أرِني ما في محفظتك أقل لك من أنت! إنك تُخزِّن فيها ذاتك. كان والدي رحمه الله على غرار أترابه، وآبائه وأجداده، ومن المغاربة أجمعين، يتحرَّف شكارة جلدية صفراء، صناعة مغربية أصيلة. كانت لا تفارقه أبدا، رغم أنها لا تحوي من متاع الدنيا غير بضعة فرنكات، أو ريالات لم تكن نفسه تسمح له بصرفها، كما قال لنا مرة، وهو يذرع الطرقات، صيفا وشتاء، لشراء حبات من الحمص أو الفول المسلوق (طايب وهاري) يشتهيها، ولا يرى أبناءه يتقاسمونها معه. وكان منظر شكارة والدي المطرزة بخيوط من الحرير يثيرني منذ طفولتي، ولاسيما حين كان يهم بالخروج من البيت. يضع شريطها الحريري الأحمر المقيد بعروتيها، على كتفه الأيمن بعد إمالة رأسه، وتتدلى الشكارة على جنبه الأيسر، ثم يلبس بعد ذلك جلابيته الصوفية السوداء. لم تكن لأمي شكارة فالصُّرة المحزمة على شدة منديل الرأس حقيبتُها. وها نساؤنا يتبارين على اقتناء حقائب الماركات العالمية.
سألته مرة ممازحا: ماذا في شكارتك يا أبي؟ إنك تطرِّفها أبدا، وتضعها في مكان لا تصل إليه أيدينا، وتحرص على أن تكون دائما على كتفك؟ بكل تأكيد استوعب سوء نيتي، فقال لي: الآن سأقلبها لك لترى ما فيها من ثعابين وحيات. ورفع جانبها العلوي الذي يتدلى على وسطها، وفتحها، وأخرج منها سكينا حادة (بوضلعة)، وسبحة قديمة، وقطعة قماش صغيرة على شكل مخدة غرس فيها أنواعا من الإبر، ونبتة بشنيخة يخلل بأعوادها الرقيقة أسنانه، ومخيطا، وبضعة ريالات، وحجرة مِسنّ في حجم الكف يستعملها لشحذ السكين، أو للتيمم لصلاة طارئة.
لم أتفاجأ بما رأيت، فأنا أعرف المزود وما فيه. وقلت له: ظننت أن فيها الأوراق المالية الكبيرة محزمة بقنب قوي يحفظها من التوزع في الشكارة. أجابني: لا يملك تلك الأوراق سوى كروش الحرام. وأنا لا أطعم أولادي إلا بالحلال. ولما واجهته بفلان من عائلتنا الذي كان عاملا في شركة، وترك لأبنائه، وبعضهم في مثل سني، سيارتين، وثلاثة منازل، يسكنون في واحد منها من ثلاث طبقات، ويتصرفون في ثمن كراء الآخريْن. أحسست بأن كلامي كان قاسيا، فأجابني متأثرا: لقد تركت لكم الستر. والستر في ثقافتنا حين يُدعَى به لأحد من الناس يؤتى موصولا بالعبارة الجامعة: «السترْ الذي لا يَبلى ولا يخسرْ». لم أفهم وقتها معنى الستر، أو لم أكن مؤهلا لمعرفته بسبب ميعة الصبا ونزق المراهقة. وكلما تقدم العمر، وانقضت أزمان أدركت حقيقة كلمة الستر، التي لا يمكن لأي كان أن يفهمها أو يفسرها أو يؤولها، أو حتى يقبلها.
لم أفرح قط بشكارة، وقد صرنا نسميها محفظة، طيلة سنوات الدراسة من الابتدائي إلى البكالوريا. كانت دفاتري القليلة ملء يدي، وأقلامي في جيبي. وحين تهطل الأمطار أدسها تحت ملابسي ملاصقة لصدري. لكني لم أكن أحسد أيا من التلاميذ الذين كانوا يتباهون بمحفظاتهم الجلدية أو الأنيقة. صار أبناؤنا وحفدتنا يجرون حقائب مليئة بالكتب الغالية والكثيرة وغير المجدية، وكأنهم يُهيَّؤون لترتبط أحلامهم بالمطار، وهجرة الوطن.
وها أنا ذا، أرث عن أبي، وقد بلغت العشرين من عمري، حمل جراب أضعه مباشرة على كتفي الأيسر دون أن أتحرَّف به، كما كان يفعل مع شكارته. لا سكين فيه ولا إبرة. جراب يحتوي على كتب وأوراق وأقلام، مختلفا عن كل ما كنت أحلم به: محفظة أمسكها بيدي، وأحركها أماماً وخلفاً وأنا أسير واثقا من خطواتي. وستكون في هذا الجراب كل أسباب الستر التي لم أكن أقدرها، أو أحلم بها. أصبح الجراب متصلا بي في السفر والحضر، وصار كل من يراني غاديا أو رائحا لا يراه إلا جزءا مني. ولا أحد من أبنائي أغراه الفضول في كل مراحل أعمارهم ليسألني، يوما، عما فيه. منذ أن فتحوا أعينهم يعرفون ألا أصفار فيه ملونة أو مغرية، وإنما أسفار وأوراق وكتب، قلما كان يغري بعضَهم الفضولُ لمعرفة ما فيها.
كان الجراب رفيقي الوحيد منذ أواسط السبعينيات، وأنا أسافر بين المدن والقرى للمشاركة في قراءة نقدية، أو إلقاء مداخلة حول واقعنا المغربي والعربي، وقضيتنا الفلسطينية. ولم يكن يزيد على الكتب والأوراق غير قشابة للنوم، وفرشاة أسنان وموسى للحلاقة. ومنذ أواسط الثمانينيات صارت الدعوات تنهال عليّ من مختلف العواصم العربية للمشاركة في مؤتمر، أو ندوة. وكان ما يهدى إلينا مع أوراق الفعاليات الثقافية حقائب جلدية رفيعة كالتي تمتلئ بالدولارات. ولقد تجمعت لدي منها عشرات الحقائب، حتى جاءت الثورة الرقمية، فصارت بعض الملفات الورقية كل ما يقدم لنا. لكن الجراب الذي أختاره بحرِّ مالي هو ما كنت أوظفه، ولم أحمل أيا من تلك الحقائب لا إلى الكلية، للتباهي، ولا إلى المقهى للتميز. الجراب هو أنا، وأنا الجراب. وكل من يرى جرابي، قبل أن يراني، يدرك أني حامله، وليس غيري.
في أواخر التسعينيات بدأ الهاتف المحمول يغري بالامتلاك، وشرع الكثيرون يتباهون بما لديهم. واقترح عليّ زميلي الوهابي أن نلتقي لنذهب لشراء هاتف. فأخبرته بأني لا أحتاج إليه، واقترحت عليه الذهاب لشراء حاسوب مكتبي، ومضى كل منا إلى وجهته. وصار الجراب يستضيف إلى جانب الأوراق والكتب الأقراصَ المرنة التي صارت تفرض عليّ التوجه باستمرار، ليس إلى المقهى للقراءة والكتابة، ولكن إلى «مقاهي السيبر» لتحميل المقالات والدراسات والكتب القليلة التي كانت متاحة. وحصلت بعد ذلك على الحاسوب المحمول، وجرابه، بعد أن صار متوفرا، فكان ما يزخر به من أدوات ووظائف منافسا للكتب التي كان يحتويها، فصارت أعدادها تتقلص حتى اختفت نهائيا إلا ما كان منها غير متوفر في الفضاء الشبكي. وصار الحاسوب وجرابه أنا، وبقيت أسير الجراب والحاسوب رفيقيَّ في الغربة الذاتية، والعزلة المفتوحة على عالم أكثر شساعة، والمتفاعلة مع ثقافات لا نهاية لها، حيث أجدد فيه هويتي الثقافية وأطورها، متقاسما إياها مع الهوية الإنسانية التي تسمو على كل الهويات الضيقة والمتحجرة، والمتعالية على كل الأمراض اليمينية العنصرية، والأوصاب المتطرفة المقيتة أيا كانت أشكالها وأوهامها وخلفياتها.
كاتب مغربي

