في المدرجات حيارَى والكتب المرصوصة على الرفوف في صمت مَهيب !

ألم تقل لي ونحن خارجان من ندوة نقاش #اقرأ_معي أن أُعيرك مذكرات عمرو موسى (كتابيّه)، فور انتهائي منها!

وهأنا أنهيتُها فكيف أصنع الآن!؟

هل من العدل أن تبقى تلك الوعود معلقة، وأظلّ أنا في أقتاتُ على صدى الكلمات وذاكرة الهاتف إلى الأبد!

آهٍ يافقيد المنابر والمحابر، يا فصيحا في زمن الرطانة، وعالِما في زمن الجهل ويا نقيّا كماء الغمام

أشهد أني أعرفُ فيك أربعًا مِن سبعٍ يُظِلُّ اللهُ صاحِبَها بِظِلّه؛ فكيفَ نأسَى عليكَ وأنت فوق ذلك ضيفُ الله وعبده الذي أحبّ فيه وكرِه فيه وتعلّم وعلّمَ!

يبدو أن خساراتي بك كبيرة وهزيمتي فيك أكبر..

لقد خسرتُ معركة الصبر فبكَيت، وخسرت معركة الكلام فصمتّ، وهأنا أخسر معركة التأبين فتهجرني الحروف وتستعصي عليَ الكلماتُ، فلا أجدُ في كنانتي سهمًا ولا في مِحبَرتي قطرة، فلا حول ولاقوة إلا بالله

أغبط أؤلئك الذين يستطيعون الكلام في صِوانِ العزاء، والكتابة في صحائف الحزن وإنشاد المراثي في حضرة المفجوعين

لا بد أنهم أقوياء بقدرما أنا ضعيف ومُبدعون بقدرما أنا عاجز

لن أغفر لأؤلئك الذين سارعوا لتداول الخبر كأن الموت حدث سياسي يستحق السبق، ولن أنسى غِلاظَ القلوب الذين نقلوا على صفحاتهم دفنَ حبيبٍ وصاحبٍ نبيل؛ دون أن يُقيموا وزنا لأفئدة مكلومة وقلوب مخصومة وأكبادٍ حَرّا وعيون باكية ..

سقَى الله ذلك القبرَ سُقيا رحمة، ونوّره بنوره وجعله روضةَ جنة ودار نعيم، وأفرغَ صبرًا على أهل تلك الأرض الطيبة (اغشورگيت) وله الحمد على ما أعطَى وعلى ما أخذ، ولا حول ولاقوة إلا به.