إعلانات

القوة الناعمة والنظام الدولي الجديد

أحد, 29/06/2025 - 21:41

د. السيد ولد أباه

 

 

جوزف ناي مفكر سياسي واستراتيجي أميركي معروف، توفي مؤخراً، بعد عمر حافل في الحياة السياسية والبحثية. آخر ما كتب ناي المقالة المنشورة في العدد الأخير من مجلة «فورين آفيرز» (يوليو - أغسطس 2025)، بمشاركة صديقه روبير كوهان، وهي بعنوان «نهاية القرن الأميركي الطويل». وفي هذا المقال، يطور ناي مقولة «القوة الناعمة» (soft power) التي بلورها سابقاً واشتهر بها على نطاق واسع، من خلال تنزيلها في الواقع السياسي الأميركي الحالي بعد رجوع دونالد ترامب إلى السلطة. في هذا المقال، يكرر ناي وصديقُه نظريةَ الأبعاد الثلاثة للسلطة في سياق دراسة الموازين الاستراتيجية العالمية الحالية. وهذه الأبعاد هي محاور ثلاثة كبرى:
- السلطة الخشنة التي تقوم على القوة والإكراه والتسلح، وتقوم على منطق العقوبة والتهديد والضغط الديبلوماسي.
- السلطة الاقتصادية التي ترتكز على التأثير عن طريق المصالح المالية وسياسة العون الخارجي والتبادل التجاري.
- السلطة الناعمة التي تقوم على الاستقطاب والجاذبية بدل الإكراه والعنف، وتتجسد أساساً في القيم والثقافة والصورة الخارجية والإنتاج الفني والمؤسسات التربوية والعلمية.
تاريخياً، جمعت الإمبراطوريات بين هذه المرتكزات الثلاثة، مع اختلاف واضح في التركيز على عنصر من بينها على حساب العناصر الأخرى. لقد اعتمدت سلطة البابا في العصور الوسطى مثلاً على العامل الديني والروحي، فكان له تأثير قوي على الممالك والدول المسيحية، رغم أنه لا يتمتع بأي سلطة عسكرية. وفي المقابل، اعتمد الاتحاد السوفييتي السابق على القوة والإكراه من أجل الحفاظ على الإمبراطورية الشيوعية، فحرّك الجيوشَ لقمع الانتفاضات والثورات في تشسكلوفاكيا وهنغاريا وأفغانستان، قبل أن تنهار المنظومة الاشتراكية مع نهاية الحرب الباردة. وحدها الإمبراطورية الأميركية جمعت بتوازن وتكامل بين هذه القوى الثلاث: العسكرية ببناء أهم قوة حربية في تاريخ البشرية، والاقتصادية من خلال عملتها المهيمنة عالمياً والمؤسسات المالية الدولية التي تتحكم فيها، والناعمة من خلال نظامها الديمقراطي ومؤسساتها التربوية وإنتاجها السينمائي وبرامجها للعون الخارجي.
 يرى ناي وزميله أن سياسة الرئيس الأميركي ترامب تسعى إلى تقويض هذه القوة الناعمة عبر إضعاف نظام التحالفات الدولية الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، وتفكيك المنظومة الاقتصادية المالية التي كانت تسيطر عليها الولايات المتحدة، بما من شأنه أن يفتح الباب للقوى المنافِسة، وفي مقدمتها الصين التي تبذل جهوداً واسعة للتمدد عالمياً من خلال حركية التجارة والاستثمار الاقتصادي وتسويق الثقافة الكونفشيوسية. 
ويرى ناي أن الاتجاه القومي الانكفائي خطر على استراتيجية القوة الأميركية التي تأسست تاريخياً على الرؤية الليبرالية الكونية وعلى عناصر القوة الناعمة من جاذبية وتحالفات خارجية ونظام مؤسسي دولي.
لا يهمنا كثيراً تقويم ناي، الذي هو أحد رموز الحزب الديمقراطي الأميركي وكان مقرباً من إدارتي كارتر وكلينتون، للسياسة الأميركية الحالية، وإنما أردنا من خلال هذا العرض لأطروحته، تناول جانب محوري من العلاقات الدولية الجديدة، هو المتعلق بالقوة الناعمة. 
 ما نريد أن نبينه هنا هو أنما يعتبره ناي تراجعَ القوة الناعمة الأميركية هو في الحقيقة مؤشر على تقلص النفوذ الغربي في العالم الذي أمتد لثلاثة قرون متواصلة.
لقد قام هذا النفوذ في السابق على ثلاث محددات كبرى هي: الإصلاح الديني والثقافي الذي مكّن المجتمعات الأوروبية من النهضة والتنوير عبر النظم الليبرالية والتحرر السياسي والاجتماعي، على عكس الثقافات الأخرى التي لم تتمكن من القيام بهذه المراجعات النقدية الضرورية، والثورة العلمية والتقنية التي قامت على المنظور التجريبي للطبيعة بما له من انعكاسات في المجال الصناعي وما أفضى إليه من تزايد إمكانات السيطرة العسكرية والتجارية على العالم، ثم الصياغة المؤسسية للنظام الدولي التي بلورها فلاسفةُ ومفكرو القرن الثامن عشر في أوروبا وأخذت أشكالاً متتالية من ديبلوماسية النادي الدولي وتقاسم النفوذ بين القوى الغربية الأساسية إلى قيام عصبة الأمم المتحدة وهيئة الأمم المتحدة الوريثة لها.
وغني عن البيان أن هذه المقومات الثلاث خضعت في السنوات الأخيرة لتراجع ملموس، سواء تعلق الأمر بالأفكار الحداثية والتنويرية التي تلاشت في مهدها الأصلي، أو بالثورة العلمية التقنية الجديدة التي لم يعد الغربُ قلبَها أو المحور المتحكم فيها، أو بالمنظومة المؤسسية الدولية التي شهدت في الآونة الأخيرة تحولاتٍ نوعية ليس هنا مجال التعرض لها.
 قبل سنوات، كتب الباحث الفرنسي في الشؤون الدولية برتراند بادي كتاباً بعنوان «لم نعد وحدنا في العالم»، مبيناً أن عصر الهيمنة الغربية على العلاقات الدولية انتهى، وذلك بالضبط هو مضمون تراجع القوة الناعمة الذي ليس خاصاً بالسياق الأميركي الراهن وحده.

*أكاديمي موريتاني