إعلانات

رحلة الشعر الحسّاني عبر الزمن

اثنين, 03/11/2025 - 23:47

اللغة الحسانية ليست أداة تواصل فحسب، بل لغة اهتزاز وذاكرة. ففي بيت واحد منها يمكن أن تُعبّر عمّا تعجز الفرنسية عن قوله في عشرة أبيات، لأنها لا تكتفي بالوصف، بل تُوجِد المعنى وتُحدِثه. وعند سيدي محمد ولد الكصري (1852 – 1929) تبلغ هذه القدرة ذروتها المتقدة. هكذا تبدأ قصيدته الشهيرة التي يخاطب فيها فرسه، في حوار يجمع بين الشاعر ومحبوبته من الخيل.

يبدأ ولد الكصري خطابه بكلمة «الصَّحَة»، وهي تعبير عن الحنان والمودة يُستعمل في الثقافة الحسانية من الكبار تجاه الصغار. فعندما يختنق طفل وهو يشرب الماء، يُربّت عليه من حوله قائلين: «الصحة!». وبهذا الإحساس نفسه يخاطب الشاعر فرسه العائدة من المعركة منتصرة وهي تشرب الماء، فيفيض عليها حنانًا وفخرًا في آنٍ واحد.

صحَّ يلِّى ما حگروكْ
أعدوك ؤُلاَ گومْ أطْريگكْ
ما طلْعَكْ معيار أَمْنَ أعْدوكْ
ؤُلاَ طلْعكْ عارْ أَمْنَ أصديگكْ

غير أن الصفات التي نسبها الشاعر إلى فرسه تتجاوزها لتعود إليه هو نفسه؛ فذلك النَّفَس الحماسي البطولي المغلّف برقةٍ أنثوية ودلالٍ فروسـيّ يمنح القصيدة نكهتها الأدبية الفريدة.

ما وسيتِى فيهم لثنينْ
– والناس اتْراعِى – كونْ الْزينْ
لعْدوُ صرّطْتيهْ – ؤُ ويْليْنْ –
ريگُو عنْ مالُو بحْريگكْ
وأصْرطْتيِ عنُّو – عَنْدْ أمنينْ
أبرد فيد أصديگك – ريگك

بمآثرها الباهرة اختبرت الفرس الصديق والعدو معًا: فالعدو، المبهور بشجاعتها، فضّل النجاة بنفسه على أمواله، في أقصى صور المهانة. أما الصديق، فأسَرَته نُبلُ هيئتها، فامتنع عن أخذ غنيمة خصمه، اعترافًا بشرفها وشرف فارسها.

يُعد "لبتِيت" من أكثر المقامات انتشارًا في الشعر الحساني، ويحتل مكانةً خاصة في قلوب الشعراء، إذ إن أغلب الإنتاج الشعري الحساني ينتمي إليه. من الناحية العَروضية، ينقسم لبتِيت إلى عدة أنماط، لكلٍّ منها قواعده الإيقاعية الخاصة:

لبتِيت التام (8/8) الذي لا تلتقي فيه السواكن، والناقص (6/6)، والمزارك (6/6/6)، والمشكل (5/6)، وحث أجراد (5/5)، ومزارك ردف (8/8) الذي تُسمّى أشطره «مصرومة» أي خالية من الزينة الصوتية. وفي نهاية القصيدة تأتي الأبيات الأقصر والأيسر أداءً: أحويويص (4/4)، بت أثلاثه (3/3)، بت أثنين – النهك (2/2)، بت واحد – بقزز (1/1). وعندما يُقال «لبتِيت» مجردًا، فالمقصود هو اللَّبتِيت التام.

قال ولد الكصري:

نبغى نجبر حدّ اللّبتيت
يعرف لبتيت، إيلا خلّيت
فِيدُو لبتِيت، انعود انجيّت
من حقّو درتو بين إيدين
حدّ أمين اعليه أمن ابتِيت
البظان ألّي ماهُ زين
آنَ شبَت وولْ آدم شاب
ضررْ لبتِيت عليه امتين
واتركتو، عملتْ ارتكابٍ
اللمرْ أخفّ الضرّرينْ

أبحث عمَّن يرث اللَّبْتِيت... لقد شختُ، وشاخ ابن آدم، وأصبح اللَّبْتِيت عليَّ ثقيلًا، فتركته عملًا بقاعدة اختيار أهون الضررين.

تخلّي ولد الكصري عن هذا المقام ليس ضعفًا، بل فعل حكيم، تأملي، ووفاء للتراث. فترجمة شعره تشبه محاولة التقاط خفقان جناح الريح. فاللغة الحسانية، الكثيفة والموجزة، تحمل ثِقل التاريخ، وكل كلمة فيها تفتح طبقاتٍ صوتية وأخلاقية واجتماعية وكونية. ومع ذلك، تجرأت امرأة على خوض هذا الرهان: إنها عيشة بنت أحمدو، الشاعرة والمترجمة، التي استطاعت أن تنقل هذه المادة الشعرية إلى اللغة الفرنسية. فالترجمة هنا ليست مجرد نقل لغوي، بل تحويل لمقامٍ إلى مقامٍ آخر؛ هي ترجمة روح واهتزاز داخلي، لا كلمات.

كل قصيدة حسّانية تتبع مسارًا موسيقيًا داخليًا من مقامات الأزوان: كحال كرّ، فاغُ، تحرار، أزرك البلاوي، الكحال، البياض الگتري، البياض اللين، اللَّبتِيت. في هذا التدرّج لا تُختتم القصيدة بل تتلاشى بهدوء تأملي، كالموسيقى التي تذوب في الصمت.

نعرف بُنَيّايَ كانت هونْ
دهرْ بعيدْ وامن هون أدونْ
ألّا عادت باط اجدر بونْ
أعكبتْ عادت تُنبُصْكايا...

كنتُ دائمًا أرى هذه الشجرة خضراء، لكنها صارت جذعًا ميتًا، ثم لاحقًا تلاً للنمل الأبيض، لم يبقَ منها سوى أرضٍ حمراء قاحلة، وبقايا شجرةٍ منسيّة. هنا تتحول الشجرة إلى استعارةٍ للوجود الإنساني؛ الحياة تبدأ بالبهجة وتنتهي بالذكرى التي تذوب في الزمن.

في ترجمتها الثانية، تدخل عيشة بنت أحمدو إلى مملكة الشُّوغ (الشوق)، هذا المفهوم الحسانـي الذي يعني الحنين المشتعل والرغبة في العودة. الحنين هنا ليس نوستالجيا سطحية، بل خريطة عاطفية منقوشة في أعصاب اللغة. تبدأ القصيدة بحركة رجلٍ «يشام» – فعل لا تنقله أي لغة غير الحسانية. فهو عودة الغريزة إلى الموطن الأول، رمز الاندفاع نحو فضاء الذاكرة. ولد الكصري لا يعود من منفى، بل يُستدعى إلى أرضه. وعيشة تلتقط هذا النفس الشعري فتقول: «في طريقه إلى وديانٍ قديمةٍ لم يرها منذ عام». إنها لا تترجم اللفظ، بل تُترجم الحياء والوميض الداخلي، وترفض أن تجعل الشعر مادةً إثنوغرافية؛ بل تعيد خلقه كمعادلٍ شعوري دقيق.

حين يقول الشاعر: شوفْ ابرگْ يخفَتْ تَلْ ابعيدْ، فهو لا يصف مشهدًا طبيعيًا، بل ذاكرة تخبو. البرق الذي يخفت هو وميض الذاكرة الأخير، رمز البقاء بعد الفقد. وفي ترجمته الفرنسية يقول: «Un éclair au loin éthéré…». البرق هنا لا يُبهر، بل يذكّر – وبهذا يتجلّى فكر الزمن في الشعر.

وانَ گاعدلُ فوگ ازبارْ
الوگْحَ من گد أم اغريدْ
لينْ اغرشتْ انّو فوگ اديارْ
العينْ وْ لگصرْ وْ انواشيدْ
وگلّابْ وْ تمْرَ وْ انفارْ
وإدورْ افذاكْ من افريعاتْ
لمسايلْ يتگرنْ لخظارْ
مزالْ ايگصْ ألا وطياتْ
اتزرگيگْ المَ من لحجارْ

جالسًا على قمم كثبان وِغَه، عند ضفاف أم أغريد، ظللتُ أراقبه حتى أيقنتُ أن العين ولكصر وانواشيد، وكلاب وتمره وأنفار، قد غمرها ضياؤه، وأن ذراعي الأودية المروية قد احتضنتها الخضرة من جديد، حتى الحجر صار يشرب الضوء. وهناك، في هذا المشهد، يقف الشاعر منفيًّا عن سعادته، يتأمّل ذلك البرق فوق هضاب أزبَار، نحو بلاد الريح والرمال، حيث يُرهق البصر نفسه بحثًا عن نور القلب القديم.

في هذا المقام الأخير يندمج الطبيعي بالروحي، والجغرافيا بالذاكرة، واللغة بالصوت الداخلي. ولد الكصري لا يرسم الصحراء، بل يكشفها. وعيشة بنت أحمدو، في ترجمتها، لا تنقل ألفاظه، بل تنقل ارتعاشتها الأصلية. تحوِّل اللغة الفرنسية إلى فضاء من الحنين المترجم، حيث يصبح كل بيت دعاءً بالماء بعد العطش، وكل كلمة ظلًّا عابرًا على رمال الذاكرة. ولد الكصري لا يصف الصحراء، بل يكشفها من الداخل. قصيدته لا تتحدث عن الجبال، بل تجعلها تُرى. وفي ترجمة عيشة بنت أحمدو، لا تنتقل الكلمات، بل الارتعاشة التي ولّدتها. فاللغة الفرنسية بين يديها تبحث عن تربة الأصل كما يبحث الشاعر عن تگانت في نسيان العالم.

كل الكلمات في النثر ستكون قوافي تامة دون أن تنجح في التعبير عن هذا الحب الصادق.

بهذا يتحقق في شعر ولد الكصري وصداه في ترجمة عيشة اتحاد الخيالين الصحراوي والغربي، حيث لا تُروى الصحراء... بل تتكلم.

 

محمد ولد الشريف الشريف

المصدر: أقلام