إعلانات

تفكيك أوروبا ـ الهدف الخفي لاستراتيجية الأمن الأمريكية!

سبت, 13/12/2025 - 02:56

 

حسن زنيند

 

أثارت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية صدمة في أوروبا والتي تؤسس لتغيير جذري في عقيدة واشنطن الخارجية لم تعد فيه القارة العجوز أولية استراتيجية. موضوع استأثر أوروبيا باهتمام سياسي وإعلامي واسعين.

من وجهة نظر أوروبية محضة، فإن أبرز ما يثير الانتباه في العقيدة الأمنية الأمريكية الجديدة ليس كونها تُميط اللثام عن جوانب جديدة كانت مجهولة، وإنما بالعكس، فهي تؤسس بشكل رسمي لا غبار عليه، لما كان يُهمس خلف الأبواب المغلقة.صورة من: picture-alliance/dpa/J. Kalaene

عرض دونالد ترامب الجمعة (الخامس من ديسمبر/ كانون الأول 2025) استراتيجية تقوم على تحوّل جذري في أولويات سياسة واشنطن الخارجية تقوم على نقل وإعادة تركيز القوة من الساحة العالمية إلى الجوار الإقليمي. الاستراتجية الجديدة تُنذر بزوال الحضارة الأوروبية وتقفل بشكل جذري أبواب الهجرة الجماعية. العقيدة الجديدة تُحدد رؤية أمريكية خارجة عن المألوف، تتصدّر فيها أميركا اللاتينية أجندة واشنطن وبالتالي الابتعاد عن آسيا في مواجهة صعود الصين، مع تسجيل تراجع كبير في اهتمام الإدارة الحالية بالشرق الأوسط وفي أوروبا. وفي تدخل مباشر في الشؤون الداخلية للحلفاء الأوروبيين، أكدت العقيدة الأمريكية الجديدة ضرورة العمل على "تنمية المقاومة لمسار أوروبا الراهن داخل البلدان الأوروبية نفسها". التوجه الأمريكي الجديد ستكون له تداعيات على عدد من الملفات الاستراتجية المهمة بالنسبة لأوروبا كالحرب في أوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر.

وبهذا الصدد كتبت صحيفة "إندبندنت" اللندنية (الثامن من ديسمبر) معلقة "من المؤكد أن فكرة كون دونالد ترامب، المنغمس في بريق جائزة الفيفا للسلام عديمة المصداقية، قد يكون في مزاج يسعى فيه لتحقيق سلام عادل ودائم في أوكرانيا هي مجرد وهم (..) إن القلق الكبير يكمن في أن التعاطف العميق لترامب مع روسيا وسعيه لتحقيق أي اتفاق، مهما كان غريبًا، قد يؤدي إما إلى فشل المفاوضات بشكل كامل، بحيث تتخلى أمريكا عن أوكرانيا تمامًا وتخفف العقوبات ضد روسيا، أو إلى اتفاق يتوافق تقريبًا مع شروط الكرملين، مما يعرض أوكرانيا والدول الأوروبية الأخرى وحلف الناتو نفسه إلى موقف خطير. وتزداد هذه المخاوف مع الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة، التي تكشف أن سياسة واشنطن تشمل تقويض الحكومات الأوروبية الليبرالية المنتخبة ديمقراطيًا، وإضعاف الاتحاد الأوروبي برمته، ومنع توسيع حلف الناتو، وبدلاً من معاملة الحلفاء الأوروبيين كشركاء يقتسمون مع الأمريكيين قيما مشتركة، تفضل إدارة ترامب أن تجعلهم قريبين من نموذج المجر".

ترامب يرغب في أوروبا "مكسورة الجناح"

من وجهة نظر أوروبية محضة، فإن أبرز ما يثير الانتباه في العقيدة الأمنية الأمريكية الجديدة ليس كونها تُميط اللثام عن جوانب جديدة كانت مجهولة، وإنما بالعكس، فهي تؤسس بشكل رسمي لا غبار عليه، لما كان يُهمس خلف الأبواب المغلقة أو في بعض الخطابات الحماسية لبعض كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية. وبات من الواضح تماما أن واشطن لا ترغب في أوروبا قوية وموحدة وإنما في كيان ضعيف مشتت يُسهل التعامل مع دوله المجزئة بما يخدم مصالح واشنطن. لطالما ادعت إدارة ترامب أن هدفها هو الدفاع عن أوروبا بجعلها فعالة وقادرة على تحمل المزيد من المسؤولية.

غير الاستراتيجية الجديدة، قد قطعت الشك باليقين، وأظهرت أن هدف الولايات المتحدة صراحةً هو زرع بذور التفرقة بين دول الاتحاد الأوروبي، بتقوية الحركات القومية، وبالتالي منع القارة العجوز من أن تصبح قوة جيوسياسية قادرة على منافسة الولايات المتحدة، رغم قوتها الاقتصادية الكبيرة وحجم سكانها البالغ حوالي 500 مليون نسمة.

الوثيقة تعتبر أن هناك خطرا حقيقيا لانهيار حضاري أوروبي لكون بعض أعضاء حلف الناتو سيصبحون في المستقبل أغلبهم "غير أوروبيين". ولذلك، يصبح من غير المؤكد ما إذا كانوا سيرون مكانهم في المستقبل داخل الحلف أو إلى جانب الولايات المتحدة. صحيفة "فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ" الألمانية (السابع من ديسمبر) كتبت بهذا الشأن معلقة "تعتبر الوثيقة  الاستراتيجية (الأمريكية) أن الحكومات الأوروبية ستقوم "بتقويض العمليات الديمقراطية"، دون تقديم أمثلة محددة. وقائمة الاتهامات (ضد أوروبا) طويلة: الرقابة، قمع المعارضة السياسية، "فقدان الهوية الوطنية"، سياسة هجرة إشكالية. الحكومة الأمريكية خلصت إلى أن القارة لن تكون "قابلة للتعرف عليها" بعد عشرين عامًا، إذا لم تتغير الاتجاهات الحالية".

برلين تتمسك بالناتو وتدعو لتقوية المٌكون الأوروبي فيه

في رد فعله على الوثيقة الأمريكية، ألمح المستشار الألماني فريدريش ميرتس (11 ديسمبر) لأهمية تقوية المُكون الأوروبية في حلف الناتو على مستويي السياسة الخارجية والأمنية واعتبر ذلك "أولوية مطلقة". تصريحات ميرتس جاءت خلال لقاء جمعه مع مارك روته الأمين العام للحلف الناتو. واستطرد ميرتس موضحا "هذا يعني أنه حيثما يمكننا التعاون مع الولايات المتحدة بما يخدم مصالحنا، بعيدا عن الخطابات، سوف نواصل ذلك بالطبع (..) سنقوم بذلك كأوروبا موحدة وقوية. إن الحفاظ على تماسك هذه القارة تحت الضغط وعدم السماح لأي شيء أو أي شخص بتقسيمها هو أمر بات أكثر أهمية من أي وقت مضى. نحن بحاجة إلى هذه القارة الأوروبية الموحدة والقوية أكثر من أي وقت مضى (..) إن استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أعلنتها الولايات المتحدة الأسبوع الماضي تؤكد لنا أننا نسير في الاتجاه الصحيح".

صحيفة "دي فولكسكرانت" الهولندية (11 ديسمبر) كتبت بهذا الشأن معلقة "بعد نشر الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة، بدا أن السياسيين والمعلقين الأوروبيين (مرة أخرى) يمرون بلحظة كشف مفاجئ، تكاد تكون ذات طبيعة دينيًة، وتتعلق  بالطابع المتطرف لإدارة ترامب، ونهاية العالم الأطلسي وبالتالي نهاية أمريكا كراعي للنظام القانوني الدولي (..) يبدو أن عصر التملق والمجاملات قد انتهى بالنسبة لأوروبا. لا يمكن إنقاذ أوكرانيا والأمن الأوروبي إلا إذا تخلت أوروبا عن أوهامها بشأن أمريكا وأدركت ما يعنيه زحف  روسياالمستمر بالنسبة لأمنها الخاص. وهذا يتطلب وعيًا جماعيًا لم يكن موجودًا حتى الآن: أوروبا لأول مرة منذ ثلاثة أرباع القرن تواجه أسئلة كبيرة حول الحرب والسلام دون دعم الولايات المتحدة".

تحرير: ابتسام فوزي