
صورة من حرق جثامين القتلى البيظان في دكار خلال أزمة 1989.
الفتنة أشد من القتل… لأن الجريمة لا تقع إلا بعد أن تُصنع الفتنة في النفوس.
فالفاعل في النهاية ليس وحده من يمارس التعذيب أو يتورط فيه، بل من يهيئ المناخ لوقوعه،
ومن يزرع في القلوب خطابا يجعل ذلك الانتهاك ممكنا، ويغطي على أسبابه،
ويحوّل الألم إلى مادة للتجييش بدل أن يكون جرس إنذار.
ومع ذلك، هناك من يريد أن يبدأ التاريخ من إنال 1991،
مع أن إنال لم تكن بداية الحكاية،
بل إحدى نتائجها الأخيرة.
والعدالة لا تُبنى على نصف رواية.
×××÷
1. الجذور: الفتنة بدأت قبل إنال… وقبل 1966… وقبل قيام الدولة
لم يكن الاستعمار يستهدف الأرض فقط، بل كان يضرب شبكة التواصل الثقافي والديني التي جمعت الموريتانيين لقرون.
كان إحراق القرى يعني في الوقت نفسه إحراق المحاظر العربية التي يلتقي فيها أبناء البلاد، وقطع الجسور المشتركة بين الناطقين بالحسانية والبولارية والسوننكية والولفية.
وكان قتل أساتذة العربية والقرآن من السونيكي والبولار والوولف، إعداما للذاكرة الجامعة، ومحاولة لخلق مجتمع منقسم يسهل التحكم فيه.
وفي هذا السياق، تأتي شهادة المقدم الفرنسي هنري أفري عن إحراق قرية قانتي السوننكية سنة 1886، حين وصف النيران وهي تلتهم القرية حتى لم يبق منها إلا جدران سوداء من أثر الحريق.
كان ذلك الحريق أكثر من عملية عسكرية؛ كان قطعا مقصودا للشريان الثقافي الذي جمع القوم على مدى قرون.
ومن هنا — لا من إنال — بدأت شرارة الفتنة الأولى.
لقد ذكر العالم الجليل المرحوم "محمود بابا" مؤسس مدارس الفلاح ان الفرنسيين في الأربعينات اعترضت بعضا من ذويه كانوا في أول بعثة موريتانية للأزهر، مدعين انه أراد بيعهم كعبيد، حتى لا بحيى التواصل من جديد.
البداية مرة أخرى ليسن من إنال
---
2. 1966… حين صُوِّرت العربية كعدو إستراتيجي للبعض
في عام 1966، قررت الدولة إضافة ساعتين من العربيةوساعة من التربية الإسلامية في التعليم الثانوي، فاشتعلت الاحتجاجات، واستقال كل وزراء الضفة ورئيس البرلمان وقتل العشرات، وتحول قرار تربوي بسيط إلى أزمة هوية.
وهنا حقيقة يتم تجاوزها عمدا:
الحركات القومية العربية في موريتانيا لم تظهر إلا بعد أزمة 1966، وليس قبلها.
أي أن التحريض سبق ظهور هذه الحركات، لا أنها هي من صنعت الشرخ.
فالبيئة كانت مهيأة سلفا للفتنة قبل أن تولد تلك التيارات.
--'---
3. بيان أفلام 1986… تصدير الأزمة إلى الخارج
في سنة 1986، اختارت حركة أفلام أن تقدّم موريتانيا في الخارج على أنها “دولة عنصرية” والحقيقة حينها ان أغلب موظفي الدولة من اليولار والسونكي وفيهم من تم تجنيسه من السلطة حينها من السنغال وغيرها .
لم يكن ذلك سعيا للإصلاح او دعوة للعدالة بل تدويلا للأزمة، وخطوة نقلت التوتر من الداخل إلى إطار إقليمي ودولي زاد الموقف اشتعالا وخلق كراهية لدى الأفارقة السود اتجاه موريتانيا.
---
4. 1989… دم الموريتانيين في السنغال، التحريض بدأ بالبيان وانتهي بالمأساة
لا يمكن النظر إلى أحداث السنغال 1989 دون وضع بيان أفلام 1986 في سياقه الصحيح.
فالبيان قدّم صورة قاتمة عن موريتانيا، وأنتج مناخا من الريبة استُخدم في بعض الأوساط داخل السنغال لتغذية التوتر.
وعندما وقع الخلاف الحدودي في 1989، وجد الشارع هناك أرضية فكرية مشحونة مسبقا، لم تبدأ من الصفر، بل من تصور غذّته رواية “التمييز” التي رُوّجت قبل ثلاث سنوات.
كانت النتيجة مأساوية:
موريتانيون قُتلوا حرقا وضربا،
وأسر طُردت من بيوتها،
وانفجرت أزمة لم تكن لتصل إلى ذلك الحد لولا الشرخ الذي زرعه البيان في بيئة مضطربة أصلا.
ومع ذلك… تُرفع اليوم حادثة وتُخفى أخرى، كأن الدم يصبح أثمن أو أرخص بحسب الرواية.
والعدالة التي تنتقي ضحية وتخفي أخرى… ليست عدالة، بل استمرار للفتنة.
---
5. إنال 1991… نتيجة لا بداية
نعم، ما حدث في إنال ظلم، وما جرى في التحقيق جريمة.
لكن تحويل إنال إلى “الأصل” هو قطع للسياق وإخفاء لجذور المشكلة.
إنال كانت حصاداً لما سبقها:
حصاد الفتنة التي زرعها الاستعمار
حصاد أزمة 1966
حصاد بيان 1986
وحصاد التحريض الذي فجّر أحداث 1989
ولا يمكن قراءة 1991 بمعزل عن هذه السلسلة.
---
6. كتاب “جحيم إنال”… شهادة ألم لا كتاب دولة
ما كتبه النقيب "محمود سي" شهادة إنسان خرج من تجربة قاسية، وهي محترمة من زاويتها الإنسانية،
لكن بناء ذاكرة وطن لا يكون بشهادة واحدة ولا بمنظور واحد.
فالتاريخ لا يكتب بلحظة غضب، ولا من قلب جرح مفتوح،
وقد رأينا كيف تحولت شهادات مشابهة في العالم الإسلامي إلى وقود للتطرف لأنها خرجت من الألم لا من التحليل.
---
ختاما أقول:
إذا أردنا الحقيقة…
فلنذكر إنال والسنغال، و1966 و1986، وجذور الاستعمار.
لا أن نختار صفحة ونمزق بقية الكتاب.
وإذا أردنا عدالة تُبنى عليها الدولة،
فلا بد أن تكون عدالة تشمل كل الضحايا لا ضحايا طرف واحد.
الفتنة أشد من القتل…
ومن يوقظها اليوم يكرر الجريمة ذاتها التي دفعنا ثمنها من قبل.
دامت موريتانيا بلا فتنة.
أحمدو ولد أمبارك
ضابط متقاعد

