إعلانات

تعبتُ كثيرا كثيرا ..

ثلاثاء, 11/11/2025 - 05:32

خالد عبد الودود

 

تعبتُ كثيرا كثيرا ..

لقد مارستُ الركض لمسافةٍ لا يمكنك تخيُلها، من سهول اترارزة ومناظرها إلى أسواق دكار، حيث تاجرتُ ثم عدتُ لنواكشوط..

ثم التهمتُ المسافة بين باريس ونواكشوط تمويهًا عن الحِجاز، وتضليلا لأدلاّءِ قُريشٍ وأصحاب سُراقة..

حتى إذا وصلتُ مُلتقَى النيلَينِ في الخرطوم مكثتُ سنينَ عددًا، أقيمُ الصلوات وأعبُّ من مناهل العلم وأعلّم الناس أمر دينهم، ثم بدى لي مِن بعدما رأيتُ الرصاص يمحقُ السنبلاتِ الخضرِ ويتسوّرُ منازل الطيبين أن أهاجر ..

رگضتُ من كاراتشي إلى بيشاور، ثم إلى لاهور وقندهار وكابل ومعسكر الفاروق وقرية العرب وجبال طورا بورا

جالستُ أسامةَ والظواهريّ وبايعتُ المُلاّ عُمَر

وجادلتُ عبدالله عزّام وعاندتُ بن لادن و"صبّيت كاس مُنَعنع" في معارك وسط آسيا، وغرستُ النعناع في شرفاتِ طهران

ثم ما لبثتُ أن خرجتُ من دار هجرتي خائفا أترقّب..

ومرّة أخرى كان علي أن أعبر الأسلاك الشائكة متحرّفا لِقِتال، ومتجنّبا عيون العساكر المتوثّبة، في غِمار الفارين من قدر الله إلى قدر الله ..

لبستُ "بتّو" الأفغان وقبعات البلوش المزركشة، أحسستُ أن عيون العالَم خلفي وأنوف المُخبِرين وأنظارُ العَسَس ومناظيرُ الرُّقبَاء ..

زرتُ زهدان ثم طهران، حيث كانت المعتلقات تنتظرني، أيقنتُ أن الفرس لا أمان لهم مع عربيّ وإنْ طال الزمن، وألا أمانَ لأبناء عليّ عند شيعتِه، حتى بعد مرور قرون على صِفّينَ و كربلاء..

ركضتُ ركضتُ..

صدى الأذان و"غبّادُ المحظرة" و أزيزُ الرصاص، وانفجارات القنابل، و"النداءُ الأخير" للركاب في صالات المطارات؛ كل تلك الأصوات كانت تزدحم في مُسمعي…

لقد تقلصت تلك المسافة بين القارات الثلاث، وانكمَشت الأعوام الخمسةُ والأربعون حتى تناثرت حِبرًا أسودَ على 1037 صفحة، وثلاثة أجزاء سوداء الغلاف كزنازينِ طهران، بيضاء الورق كعمامتي تماما تماما

نعم أتعبتني ألفُ صفحة ركضتُ عليها في خمسة أيام فقط..

فكيفَ بشيخٍ عاشها حياةً مِن حِبرٍ وحربٍ، ومِدادٍ وجهاد، وسجون ومُعتقلات، وهروب وكرّ وفر!

إن رجلا عاش لفِكرة أي فِكرة، ثم سافر وهاجر من أجلها وقاتل الكونَ كله وانتصر وانهزم وجُرح وسُجِن وقاسَى؛ هو رجل يستحق الإحترام وإن اختلفنا معه في بعض الرتوش والفواصل والنقاط..

إنني أغبط هذا الرجل على حياته تلك…

إن الشيخ محفوظ أخرج القصة من حياة شخصية مَحضة، إلى تجربة إنسانية رحبة..

وكما كان ماضي الرجل صعبًا كانت محاورته صعباً كذلك..

وكما الشيخ وسيطا بين أصحابه وحكومة إيران ذات مرة، كنتُ وسيطا بينه وبين جمهوره وقرّائه

إن تجربة الرجل مع الإعلام الدولي، مراوغاته للسجانين والمُخبِرين، حِسُّه الأمني، عِلمُه باللغة وإتقانه للدلالات والمعاني، كل ذلك جعل المهمة صعبة على قارئٍ بسيط مثلي لا يمتلك سوى ذاكرة ضعيفة و "قلمِ حبرٍ جافّ"..

على أن الرجل يمتلك أخلاقاً وسمتًا وهيبةً تستحق الذكر..

إنني لا أنصح الجبناء بقراءة هذه المذكرات، فقد وقعتُ في كمائن وحواجز عسكرية كثيرة، ومزقت الأسلاكُ الشائكة ملابس نومي مرات عديدة

لقد أيقظني المسلحون البشتون من نومي، وبنادقُ الكلاشينكوف مصوبّة نحو رأسي وشربت الشاي مع برهان الدين رباني وقلب الدين حكمتيار ولعبتُ الشطرنج مع احمد شاه مسعود وصليتُ الفجر مع عبد الرسول سياف، وقبضت عليَ المختبرات الباكستانية وأنا احاول التسلسل أكثر من مرّة

قبل ليلتين فقط أقام الأمريكيون إنزالا على معسكرنا معسكر الفاروق، أخذتُ ساترا ترابيا، وحين ألقَت علينا قاذفات ال B52 حمولَتها قفزتُ خارج الخندق، كان الضوء الذي خلّفه الانفجارُ ساطعا، صرختُ جالسا لأكتشفَ أنها مجرد عودة للتيار الكهربائي، فقد نمتُ والكهرباء مقطوعة هنا في لكصر، فردّدتُ مع الحمد: #اللعنة_على_صوملك