إعلانات

وحين يكتب المختار السالم

أربعاء, 16/07/2025 - 01:16

كبرياء رجل

 

بينما أنا أطالع في موقع صحيفة سدنة الحرف،

صادفني ذلك النص الفريد، نصٌّ من عيون السرد ووشمٌ من فصوص البيان، مقدّمة ديوان "هذا هو النهد الذي اعترفت له"، للشاعر والكاتب والإعلامي العملاق المختار السالم، الذي لا يكتب كما يكتب الآخرون، بل يكتب كما يتنفّس النجم في مجرّته، وكما يحبو الضياء على أكمام الفجر.

إنه نص لا يُقرأ، بل يُرتشف كجرعة خمر معتّقة في جُبّة صوفي، أو يُستنشق كما يُستنشق بخور النبوءة من قِدْر القصيدة. إنه ليس مقدّمة لديوان فحسب، بل هو شريط وثائقي من الحنين، ورحلة متمرّدة في ذاكرة المدينة، على حوافي الحبّ، والسياسة، والفن، والجوع، والدهشة.

يكتب المختار السالم سيرته لا كما تُملى، بل كما تنفجر. لا يحرسها التاريخ، بل يحرسها النسيان حين يخونه...

هو الراوي الذي يعترف في الهامش ليتوهّج في المتن، الحاوي الذي يسرّب سحره بين طيّات التجربة، يضحك من الخاصرة، ويسخر من التراجيديا وكأنها مشهد ثانوي في مسرحية الحياة الكبرى.

هنا، لا تفصل بين المجاز والحقيقة سوى عتبة الابتسامة، ولا بين القصيدة والسيف سوى حبل الغزل، ولا بين الشاي والعشق سوى صحن من "المرق" وخروف مشويّ في بيت لبابة بنت الميداح، تحت نظرة أميرة الغناء وحناء العائدات من بلاط الملوك.

النص ثلاثي الأبعاد:

بعدٌ أول من "تشرد باذخ" بين بيوت العلماء، والفنانين، والعاشقات،

وبعدٌ ثانٍ من "تاريخ مضاد" يُكتَب بالحبر حينًا، وبالعطر حينًا، وبدم القصيدة دائمًا،

وبعدٌ ثالث، هو الانتماء لهذا البلد، الذي يُقاس فيه المجدُ بكم فخذٍ رأيته يضيء بين مئزر وقصيدة.

إنه النص الذي لا يخجل من قول الأشياء كما هي، ولا يُزخرف الخسارة، بل يخلّدها.

يعترف بعيشة، تلك المصابة بالسل، كما يعترف بالمعلومة وهي تعزف له بشوق في الليالي العابقة بالياسمين.

ويحدّثنا عن "تحالفات الجميلات" في الوزارات، كما يحدّثنا عن قصيدة "لئن جنيتُ على نفسي" التي وُلدت بين قطعة لحم مشوي ومجموعة أوتار مغزولة على مقام الهوى.

يكتب عن لبابة، والمعلومة، وكمبان، كما يكتب عن روصو، ومربد، وجريدة الشعب، وكأنّ كل ذلك نسيج واحد من روح واحدة، من بلاد لا تتنفس إلا إذا سمعت آلة التيدنيت، أو قرأت مطلع قصيدة فيها شيء من فلسطين، أو سَكِرتْ بعبارة نسجها المختار ذات تجلٍّ في صالة التحرير أو تحت نافذة شمالية.

لقد كتب المختار نصًا لا يصلح إلا أن يكون عملًا أدبيًا قائمًا بذاته، ديوانًا موازياً للديوان، لأن اللغة فيه تنهض على عكازة الحنين، وتغني رغم الجراح.

وهو إذ يعترف أنه لم يخطط للغناء، ولا للكتابة، ولا للحب... فإنه كتب كما يُولد الشعر في الفلاة: بلا مقدمة، ولا إذن، ولا سبب.

إنه الراوي الوحيد الذي تستطيع أن تصدق قوله حتى حين يبالغ، لأنه يبالغ كما يبالغ الغيم حين ينسكب فوق القرى العطشى.

في كلماته تجد التاريخ الشفهي للحبّ، لتشكيلات النساء، لشوارع نواكشوط قبل أن تبتلعها الإدارات الرمادية.

وفي ضحكته المتخفية خلف الكلمات، تجد حرقة العارف، ومرارة الناجي، واعترافات رجلٍ كان وحده "ملف الدولة السري" حين تسقط الدولة في دروب الشعر.

**

في هذا النص – وهذا ما يجعل المختار السالم مدرسة مستقلة – لا تجد خطًا فاصلًا بين السيرة والمسرحية، بين الحكاية والمقالة، بين الأنثى والوطن، بين الغواية والقصيدة.

هو سحر الكتابة حين تتجلى في أرفع أطوارها، حين يُصبح الماضي مؤامرة شعرية، والحاضر نكسة لُغوية، والمستقبل وعدًا لا يُعطى إلا لمن تجرّأ على المجاز.

ولذلك فهذه ليست قراءة بقدر ما هي وقوفٌ طويل على ضفاف النص، تأملٌ في تمثال نثريّ حيّ، لا تحرسه رُبى العواصم، بل تحرسه الأمهات في الأحياء العشوائية حين يُرضعن أطفالهن على موسيقى لبابة، ويعلّمنهم أنّ "من لا خيول له، لا صهيل له، ومن لا نخيل له، لا ظلال له."

ختامًا...

هذا النص هو ديوان بلا أعمدة، حكاية بلا خاتمة، وطنٌ بلا حدود...

وحين يكتب المختار السالم، لا أحد يعود كما كان. لا الكلمات، ولا النساء، ولا هذا القارئ الذي يُمسك رأسه كي لا يذوب من حرارة المعنى.