
في سياق الجدل المتجدد حول ملف ما يسمى إعلاميا بالإرث الإنساني ومن ضمنه أحداث سجن ولاته أواخر ثمانينيات القرن الماضي، خرج الضابط المتقاعد غالي ولد الصوفي بسلسلة تدوينات مطوّلة، دفاعًا عن نفسه وردًا على ما اعتبره «اتهامات باطلة» و«حملة تشويه منظمة» تستهدف سيرته خلال فترة خدمته في سجن مدينة ولاته في 1987-1988.
وتكتسب هذه التدوينات أهمية خاصة لكونها تتضمّن أول رواية شخصية مفصلة يقدّمها الضابط، تتناول المدة الزمنية لوجوده في ولاته، وطبيعة مهامه، وخلفيات بعض الأحداث التي يربطها منتقدوه بسوء المعاملة والوفيات داخل السجن. كما تشكل جزءًا من سردية شخصية لمرحلة حساسة من تاريخ البلاد، وتفتح الباب أمام نقاش أعمق حول الذاكرة، والروايات المتعارضة، ومساحات الحقيقة التي لا تزال محل جدل.
وحرصًا على الأمانة المهنية ومنح القارئ إمكانية الاطلاع على الرواية كما صاغها صاحبها، ننشر النصوص كاملة كما وردت في التدوينات الأصلية، مترجمةً إلى العربية دون أي تحريف أو تعديل في مضمونها.
التدوينات:
ردًّا على الأوباش المُسيَّرين، قررتُ القيام بخرجة إعلامية للرد على سلاسل الأكاذيب التي تُبث عني.
انتظرتُ طويلًا أن يخرج أحدهم للعلن من أجل تبادل الأدلة والأفكار، لكن -للأسف- ما زال الخوف يسيطر عليهم. لقد وصلت افتراءاتهم إلى حدّ اتهامي بأنني مدمن مخدرات وكحول. وأنا أيضًا، مثل بوي هارونا، كنتُ في ولاته.
تمّ تحويلي إلى ولاته في 31 ديسمبر 1987، وغادرتها في 12 مارس 1988. خلال هذه الفترة -شهران وعشرة أيام- لم أسجل أي حالة وفاة. لديّ رسائل التحويل التي تثبت ذلك. جميع الوفيات حدثت بعد رحيلي. يمكنكم التحقق من تواريخ وفيات السجناء.
أوقفوا هذه التفاهات، وإلا فاكشفوا عن أنفسكم أمام الجهات المختصة. الذين ينفخون في الضباب وينشرون الأكاذيب يعرّضون أنفسهم لخطر كبير دون أدلة ملموسة. والأسوأ من ذلك أن اسمي لا يظهر حتى في قائمة منفّذي الإعدامات. مسؤوليتي المحتملة الوحيدة تتعلق بفترة ولاته، وأتحدّى أي شخص أن يثبت أن سجينًا واحدًا مات خلال تلك الفترة، ولو بسبب الإسهال.
أنتم تروون أي شيء، مع أنكم لا تملكون حتى شجاعة النقاش مع من يرفضون الهروب أو الاختباء. لا شيء يثقل ضمائرنا. أما الكحول والمخدرات فنحن لا نراها إلا في الأفلام. ولِيَفْهَم من يفهم!
"أول وفاة حدثت في 26 أغسطس 1988"، كتاب بوي هارونا، الصفحة 125. في ذلك الوقت كنتُ قد وصلتُ بالفعل إلى ألاك بصفتي قائد سرية.. عصابة كاذبين.
***
أنتم لا تخدمون قضيتكم باختبائكم. على الأقل، الضباط الذين يواجهونكم برؤوس مرفوعة يستحقون اهتمامًا خاصًا، ولو فقط لتنويركم أكثر بشأن معاناتكم. معاناتكم تجاوزت الحدود. قُرى كاملة أُبيدت في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
لماذا تكرهون السلام إلى هذا الحد؟ لماذا تريدون البقاء عميانًا إلى الأبد بسبب الكراهية؟ لماذا تظلون كبش الفداء الأبدي لكل المجتمعات، أيًا كان الإطار الاجتماعي والزمني الذي تعيشون فيه؟
أنا متاح لكل من يرغب، لأقدم له كل الأدلة المتعلقة بشخصي بشأن ذلك الماضي المؤلم. أتحمّل كامل المسؤولية في هذا السياق، ولن أختبئ، حتى لو كنت على عتبة المحرقة.
أما إذا فضّل البعض الاستمرار في سوء الفهم والاتهامات الباطلة، فسنفهم بكل بساطة أن هذا الضجيج ليس سوى لعبة من أجل “جمهورية” وهمية لن توجد إلا في عقولهم المريضة والرجعية.
حول حادثة أستاذ التاريخ إبراهيما
خلال إقامتي في ولاته، هناك حادث واحد ما زال يؤلمني: يتعلق بشخص يُدعى إبراهيما، أستاذ تاريخ.
عندما علمتُ أن المرحوم تين يوسف غي كان من بين السجناء، نقلته إلى غرفتي، ليس فقط لكونه في سني، بل لأن ابنته عايشاتا غي كانت صديقة في الثانوية، وكنا كثيرًا ما نتناول الطعام عند عائلة كان (تيتي) أو عندها.
في أحد الأيام، وبحضور ديوب جبريل، وعالم الاجتماع كان صيدو، ومفوض الشرطة، قال لي: «يا بني، يجب أن تجدوا وسيلة لهؤلاء الناس ليروا الشمس. وإلا فكيف سيميزون بين الجيد والرديء؟ يا بني!»
فأجاب أحدهم: «ولم لا نخرجهم ليزرعوا الخضروات؟ بهذه الطريقة لن يحصلوا فقط على بعض طعامهم، بل سيرون الشمس ويُمدّدون سيقانهم».
كانت الفكرة مقبولة بالنسبة لي، وقررت تنفيذها. فأخرجتهم رغم التعليمات، وملأت جيوبهم بالفول السوداني والبسكويت.
كنتُ قد خرجت للتو من المدرسة الوطنية للإدارة، خلافًا لما كان يروّجه بوي هارونا -وهو ضابط مظلي - الذي كان يصورني كشخص مدمن على الكحول أو المخدرات. كنت أملك المعرفة، وأعرف كيف أميّز بين الجيد والرديء.
وبمجرد خروج السجناء من البوابة الكبيرة، ناداني إبراهيما قائلاً: «أيها الملازم الصغير، إن لم تكن قد درست التاريخ، فهذا يُسمّى تجارة العبيد.. أنا مستعد أن أدرّسك… يا عنصري!»
كان في كلامه شيء من الحقيقة لمن يشاهد المشهد من الخارج، لكنني كنت مكلفًا بمهمة أمنية تتقدم على كل شيء، خاصة أن أصواتًا كانت ترتفع وقد تؤول إلى الفوضى.
حاولتُ ثنيه عن الاستمرار، لأنه قد يخلّ بالنظام الداخلي للسجن.
وعلمت لاحقًا أن المرحوم تن أخبره بأن الفكرة كانت فكرته هو، وأنه هاجمني دون سبب.
حاولتُ عبر أصدقاء من التكرور أن أتواصل معه أو مع أسرته لتقديم اعتذاري ومعرفة كيف يمكنني تعويض خطئي، لكن للأسف لم أوفّق.
إنه الندم الوحيد في مسيرتي العسكرية كلّها.

