
حين يكتب الباحث الكبير الأستاذ عبد العزيز الساوري رئيس مصلحة المخطوطات بوزارة الشباب والثقافة والتواصل في المملكة المغربية الشقيقة عن شخصية من طراز الشيخ سيدي الكبير، فإنه لا يكتفي بسرد وقائع تاريخية أو جمع أخبار متناثرة، بل يفتح أمام القارئ نافذة على عالم زاخر بالمعاني والدلالات، عالم تتجلى فيه صورة العالم الرباني الذي جمع بين الولاية والعلم والهمة العالية، فكان بحقٍّ ظاهرة كبرى في زمانه وفريد عصره.
لقد أبرز الأستاذ الباحث في عمله جوانب متعددة من سيرة الشيخ، فجاء عرضه مشبعا بالروح العلمية، مؤطرا بالتحقيق الدقيق، ومفعما باللمسات الأدبية التي تليق بمقام رجل جعل من العلم رسالة، ومن المصلحة العامة هدفا، ومن اقتناء الكتب مشروعا حضاريا خالدا.
من أعظم ما تكشفه هذه الدراسة أن الشيخ سيدي الكبير لم يكن عابر سبيل في دنيا العلم، بل كان صاحب همة سامقة لا تعرف الكلل، خرج -رحمه الله- من بوتلميت قاصدا الحج، فلما عاقه خبر وجود الوباء بأرض الحجاز، لم يستسلم ولم يضيع وقته، بل حوّل مقامه المؤقت في مراكش إلى رحلة علمية مثمرة، جاب فيها دكاكين الوراقين، وحضر دلالات الكتب، وجمع النفائس التي لم تزل شاهدة على نبوغه وحرصه على العلم.
ومن الدلالات البارزة أيضا ما أورده الباحث عن علاقة الشيخ سيدي بالسلطان المولى عبد الرحمن، الذي أكرمه وأجلّه، حتى جعله من خاصته، وأخذ عن الشيخ الوِرد.
يقول الأستاذ الباحث عبد العزيز الساوري في دراسته: (... وقال أبو الفضل جعفر بن أحمد الناصري: "رحل الشيخ سيديا إلى حضرة مراكش، وافدا على السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله، ولعله كان على نيَّة التَّوجُّه إلى الحج، فعاقه عن ذلك مرضٌ، ونال حظوةً عظيمةً عنده، وأكرمه وأجله، حتَّى إنَّه عزم على منعه من الخروج من حضرته، لما رأى من علمه وصلاحه وبركته، أمسكه عنده سنةً كاملة".
وحدث أبو زيد عبد الرحمن الجزولي المعروف في مراكش بابن التلمود، وكان أبوه كاتبا للمولى عبد الرحمن: " أنَّه لما وفد الشيخ سيديا الكبير على السلطان، وجد ولده سيدي محمد السلطان ألْكَن لا يُبينُ الكلام، فَتَفَلَ في فمه، فانحلَّتْ عقدة لسانه، وانطلق بالكلام، فحباه المولى عبد الرحمن رحمه الله، بالعطايا الجزيلة، وظهائر التشريف والتوقير والاحترام، وفي ذلك يقول صاحب أرجوزة شنقيط:
وَقَدْ رَأَى وَلَد ذَا الإِمَامِ *** الْكَنَ لَا يُبينُ بالكَلامِ
وَقَدْ شُفِي بِرِيقَةِ الشَّيْخِ الوَلِي *** وَصَارَ نَاطِقَا بِمِنْطُوقٍ جَلِي
وَقَدْ حُبِي بِظَاهِرِ السَّلْطَانِ *** وَبِالجَوَائِزِ وَبِالإِحْسَانِ
ثمَّ إنَّ هذا السلطان أخذ عنه الوِرْد، وانخرط في سلك مريديه".
ونجد في تقييد لحفيده الشيخ هارون بن الشيخ سيديا باب ما نصه: "وعندنا ظهير شريف منه بتوليته على الناحية التي هو فيها، ويعده فيه بإرسال العدة والعدد" ...). اه
هذه الحظوة -كما ذكر الأستاذ الباحث وغيره- ليست مجرد تكريم سياسي أو اجتماعي، بل هي اعتراف صريح بمكانة الشيخ العلمية والروحية، إذ جمع بين العلم والبركة والصلاح، فصار موضع تقدير السلطان ومحبته.
لقد أبدع الأستاذ الساوري في تصوير شغف الشيخ سيدي بالكتب، ذلك الشغف الذي جعله ينفق الأموال الطائلة دون حساب، ويقتني النسخ النادرة التي لا تقدر بثمن، مثل النسخة الوحيدة في العالم من كتاب (الضروري في صناعة النحو) لابن رشد، وكتاب (بغية المرتبط ودرة الملتقط في الخيل)، هذه النفائس لم تكن مجرد مقتنيات شخصية، بل شكلت نواة خزانة علمية ضخمة في مدينة بوتلميت، صارت معلمة ثقافية مرموقة في موريتانيا والعالم الإسلامي والغربي.
إن ما جمعه الشيخ سيدي الكبير من ذخائر ومخطوطات لم يكن ليبقى حبيس الصناديق، بل صار مقصدا للرحالة والمستشرقين والباحثين، حتى كتب عنه لويس ماسينيون وشارل ستيوارت وغيرهما، وهو دليل على أن أثره تجاوز حدود موريتانيا ليبلغ العالم.
وهكذا تحولت خزانته إلى جسر حضاري يصل بين الصحراء الموريتانية ومراكز البحث العالمية.
لا يسع القارئ وهو يتتبع هذه الصفحات إلا أن ينوه بجهد الأستاذ عبد العزيز الساوري، الذي جمع بين التحقيق العلمي والذوق الأدبي، فأحسن عرض سيرة الشيخ سيدي، وأبرز مكانته كما هي: عالم رباني، ولي صالح، وصاحب همة عالية في خدمة العلم، والسعي في مصلحة العباد والبلاد، وحفظ التراث.
وما كتبه هو خدمة جليلة لهذا التراث، وتذكير للأجيال بضرورة الاقتداء بمثل هذه النماذج الفذة التي جمعت بين الدين والعلم والخلق والهمة العالية.
لقد حالفه التوفيق في أن يجعل من هذه الدراسة مرآة صافية تعكس صورة الشيخ سيدي الكبير، وتعيد للأذهان ذكرى رجل كان بحقٍّ غوثا للعلم، ومهوى للأفئدة، وقطبا للمعرفة.
وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي

