
الدهماء ريم
........ا
طبعا لا يرتاح أيّ منا حين تُخترع له سلالة جانبية، موازية، أو مشكِّكة في سلالته الأصل، بغضِّ النظر عن علوه أو انحداره في الترتيب الاجتماعي الشائع، السلالة الأصلية هوية والسلالة المُختلقة بهتان.
تَعرَّض الرئيس باراك أوباما للاتهام بالتدليس في أصوله وفي نوع دينيه ومكان مولده، وكان القصد هَدّ شعبيه وشرعيته، وبالتالي أهليته كرئيس، وسيَبطل العجب، إذا عرفنا أنَّ أكثر المتحمسين لأذيته في أصله كان الرئيس الحالي اترامب، الطامح حينها لخلافته،.. ومع تنامي الضجيج، نشر البيض الأبيض على موقعه في السابع من ابريل 2011 نسخة من شهادة ميلاده، تُفنِّد اللغط الذي دار حوله.. فهل كان نشر الدليل "خِفَّه" من البيت الأبيض، أمْ "اتشيشيره" وقلة حنكة من أوبوما.. ليست هذه أول حادثة تشكيك في تاريخ التَّنازع على الجاه السياسي أو الاجتماعي،.. ومن الموضوعية والعدل التَّمسك لكلِّ ذاتٍ بشرية بحقِّها في حمل أصلها لا أصل غيرها، والسماح لها بأن تُؤصل بالسند ولاءها لسلسلة نسبها..
لدينا جميعنا على هذه الغبراء تاريخ عائلي يُعرِّفُنا ويعرِّف علينا، تاريخ صادق ربما أو مختلق في هاوية من تصنيفات بلا قرار، والأنساب في ملّتنا غالبا سلاسل من روايات نقلها أسلافنا دون كتابة إلا ما قلَّ، فحوَّلوها لمرويات تناقلوها، زيادة ونقصانا وتصرُّفا، وتوظيفا وقدسية، ترْفع حينًا وتحطُّ أحيانا، وُظِّفت في السِّلم وفي الحرب والتَّغلب والغَلبة سلبا وإيجابا،.. بالتالي الشاهد الأول على أنسابنا "نحن" أصحابها، وإنْ دخلنا في لعبة التفنيد والتجريد، سنُمسي "إبْلا إبَّاتْ كامْلين" وتمسي بيوتنا من زجاج.
حِرْص أيٍّ منا على جذوره لا يُلغي مدنيَّته ولا تقدميته، ما دام لَا يوظّفها للحصول على امتيازات أو رتب أو ألقاب تتعارض وروح الدولة ومُجتمع المساواة (ذاك إلِّي إجيبو مولانا)!، أو تتضارب وحدود حقوقه من حقوق غيره، أو تتصادم وقوة القانون..
مَعرفة النسب أو التعريف به، توثيق معنوي للجذور، للتاريخ، للأصل، لدور الأسلاف في تشكيل الهوية، أما التمرد عليها فيعني الاجتثاث، ولا يُضبط العدَّاد على نقطة صفر نَسب إلا في حالة اللقطاء..
لا يهم كثيرا إنْ كفر غيري بنفس المبدأ، فالاختلاف من سنة الحياة، و الأكيد أن بعض الأمم المتقدمة تُجري اختبارات الحمض النووي لفهم تراثها العرقي بشكل أفضل.
معلوم أنَّ بعضنا أسير نسب لم يختره، ومحكوم عليه به قسرًا وكُرهًا كالرهينة، لا يحبه، بل لا يطيقه حتى لو أنكرَ وكابرَ وأعلنَ غير ما أسَرَّ،..ومن اللعنة الوجودية في كل المجتمعات الطبقية أن يرمي النصيب فردا منها في الدوائر السفلية لمجتمعه.. لأنه ببساطة مسجون في تصنيف دونيٍّ ظالم بالولادة، لا حول له فيه ولا قوة ولادور،.. ومع ذلك استسلم للبقاء على تصنيفه الشرائحي المُهان به، لم ينفصل عنه أو عن التبعية "لسلالته" القبلية بالانتماء القسري،.. فهو غير مُخير، وحتى إن تمرَّد لن ينجح في كسر الحدود بين الدوائر، لأنه مقيد ببطاقة رمادية استصدرت قبل وجوده في الدنيا حددت ترتيبه الاجتماعي وستصحبه حتى وفاته.. هذه حقيقتنا وغيرها هراء،.. ومن كمال التّفيهق الزائف، العبور فوق التصنيفات الاجتماعية الطبقية بالكلام المنمق فقط، فهي وعي غير مرئي مسيطر في اللاوعي، وإرث عاطفي، وماضٍ، ومعتقدات متحجرة، وكبت،..
أغلب التدوينات التي تناولت مهزلة نسب نور الدين ولد محمدو، تُستهلُّ "برشوة" معنوية فئوية من نوع "لمعلمين گاع أثرهم أمَّالهم"!، "أمّالهم معروف"، أنهم كغيرهم ضحايا إرثٍ وَوَارثيه، إرث محاط باستياء نظري لكنه محمي بقبول ضمني،. ولوْ لمْ يحمل تصنيفهم قدحا وإهانة معنوية لمَا اتخذناه سلاحا للتعيير ولإنزال رتبة الخصوم في سلم المكونات نحو الأسفل،.. كما حصل مع نور الدين، وفي هذه الحالة إنْ تبرَّأ من التلفيق عليه سقط في شرك القدح في شريحة "لمعلمين"، وإنْ هو صمت واستسلم صدَّق على التلفيق وأضاع نسبه بغض النظر عن طبيعته، شريفا أو وضيعا بمعيار نفس المجتمع! .. هذا اللعب لا يخدم تحصين الوعي في مُجتمع مُغالطٍ من بابِه لمحرابه!
حاصله، أن الناس لا تنفصل عن خط سلالتنا العائلية بضربة مزاج سياسي أو اجتماعي،.. وأنَّ نور الدين قد أحسن حين نشر خطَّ نسبه، والفعل -منطقيَّا- من مستوى مُجتمع رجعي متخلف تُهلل نخبته لتنصيب الزّعامات العشائرية، وعاد لدهر "الحلَّه" والإمارة، وأمّا كونه سيُرضي هذا أو يَرضَى عنه ذلك، فلا يهم، الناجح عينه على الهدف فقط، رضا الناس شيء لا يُنال، والفاشل وحده بلا عداوات.
الشيء الأهم، أنّ الخط السياسي لنور الدين لا يهمني، أمَّا الخط الأبوي فهو تماما كما نَشر ونُشر وقيلَ، لا يَحتاج قسمًا ولا تبريرًا، لكن هذا لا يُلغي بالضرورة خطه الأمُومي، كونه حفيد "امعلمه" أوْ ابن "خادم" مثلي، فاختلاط الأمشاج لا يُلغي الأصل بل يثريه، هذه الشرائح جزء من أسلافنا وبذلك نفتخر.
تحياتي.