
بينما كنت أتصفح فيسبوك، وقفت مذهولًا أمام مشهدٍ لم أظن أنني سأراه بهذا الحجم والوضوح؛
لقد رأيتُ المشهد كلّه ينفجر أمامي كما تنفجر شاشة مضاءة في غرفة مظلمة؛
سيلٌ من الهجوم الجارف انطلق من حسابات على فيسبوك، منشورات متتابعة، متلاحقة، متشابهة في نبرة الصوت وركاكة البنية، كأن كاتبها واحدٌ يبدّل القناع ولا يبدّل اللغة.
كان با آدما وأزلام “أفلام” يتحركون كقطيع إلكتروني، كأنهم اتفقوا على ساعة واحدة يفتحون فيها أفواههم، ويغلقون فيها عقولهم.
كنتُ أطالع المشهد كما يطالع المرء عاصفة من الغبار تعبر مدينة نائمة، تعرف أنها ستنتهي، وإن كانت ضوضاؤها عالية.
لكن ما لم ينتهِ، وما لم يستطع أحد أن يهزّه، هو اسم المختار السالم…
ذلك الاسم الذي يقف في الثقافة الموريتانية كما تقف شجرة معمّرة وسط جفاف طويل، تورق حين يشحّ المطر، وتمنح ظلًا حين يتكاثف الحرّ، ولا تنحني إلا لربّها.
هجومهم عليه كان أشبه برشق حصى على جدار من الصلابة.
يرمون… ثم يعود صدى رميهم إليهم.
يصرخون… ثم يكتشفون أن أصواتهم لا تملك وزنًا أمام ثقل مكتبة كاملة يمشي صاحبها على قدمين.
ولأن التاريخ يحب السخرية، كانت حركة أفلام – التي تأسست سنة 1983 – حاضرة في الخط الأمامي لهذا الهجوم، الحركة التي أعلنت منذ ولادتها خطابًا حادًا لا يعرف الطريق إلى الاعتدال.
هي الحركة ذاتها التي أصدرت سنة 1986 منشورها الشهير “الزنجي المضطهد في موريتانيا”، المنشور الذي صار لاحقًا مرجعًا لكل من يبحث عن ذريعة جاهزة.
ويا للمفارقة…
وثيقة صيغت لتصف الظلم، تحولت إلى أداة ظلم جديدة، تُستخدم لإخفاء حقائق، وتضخيم أخرى، وزيادة النار اشتعالًا بين أبناء وطن واحد.
هذه الحركة التي كانت – في سنواتها الساخنة – وقودًا لاحتقان كاد أن يبتلع البلاد، تُعاد اليوم إلى الواجهة لا ببيانات مطبوعة، بل بمنشورات إلكترونية،
منشورات تلوك الماضي ولا تصنع المستقبل،
تمجد الأزمة ولا تبحث عن حل،
وتزعق بالعرق واللون لا بالعدل والعقل.
غير أن ما أثار دهشتي – أو بالأحرى سخريتي – لم يكن هجوم الحركة وحدها…
بل ظهور رجل اسمه با آدما، أحد أزلام حركة “أفلام” وواجهتها على فيسبوك، الذي يقود حملة لتفريق النسيج الوطني ويشن هجومًا على مكون البيظان، في مقدمة الراقصين على حبال هذا الصخب.
رجل لا تاريخه يشهد له، ولا حاضره يمنحه قيمة إضافية، ولا خطابه قادر على أن يتجاوز حدود الصراخ.
ولأن الحقائق حين تُروى بوضوح تصبح أكثر فتكًا من الاتهام، فدعني أقول ما يعرفه الجميع:
هذا الرجل كان في سلك أمن الطرق…
ثم هرب منه هروبًا لا يشبه الاستقالة ولا يشبه الشجاعة.
ترك زيه وراءه كما يترك الممثل رداء المسرح حين يشعر بأن دوره انتهى.
فرّ إلى بلجيكا، لا زائرًا ولا دارسًا، بل طالبًا للجوء، يبحث عن قصة يقدّمها لمكاتب الهجرة، قصة فيها "اضطهاد"، و"خطر"، و"تهديد"، ولو كان كل ذلك لا يشبه حياته في شيء.
منذ ذلك الحين، صار بطلاً ورقيًا، يعيش في روايته الخاصة، لا في الواقع.
هرب من سلكه…
هرب من واجبه…
هرب من الأرض التي نشأ عليها…
ثم عاد إلى فيسبوك يبحث عن انتصار سهل، انتصار يُكتب من خلف شاشة، في هجوم على رجل لم يهرب يومًا من قلمه، ولا من وطنه، ولا من مسؤوليته الأخلاقية أمام الناس.
وكم يثير الأسى أن يتحول رجل هارب إلى “مناضل” بين عشية وضحاها،
وكم يثير الضحك أن يهاجم رجل لم يثبت يومًا في موقعه، رجلًا ثبت في مواقفه ثلاثة عقود بلا اهتزاز.
وإذا كان المختار السالم شجرة، فإن با آدما وأمثاله ليسوا إلا ظلًا يتبدّل بطول الشمس وقصرها.
وإذا كان المختار نهرًا، فإنهم ليسوا إلا زبدًا يعبر السطح ولا يمس العمق.
وإذا كان المختار صوتًا، فإنهم مجرد ضوضاء… والضوضاء مهما علت تبقى بلا جرس ولا معنى.
ثم تأتي حركة “أفلام” في المشهد كجوقة احتياطية، تصفق للرداءة، وتعيد إنتاج خطابها القديم،
خطابٌ لم يكن يومًا صوتًا للعدالة، بل صوتًا للانتقام.
خطابٌ رفع شعار المظلومية ليخفي به مظالمه.
خطابٌ بنى جدارًا بين أبناء الوطن بدل أن يبني جسرًا بينهم.
وليس غريبًا أن تتلاقى هذه الأصوات الصغيرة في ممر واحد:
ممرّ الكراهية،
ممرّ الشعارات الفارغة،
ممرّ الماضي الذي لم يتعلم من نفسه.
أما نحن، فإننا لا نقف مع المختار السالم مجاملة، ولا نخوض دفاعًا عاطفيًا…
نحن نقف معه لأننا نقف مع حقيقة واضحة:
أن الثقافة لا يحاربها إلا الجاهل،
أن الفكرة لا يكرهها إلا من يخاف منها،
أن الضوء لا يزعج إلا من اعتاد الظلام.
با آدما وأمثاله سيغادرون هذا المشهد كما غادروه من قبل.
سيبقون أصواتًا بلا أثر، معارك بلا نتيجة، فقاعات بلا ماء.
أما المختار السالم…
فهو من الثوابت التي لا يغيرها صراخ العابرين،
وهو من القامات التي تبقى مهما تبدل الزمن،
وهو من الرجال الذين يكتب التاريخ أسماءهم بالحبر لا بالضباب.
وستبقى هذه الحملة – بكل ما فيها – مجرد صفحة صغيرة في كتاب كبير،
كتاب عنوانه:
حين يهاجم الضجيجُ الصوتَ، ينتصر الصوتُ دائمًا.

