
كما هي العادة في كل سنة، تناول ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الذي ينظّمه «مركز الإمارات للسياسات» أوضاعَ النظام الدولي في تحولاته ومستجداته وآثارها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، مع إبراز دور الإمارات الفاعل في الخريطة الجيوسياسية الدولية.لقد اختار الملتقى الذي التأم مؤخراً موضوعَ «تحولات الهيمنة والتكيف» عنواناً لحواراته الثرية، التي شارك فيها خبراء ومفكرون وسياسيون من مشارب وخلفيات عديدة متباينة. ولا شك في أن هذه العبارة تلخِّص عمقَ الرهانات الحالية للنظام الدولي، الذي يشهد تطوراتٍ مثيرةً، تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عليه من إشكالات.
ومن أبرز هذه الإشكالات دور الولايات المتحدة في ضبط وتوجيه العلاقات الدولية في سياق عودة الرئيس ترامب للسلطة وما لها من دلالات في الساحة السياسية الداخلية التي تشهد استقطاباً حزبياً وأيديولوجياً غير مسبوق. ولا شك في أن السؤال الجوهري هو: هل تُشكِّل الحالة الترامبية ظاهرةً عابرةً في الولايات المتحدة بحكم السمات الخاصة المميزة للرجل، أم هي مظهر لتحول جذري عميق في الدولة العظمى التي تقود العالم؟
من المؤكد أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة ستحمل الإجابة على هذا السؤال المحوري.ومن تلك الإشكالات أيضاً ما يتعلق بخريطة القوة في العالم الجديد، سواء ما يتعلق بتنامي الدور الصيني في النظام الدولي وما ولّده من ردود فعل أميركية صارمة، وتراجع نفوذ أوروبا التي تعاني من «معضلة أمنية» حادة وتحاول التأقلم مع نهاية حلف الشراكة الخاصة مع الولايات المتحدة، واشتداد الصراع الروسي الأوروبي وما يعنيه من تغيُّر نوعي في المقاربة الاستراتيجية الروسية على الصعيد الدولي، ومعارك النفوذ الجديدة المتعلقة بالممرات وأشباه الموصلات والموارد الاستراتيجية.
ولا شك في أن من أهم خصائص المنتدى الأخير الاهتمام الواسع بقضايا وأزمات الشرق الأوسط الذي شهد متغيرات عديدة في السنة الأخيرة، من بينها المواجهة الإسرائيلية الإيرانية بتداعياتها الإقليمية وتأثيرها في المحيط العربي، والتغير الذي حدث في أعلى هرم السلطة في سوريا، وآمال استعادة الدولة وبناء السلم الداخلي في لبنان، ونهاية حرب غزة وما قد يترتب عليها من عودة ملف الدولة الفلسطينية المستقلة إلى الأجندة الديبلوماسية العالمية.
هذه موضوعات عديدة تناولها الملتقى بكل حرية، وبموضوعية عالية، في إطار من النقاش الرصين والحيوية الفكرية الحقيقية.ولا شك في أن رئيسة المركز الدكتورة ابتسام الكتبي كانت صائبةً في قولها إن العالم يوجد اليوم على مفترق طرق، في مواجهة ما سمّته «عسكرة العلاقات الدولية ومنطق الصفقات والخضوع أكثر فأكثر لتوازنات القوة والدبلوماسية الشخصية والتقلبات غير القابلة للتنبؤ»، بما يكسر قواعد اللعبة الديبلوماسية العالمية التقليدية، ويضع الدول أمام تحديات عصية غير مسبوقة.
ومن هنا تكتسي عبارة «استراتيجيات التكيف» دلالتها، باعتبار أن خريطة التوازنات الدولية لم تتحدد بعد بوضوح، ولا يزال الفكر السياسي محكوماً بالنموذج القطبي القديم المتولد عن الحرب العالمية الثانية، بما ينعكس في السؤال العقيم حول احتمالات قيام القطب الواحد أو العودة للقطبية الثنائية أو الانتقال إلى حالة من التعددية القطبية. ما نراه بديهياً هو أن النموذج القطبي نفسه لم يعد قادراً على فهم تحولات النظام الدولي في بنيته الإشكالية المعقدة التي تجمع بين عناصر القوة التقليدية، خصوصاً في مجال السلاح والتفوق في الصناعات العسكرية المستقبلية، واستقلال القوى الإقليمية الصاعدة في مجالاتها الحيوية، بما يَحِدُّ من تأثير ونفوذ الدول الكبرى، وتزامن تراجع النظام الليبرالي الدولي والعودة لمنطق الحروب وسياسات العنف والتدخل الخارجي.
وفي هذا السياق المعقّد، يغدو من الصعب وضع سياسة خارجية ناجعة ومتوازنة، حتى بالنسبة للدول الرئيسية في العالم، باعتبار ضبابية وهشاشة منطق التحالفات الإستراتيجية، وتقلّب معادلة المواقف الدولية بحسب الموازين الداخلية، خصوصاً في كبريات الدول الغربية التي تعرف أزمات حادة في طبيعة أنظمتها السياسية. بعد عودة الرئيس ترامب إلى السلطة، وما أظهره من توجّهات جديدة بخصوص مقاربة الحلف السياسي والعسكري مع الاتحاد الأوروبي، ردَّدت زعامات عديدة في أوروبا القولَ بأن دول الاتحاد بَنَت استراتيجياتِها بعد الحرب العالمية الثانية على الحماية الأميركية من أجل التفرغ للتنمية الاقتصادية والرخاء الداخلي، وقد أصبح من الواجب اليوم التكيف مع معادلة التضحية بمكاسب الرخاء لتعويض مظلة الأمن المجاني.
ليس هذا التحدي خاصاً بالقيادات الأوروبية وحدها، بل هو مطروح على مختلف بلدان العالم، وكما قال معالي الدكتور أنور قرقاش، مستشار صاحب السمو رئيس الدولة، في كلمته في ملتقى أبوظبي: «إن المستقبل لن ينتمي إلى أولئك الذين يحاصرهم التاريخ، بل أولئك المُصمِّمين على تشكيله».
*أكاديمي موريتاني

