د. أحمد سالم فاضل
أستاذ الاتصال ونظريات الإعلام في جامعة العلوم الإسلامية بالعيون
كثيرا ما نسمع كلمات متداولة بين الناس، مثل: "ذاك الخبر قالته الجريدة" أو "جاء في الانترنت" أو "أرسلته شنقيتل". هذه العبارات كانت تمر من آذاننا كل يوم وكأن من يقولها يريد أن يوثق الخبر. وقد أضيفت إليها في السنوات الأخير "ذاك نشره الفيسبوك".
يختلف المقصود بهذه العبارة باختلاف قائليها؛ فهي حين تصدر عن صحفي، أو مطلع على أصول العملية الإعلامية، أو قارئ للإعلام، لا تعني أكثر من عزو الخبر أو المعلومة إلى مصدر من المصادر، وقد تحمل في ثناياها انتقاصا من مدى الصحة أو تشكيكا فيها.
وهي تحيل في كل الأحوال على مصداقية المصدر؛ فإذا كان المصدر وسيلة إعلام ذات مصداقية في الساحة الوطنية، أو مدونا مشهورا بدقة معلوماته، حتى ولو لم يكن معروفا في شخصه، فإنها تعني حينئذ نوعا من التوثيق، أو تأكيد المعلومة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن المصداقية، لا تتطلب معرفة العاملين في المؤسسات الإعلامية، ولا المدونين بشكل شخصي، ذلك أن أغلب وسائل الإعلام التي تتحلى بالمصداقية تأخذ مصداقيتها كمؤسسة، وبعد ذلك يتعرف الناس على أشخاص العاملين بها.
كما أن بعض الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي حصلت على مصداقية كبيرة بين الجمهور دون أن يكون أشخاصها معروفين.
ولكن هذه العبارة تأخذ دلالة أخرى إذا كانت صادرة من الناس العاديين؛ فهي تعني في عرفهم غالبا، تأكيدا مطلقا للمعلومة، وكأن هذه الوسائط فوق الشبهات، أو لا يتطرق الشك إلى صدقيتها.
إن هذه الظاهرة لا تقتصر على موريتانيا أو بلدان العالم الثالث؛ فما زالت الدراسات تؤكد أن من يثقون في الإعلام يفوقون الستين بالمائة من الجمهور. لكن مع ذلك ترتفع نسبة الذين أصبحوا يغربلون ما تقول لهم وسائل الإعلام، وهناك تنام مضطرد في نسبة الذين يفرقون بين وسائل الإعلام التي لديها مصداقية، ووسائل الإعلام التي تشتهر بالكذب.
يقول السيد / ميج جر ينفليد في كتابه الصحافة في واشنطن "نحن نحجب المعلومات عن عمد وفقا لأسس معتادة ونكذب بصفة جوهرية نحن لا نقول كل ما نعرفه حتى ولو كان في صميم الموضوع".
من هذه الزاوية أحببت أن أتطرق إلى موضوع المصادر الصحفية؛ فأنا أعتقد أن ثقة الناس في وسائل الإعلام تطرح مسؤولية كبرى على الصحفيين، وعلى المؤسسات الصحفية. وقد أشبع الباحثون، وأساتذة الإعلام أنواع المصادر، وأساليب التحقق منها، ووسائل التحقق، بحثا، وهي مبثوثة في الكتب والمقابلات الأكاديمية لمن أراد الرجوع إليها. وقد وجدت في وقتنا الحاضر تخصصات كاملة وقطاعات بالمؤسسات الإعلامية الكبرى، هدفها التدقيق في وسائل التواصل الاجتماعي وما ينشر فيها من أخبار..
هذا علاوة على برامج التحقق من الصور وفيديوهات، وكشف آثار التركيب.
ولا بأس أن أشير هنا إلى وسيلة مهمة أعتقد أن غيابها في وسائل إعلامنا المحلية يتطلب وقفة خاصة، هذه الوسيلة هي التوثيق؛ وأعني به الاتصال المباشر بالمصدر دون وساطة. فكثير من وسائل إعلامنا المحلية، والألكترونية خاصة تعتمد في نقلها للأخبار النوعية على مصادر وسيطة، كما أنها في كثير من الأحيان لا توثق اتصالاتها بالمصادر، نظرا للحرج الذي تواجهه هذه المصادر في التصريح بالمعلومات.
ومن المعروف أن من حق المصدر، إذا كان هناك مبرر موضوعي، أن يتحفظ على ذكر اسمه، لكن التحفظ ينطوي على مخاطر كثيرة؛ وأولها أن يكون المصدر يحاول استغلال وسيلة الإعلام في صراعه مع أطراف أخرى، أو تمرير إشاعة وفي هذه الحالة فإن فطنة الصحفي وحدها، واستقلاله عن مصادره هي التي تضمن عدم وقوع الجمهور في الاستغفال عن طريق نشر وجهة نظر طرف ما في القضية على أنها خبر أو معلومات.
الطرح السابق يقودنا إلى السؤال التالي عن دور الصحفي في الأخبار، وهل هو ناقل أم صانع؟ لا شك أن الصحفي في الأصل ناقل أخبار (أتحدث هنا طبعا عن صحافة الأخبار، وليس عن الصحافة الاستقصائية) فهو ينقل إلينا ما توصله إليه حواسه الخمس، مما رأى أو سمع، أو شم أو تذوق أو لمس.
ولكن هل يعني هذا أنه مجرد ناقل، ينقل كل ما تلتقطه حواسه؟ الجواب برأيي لا. فالصحفي ناقل ناقد، فهو يفحص ما ينقله إلى الجمهور قبل، ويطرح عليه الأسئلة المنطقية، المتعلقة بالمعقولية في ضوء الوظيفة والسياق، وعلاقات المصدر بالقصص وبأطرافها الفاعلين.
إن عملية النقد والفحص يجب أن تخضع لمعايير علمية دقيقة، حتى تكون عملية نقد صحيحة تنتج عنها عملية نقل سليمة.
ولذا يجب استحضار معايير أولية، مهمة، نورد منها أمثلة دون شرح، بسبب ضيق المقام:
1. الزاوية، يجب أن تكون زاوية المعالجة صحيحة، بحيث تتجه إلى كشف أكبر قدر من الحقائق، وليس إلى حجب أكبر قدر من الحقائق.
2. اللغة، يجب أن تنتقى لغة واصفة بأكبر قدر ممكن، وأن تركز على ما تدركه الحواس.
3. السياق يجب اختيار السياق الذي يدعو إلى الفهم، ووضع خلفية للخبر أو القصة الخبرية، تساعد في فهم أحداثه، وليس في دعم وجهة نظر أحد أطراف القضية.
4. التعددية، فيجب أن ترد وجهة نظر كل الأطراف المتعلقة بالقصة الخبرية، أو على الأقل يأتي تبرير غيابها.
إن الصحافة يجب أن تعي مسؤوليتها بحق تجاه الجمهور، وهو أمر لا سبيل إليه إلا باتباع قواعد التدقيق، والحرص على إعمالها كلها في كل قصة وكل وقت، فهي وحدها الضامن لوجود وعي سليم، يحمي مهنة الصحافة من كل أعدائها، وأولهم المنتسبون إليها ممن لا يعرفون من أين تؤكل كتفها.