إعلانات

سؤالنا الأول هو : هل التسول ضرورة أم خيار؟

جمعة, 04/07/2025 - 15:16

إسماعيل محمد يحظيه

 

أحيانا يُقذف بالإنسان الى قارعة الحياة دون مظلة : فقر مدقع، بطالة، تشريد، إعاقة، ترمّل، يُتم، تسرب مدرسي مبكر، جهة رسمية عاجزة عن كفالة الأضعف من رعاياها، في هذه الحالة يكون التسول اشبه بصرخة استغاثة "ضرورية"، وهناك على ناصية الطريق تتدلى كرامة إنسان وإباؤه من كفٍّ مرتجفة كأنها راية استسلام بيضاء او سوداء لا فرق، تُلوٍّح بها البشرية لنفسها، إنسان بلا ظل، عيناه ليستا للسؤال، بل للعتاب كأنما يقول: ما الذي جعلني أتسول الحياة منكم؟ ألست من طينتكم؟ أليست الأرض واحدة؟ وفي الركن المقابل طفل يتقن دمعة تنهمر بإشارة، وامرأة تحفظ كل ملامح التعاطف، وتستدعيها كما تستدعي الممثلة دمعتها، في هذه الحالة يكون التسول أشبه بصرخة ركون واستكانة. ونحن ندرك وبأدنى جهد أن المتسول رغم المذلة لا يفعل ذلك إلا وقد ضاقت به السبل، وانسدت عليه الأبواب.

وما بين الإضطرار والإحتيار تضيع الحقيقة، ونبقى حينها نوزع الصدقات لا لنُعين، بل لنتخلص من ثقل الشعور بالذنب، ذلك الشعور الذي يدفعنا اليه المتسول بحذقه ليوهمنا بأنه لم يُقدم على التسول الا اضطرارا وليس اختيارا، لكن وضعيته تبدو لنا أقرب الى الإختيار!!

لماذا؟ أغلب المتسولين يتخذ من التسول مهنة فيصبح محترفا في فنون التسول: يتقن تمثيل العاهات، يتخير أرَثَّ الأسمال، وأحَطَّ الأحذية، ينسج القصص الكاذبة، يُكوِّن شبكة تدر عليه أكثر مما يكسبه الكادح، يعرض أكبر عدد من ذوي الإحتياجات الخاصة، بما فيهم الاطفال الرضَّع مما يثير شفقة الناس ويدمي قلوبهم.

هنا نكون أمام إدمان على الكسب المجاني، والتكاسل المقنّع، وأحيانا الاحتيال البالغ التنظيم.

هل من علاج؟

العلاج لا يكون في المتسول وحده، بل في المجتمع الي أنتجه.

ما نأمله من المستوى الرسمي هو إنشاء منظومة حماية اجتماعية فعالة: كفالة، تأمين، سكن، --لا دارا للمسنين فتلك مسألة يمجها ذوقنا-- علاج، برامج تدريب وتشغيل القادرين، وبعد ذلك رقابة صارمة على شبكات التسول المنظم.

وهكذا يبقى التسول مرآة مشروخة تعكس وجها من وجوه هشاشتنا الاجتماعية بين من سقط مضطرا على قارعة الحاجة، ومن اتخذ من المسكنة حرفة تدر اكثر مما تدره الحِرف، وإنها لضرورة أليمة حين يخذل المجتمع ضعفاءه، واختيار مرٌّ حيث يتنازل الإنسان عن كبريائه طواعية ليستعذب دريهمات الشفقة، لكن الجواب الحق لا يكون في محاكمة المتسول وحده، بل في مساءلةالمنظومة التي تنتج التسول وتعيد تدويره جيلا بعد جيل، فإن

كان في اليد دواء فلنبحث عنه في العدل قبل الصدقة، وفي الكرامة قبل الشفقة، والوقوف جنبا الى جنب لا فُرادى نرمي الفُتات ثم نمضي.

وأخيرا وحتى ننصف إخواننا المتسولين أضيف أن أشكال التسول عندنا

لا تقف عند صورته الفجة المعهودة لديهم فقط، بل تتلون وتتلثم فتطل أحيانا تحت مسميات أكثر نعومة، واقل صدمة للذوق العام، وهو ما يعرف عندنا ب""السؤال"" أو "" الطَّلْبَ"" وهي أشد أذى على المجتمع من التسول لما يصاحبها من الضغوط الإجتماعية المدمرة واستغلال الفرص، وتحيُّنها، ولما يجللها به "الطمع" من ثياب الوقار والأبهة المزيفة، وهنا يخرج علينا التسول تحت يافطة جديدة هي "" الغايَ""و ""ترْكابْ غايَ من الغايات" لا صدقة من الصدقات، ويتجاهل صاحبنا أن في مدِّ الكف--كيفما سُمي-- ما يوحي بتعلق القلب بغير مولاه، وأن الحياء منه أولى من التجمل له، وهنا أيضا ينكشف البعد الروحي للظاهرة حيث لا يُقاس الامر فقط بحال اليد، بل بحال القلب وما علِق به من أدران.

..............

والى لقاء في مرايا جمعة جديدة