إعلانات

معمار النص… نص المعمار / سعيد يقطين

أحد, 16/11/2025 - 06:00

 

 

لا يمكننا فهم السرد القرآني فهما ملائما ما لم نحاول النظر إليه من خلال «الوساطة القرآنية» من منظور الوسائطيات التي تبحث في كيفية تحول الأفكار إلى قوة مادية، ووضعه في إطارها. إن النص القرآني، باعتباره كلام الله وليد وساطة الوحي بالرسول (ص). ومن خلال هذه الوساطة تجسد القرآن الكريم نصا تم نقله وتبليغه إلى المسلمين بصفته كلاما لتغيير تصوراتهم وأفكارهم وفق ما نزل به الوحي. ظل هذا النص يتنزل منجما وشفاها، فكان يتناقله المسلمون عن الرسول (ص) شفويا، ويتشكك فيه غيرهم طيلة ثلاث وعشرين سنة. لكن «التناقل» الشفاهي يتعرض، عادة، للتوقف أو للتغيير مع طول الزمن. فالذاكرة الجماعية عرضة لذلك بسبب وفيات الناقلين الأولين الذين حفظوا تلك النصوص من منابعها الأولى، أو بتدخل البعض في تحريف تلك النصوص بوعي أو بغير وعي لأسباب معينة.
لا بد للحِفاظ على صفاء النص المُتلَقَّى شفاها ليقاوم الزمن، ويضطلع بالرسالة التي يحملها، من مقومين مركزيين: أما أولهما فيكمن في انتقاله إلى الوسيط الكتابي وفق صيغته الأولى عبر لغة معيار لها مقومات خاصة وجامعة. وثانيا من خلال خلق الفضاء الذي يظل يتلى ويتناقل فيه، وينقل من ثمة عبر هذين الوسيطين الكتابي والفضائي إلى الأجيال القادمة. إننا هنا أمام أربعة وسائط يتم عبرها خلق التواصل بين الناس الذي يجعل العلاقة بينهم قائمة، من خلال عملية «النقل»، على تصور معين ورؤية مشتركة للعالم تظل مستمرة بينهم على مدى أزمنة طويلة.
إننا هنا أمام أربعة وسائط هي: النص، والشفاهة، والكتابة، والفضاء. أما الوسيط الأول وهو النص فلا بد أولا من أن تتحقق فيه «النصية» التي تميزه عن باقي النصوص المنتجة داخل ثقافة ما، وهي التي تجعل متلقيه أمام الحيرة التي تولدها لديه، والاختلاف بصدده: فهم بين مصدق ومكذب. وبين التصديق والتكذيب هناك إقرار منهم جميعا بأنه نص استثنائي. هنا تكمن «نصيته» الخاصة التي تتحقق من خلال لغة تتعالى على اللهجات أو اللغات المختلفة المتداولة. هذه النصية قد ترتبط بنص لشخصية لها موقعها الخاص داخل مجتمع معين (الساحر، الحكيم، الفيلسوف، الشيخ)، أو تتصل بالوحي (النبي، الرسول). ومتى فرض هذا النص نفسه، بعد طول الحجاج والترويج والإقناع، يتم نقله إلى الأتباع الذين يحرصون على حفظه ونقله بتوظيف وسائط معينة: تبدأ بالنقل الشفوي، عن طريق الحفظ (الوسيط الثاني)، ثم بالرسم، أو النقش على الحجر مثلا، أو بالكتابة (الوسيط الثالث). وخلال صيرورة التحول الوسائطي هاته، يكون الفضاء الذي يحج إليه للاتصال بمن ينسب إليه النص، موئلا لتحوله إلى مكان «مقدس» (الضريح، المعبد، الزاوية…) يصبح مع الزمن وسيطا ماديا تمارس فيه مختلف الطقوس المتصلة بما يحمله ذلك النص، علاوة على عمليات نقله وتناقله الدائم مع الزمن، من خلال عملية النسخ والتفسير والتأويل.
عندما نتأمل جيدا تاريخ الأفكار، من خلال بعض النصوص التي تحولت إلى قوة مادية ما تزال تقاوم الزمن رغم مرور عدة قرون على ظهورها (الأساطير، المعتقدات، الأديان الوثنية أو التوحيدية) نجدها جميعا تخضع للعلاقات المتينة بين هذه الوسائط التي لعبت دورا كبيرا في نقلها وتناقلها، من جهة، ومن جهة ثانية في هيمنتها على التصورات والأذهان في البيئات التي ظهرت فيها. بل إن تلك النصوص لم تقف عند حد التأثير في تلك التصورات والأذهان فقط، ولكنها أيضا ساهمت في خلق الفضاءات التي تتناسب مع طبيعتها ووظيفتها. ويدفعنا هذا إلى التفكير في إمكان وجود علاقة قوية بين «معمار» النص، ومعمار «الفضاء» الذي يمثله. ولذلك ابتدأنا بفرضية العلاقة بين السرد القرآني والوساطة القرآنية التي تتحقق من خلال القرآن الكريم باعتباره نصا تحول من الشفاهة إلى الكتابة، واتخذ له فضاء «المسجد» لتجسيد عملية نقله وتناقله.
لقد تولد عن النص القرآني مع صيرورة تطور الدعوة، وتحقيق نجاحات باهرة في تكريسها، ولا سيما بعد الهجرة إلى المدينة بناء فضاء خاص هو: المسجد. وكان أول مسجد بني في الإسلام مسجد قباء. إن من دلالات المسجد كونه أولا «مكان السجود» (ممارسة الصلاة)، وهو في الوقت نفسه المكان الذي يجتمع فيه المسلمون (الجامع) ليس فقط للصلاة، ولكن أيضا لتلقي ما يتنزل على الرسول (ص)، وما يحدِّث به المسلمين مبينا لهم أمور دينهم ودنياهم، اجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا، وثقافيا. وهذه الوظائف كلها سيضطلع بها المسجد في كل البلاد التي فتحها المسلمون طيلة التاريخ. إن المسجد كفضاء هو «بيت الله» الذي يقدم فيه «كلام الله».
لقد ارتبط النص القرآني بالمسجد ارتباطا وثيقا مثله في ذلك مثل كل الأفكار، والنصوص التي تحولت إلى قوة مادية، والتي نجدها في كل الديانات، وعبر مختلف الطقوس التي مارسها الإنسان. وعندما نتأمل جيدا هذه الفضاءات المختلفة إما عبر زيارتها، أو تكوين فكرة عامة عنها من خلال الوثائق والصور التي تقدمها، نجدها تختلف فيما بينها، اختلاف النصوص التي تتقدم من خلالها. فالمعابد الشرقية في الصين والهند تختلف عن المعابد الخاصة باليهودية والنصرانية، على سبيل المثال. إن كلا منها له طريقته الخاصة التي اتخذها معماره الذي يتناسب أولا مع الفضاء السائد في المجتمع، وإن كانت تُضفَى عليه مسحة خاصة من الجمال التي تميزه. هذه الميزة المعمارية الخاصة تتلاءم مع «نصية» النص التي تجعله مختلفا عن النصوص الأخرى في الثقافة عينها. قد يلاحظ البعض أن معمار قصر الأمير مختلف عن دار الفقير. لكن هذا الاختلاف يعكس لنا علاقة المعمار بما ينسب إليه، فملعب كرة القدم ليس مثل المدرسة إذ لكل منهما طبيعته الخاصة ووظيفته التي تتناسب مع الدور الذي يضطلع به. وهذا الاختلاف هو ما أدى بي إلى اعتبار بعد ثان يتمثل في كون معمار الفضاء (باعتباره وسيطا) والذي يبنى لنقل النص وتداوله والتعبد فيه، هو أيضا تجسيد لبنية النص الديني الذي يمثله، ويقدم فيه. فهل النص بمواصفاته المميزة هو الذي يخلق معمار الفضاء الذي يقدم فيه؟ أم أن المعمار جاء متطابقا مع مقتضيات النص ومتطلباته؟
عندما أسس الخليل بن أحمد الفراهيدي علم العروض جعله متطابقا مع فضاء الخيمة، فكانت مصطلحاته من حيث الأصل اللغوي، ومن حيث بعض المصطلحات والمفاهيم التي ترتبط بنمط عيش البدو والخيمة، مثل «العروض» نفسها، و«الأوتاد» و«الأسباب» و«الضرب» و«القافية»، و«التصريع» وغيرها مما نجده متصلا بوثوق بفضائها. وفي هذا تأكيد لما نومئ إليه حول العلاقة بين معمار النص، ونص المعمار. ويكفي أن نقارن بين الكنيس اليهودي والكنيسة النصرانية، بغيرها من المعابد، ومن بينها المسجد الإسلامي لنقف على الفرق الجوهري بين معمار نص الكتاب المقدس بعهديه ونص القرآن الكريم.
لقد اتخذ الكنيس اليهودي والكنيسة النصرانية صورة مختلفة عن معمار المسجد الإسلامي. فكل منها يجسد لنا نمط نص، ورؤية للعالم تتوافق مع طبيعة الثقافة السائدة. تبدو لنا الكنيسة، مثلا، من حيث معمارها مكانا مغلقا رغم أبوابها الثلاثة. فالمدخل الوسيط مفتوح على المنصة التي تتوسط القاعة حيث تمارس مختلف الطقوس المسيحية، والتي تجسد كلها الصورة المثلى للسيد المسيح (ع)، وقصته، وما يتصل بها من أدوات ووسائل. ويبقى جانبا المكان مزينين بالصور والأيقونات المرتبطة بالتصور المسيحي للنصرانية. وعلى أرضية هذا الفضاء يصطف صفان متوازيان تملؤهما كراسي يجلس عليها المؤمنون، ويفصل بينهما ممر يؤدي من المدخل إلى المنصة.
إن صورة هذا المعمار تعكس لنا بجلاء نص الكتاب المقدس بعهديه. فالعلاقة بين المنصة والجمهور تتمثل من خلال خطية النص الذي يتقابل فيه المتكلم مع المخاطب، وهي الصورة التي نجدها في أي فضاء يحتل فيه المتكلم الصدارة، والمخاطب في مواجهته يتلقى النص المقدم إليه (المدرسة، الساحة العمومية، الفضاء المغلق). وهذا النص خطي بدوره لأن له بداية ونهاية. لكن معمار المسجد نجده مختلفا اختلاف النص القرآني عن غيره من النصوص الخطية.

*كاتب من المغرب