إعلانات

من "أولاد رياح" إلى غزة: هكذا تعمل عقلية الإبادة

اثنين, 13/10/2025 - 04:17

كيف أبيدت قبيلة أولاد رياح الجزائرية؟ وهل من تلازم بنيوي بين الاستعمار والإبادة الجماعية؟

 

عندما سقطت مدينة الجزائر بيد الجيش الفرنسي بقيادة دو بورمون سنة 1830، وانهار الحكم المركزي، لم يجد الجزائريون من ملاذ غير الاحتماء ببنياتهم الاجتماعية التقليدية ممثلةً في القبيلة والطريقة الصوفية، بغية تسيير أمورهم وتنظيم صفوفهم من أجل المقاومة ومنع الغزو من التمدد أكثر في المناطق الداخلية. 

في هذا السياق لجأ الاستعمار إلى إبادة قبائل كاملة من أجل بث الرعب، وإخضاع باقي الجهات، لكن إبادة قبيلة أولاد رياح عن بكرة أبيها، كان مميزاً لجهة الأسلوب الوحشي الذي ابتكره، بدل الرصاص أو الذبح الذي استعمله مع قبائل أخرى، وقد كان أقرب إلى ما أضحى يعرف لاحقاً بالإعدام في غرف الغاز.

الإبادة الجماعية كأسلوب ممنهج

  •  

بدأ الجيش الفرنسي يتقدم نحو ضواحي مدينة الجزائر المعروفة بالفحص. بعد شهور قليلة من سقوط المدينة وانهيار البايلك، نظم أهالي سهل متيجة الخصب أنفسهم، والتفوا حول ابن زعموم شيخ قبيلة فليسة، والشيخ الصوفي سيدي السعدي، وهاجموا الحامية الفرنسية في مدينة البليدة وألحقوا بها خسائر معتبرة. 

أمر بعدها الجنرال كلوزيل، الذي خلف دو بورمون، بإبادة سكان المدينة، فذبح جنوده المئات من السكان في الشوارع ولم يسلم منهم الشيوخ والنساء، كما ينقل لنا الكاتب الفرنسي ديوزيد (1) بل قطعوا الرضع من صدور أمهاتهم، وفق ما أورده حمدان خوجة المعاصر للأحداث (2).

وبعد تعيين الدوق دو روفيغو قائداً في سنة 1831 واصل سياسة من سبقه، ليؤكد بأن الإبادة الجماعية في الجزائر كانت ضمن مشروع ممنهج تبنته الحكومة الفرنسية (3) ترافق مع طموحاتها التوسعية والاستيطانية، فأمر جيشه سنة 1832 بالهجوم ليلاً على مساكن قبيلة العوفية على ضفاف وادي الحراش، قتل القناصة الرجال والشيوخ والأطفال والنساء وهم نيام (4) وعاد فرسان الجيش الفرنسي برؤوس القتلى على رماحهم (5) وقصد بعضهم الأسواق لبيع أقراط النساء المقتولات وهي ملطخة بالدماء، وأساور ملتصقة بالمعاصم المقطوعة وبقايا اللحم البشري عالقة بها، قدر بعض المؤرخين الجادين عدد ضحايا هذه المجزرة بنحو 12 ألفاً، هم كل أفراد القبيلة.

أولاد رياح وبواكير الإعدام بغرف الغاز 

  •  

ابتدع الاستعمار الفرنسي أسلوباً للفتك بالقبائل بأقل كلفة، هو أقرب لما أصبح يعرف لاحقاً بالإعدام في غرف الغاز. إذ عندما عبأت مجموعة من الطرق الصوفية القبائل لإعلان المقاومة سنة 1845 في غرب الجزائر، وكانت "أولاد رياح" من ضمنها، أمر الجنرال بيجو القائد بيليسييه، بغزو القبيلة فأحرق ممتلكاتها وصادر أراضيها. 

ولما تحصن أفراد القبيلة بغار في جبال الظهرة، أوقد الحطب عند مداخل الغار، ليختنق أزيد من 1000 شخص من الرجال والنساء والأطفال مع بهائمهم في هذه المجزرة. 

وتؤكد مصادر فرنسية عديدة، أن الجثث تراكم بعضها فوق بعض، وكان الرضع ملتصقين بأثداء أمهاتهم، وبدأت الحيوانات ترفس الأطفال والنساء بسبب هيجانها الشديد من هول الاختناق داخل الغار، وكان الرجال يمسكونها من قرونها لوقفها والدفاع عن نسائهم وأطفالهم، وقد وجدت جثث لرجال متشبثين بقرون الثيران، ومع ذلك تدافع الجنود الفرنسيون لنهب كل ما كان ثميناً عند الضحايا(6). تسربت أخبار هذه المجزرة إلى أوروبا، وأحدثت بعض الضجيج الإعلامي فكتبت جريدة "التايمز" اللندنية في عددها في 14 تموز/يوليو 1845 بأنها "مذبحة فظيعة جعلت حتى المتوحشين يخجلون" (7). 

  •  

لم تكن إبادة قبيلة أولاد رياح ومن قبلها قبيلة العوفية وسكان البليدة نهاية مسار الإبادة الذي انتهجه الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في العقود الأولى التي أعقبت سقوط الجزائر في 1830، بل استكمل بجرائم إبادة أخرى، أبرزها مذبحة الزعاطشة في 1848، ومحرقة الأغواط سنة 1852، ومن خلال التقديرات النسبية للباحث الجزائري المتخصص في الدراسات الديموغرافية، كمال كاتب، التي تأخذ في الحسبان ضحايا القوى الجزائرية المقاتلة أثناء المعارك وبعدها، فإن عدد الضحايا من الجزائريين بين 1830و1875، يصل إلى 825000 شهيد (8).

وإذا أضيف إليهم أعداد من قضى نتيجة سياسة المصادرة والتفقير الممنهجة في النصف الثاني من القرن الـــ 19 التي جعلت السكان عرضة للأوبئة والمجاعات، فإن عدد سكان الجزائر الذي قدر بنحو 3 ملايين ونصف مليون نسمة في العام 1830، تناقص بشكل كبير، أي أن الاستعمار أباد في هذه الفترة أكثر من ثلث سكان البلاد.       

هكذا إذاً ينتمي المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر لنفس الخطاب الإيديولوجي الاستعماري الأوروبي الذي لا تختلف لغته ومحدداته عن كل المشاريع الاستعمارية الاستيطانية. وهو يجد جذوره في المركزية الغربية المتمحورة حول الذات الأوروبية المتفوقة، والتي تتبنى منطق الإلغاء الذي يعتبر جزءاً بنيوياً من طبيعة كل استعمار استيطاني، كما يسميه المؤرخ الأسترالي، باتريك وولف (9).

أما الإلغاء هنا فهو إبادة الشعوب المستعمرة، بالقتل المباشر أو بخلق الظروف الموضوعية للمجاعات والأوبئة القاتلة، فالتلازم بنيوي بين الاستعمار والإبادة الجماعية. لذا فما رأيناه في نموذج الإبادة الفرنسي في جزائر القرن الــ 19، لا يختلف في مضمونه عن نماذج الإبادة التي نفذها البريطانيون أو الألمان أو البلجيك في أفريقيا وآسيا في فترات تاريخية مختلفة، ولا يختلف عمّا يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي في غزة.

الهوامش

(1) V. A. Dieuzaide, Histoire de l’Algérie 1830-1878, Tome 1, Imprimerie de l’association ouvrière, Oran, 1880, p164.

(2) حمدان بن عثمان خوجة، المرآة، تعريب محمد العربي الزبيري، منشورات ANEP، الجزائر، 2005، ص216.

(3) W. Gallois, Genocide in nineteenth-century Algeria, Journal of Genocide Research, Vol 15 n°1, Routledge, London, 2013, p69-88.

(4 (P. Christian, L’Afrique Française l’empire de Maroc et le désert de Sahara, A.Barbier éditeur, Paris, 1846, p143.

(5) E. Pélissier de Reynaud, Annales Algériennes, Tome1, Imprimerie militaire, Paris, 1854, p247.

(6) أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية 1830-1900، الجزء 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992، ص228-229-230.

(7) W. Gallois, Dahra and the History of Violence in Early Colonial Algeria, The French Colonial Mind, Vol 2, University of Nebraska Press, Lincoln, 2012, p35-59.

(8) K. Kateb, Européens, « indigènes » et juifs en Algérie (1830-1962), Edition el MAARIFA, Alger, 2010, p46-47.

(9) P.Wlofe, Settler colonialism and the elimination of the native, Journal of Genocide Research, 8, December, Routledge, 2006, p387-409.

 

عبد الله بن عمارة

كاتب من الجزائر