كما يؤكد الأهل ، ومنهم وكلاء الحالة المدنية الأصلية، الذين ما زالوا بحمد الله أحياء، فإن”فجر” مولدي كان في “آدريق الحنوشة ” [ ستمائة متر من آخر منزل شرقي الخطيط من لواحق الدوارة ]،يوم الأثنين من ربيع النبوي[ المولود] وهنا يختلف الوكلاء و الوكيلات في كم منه، من عام وفاة رجلين مُهمين من الجماعة هما شيخ عامة وشاعر و “المتعلم الفرد للفرنسية” في تلك الفترة ،العالم أحمد سالم ولد سيدي محمد محمود، و وجيه وشاعر مجيد من بيت مرموق هو سيدي ولد عينينا ،ويزيدون إيضاحا بأنه يوافق “العام الموالي لعام” الفونس” وهو حاكم عسكري فرنسي للبراكنة، وذلك لسِت أو سبع سنوات بعد استشهاد المقاوم ولد مسيكة [1950] مولد أختي مريم أطال الله بقاءها..
أي أنني ولدت بثلاث سنين ونيف قبل الإستقلال في أرض اللجام على حافة الذراع المفضي إلى شامنا “أقان “من الشمال وإلى عراقنا”التجال” جنوبا ، وكانت المنطقة من أخصب وأجمل بلاد الله والناس فيها أهل بقر “أحمر” بالاف الرؤوس في أفطوط بينما يملك أهل أقان ثروة هائلة من الإبل ، و تحدث بينهم مشاعرات لطيفة في ذاك عندما تجف الأرض ويهزل البقر بينما تعانق أسنمة النوق عنان السماء.
وكانت علاقة هذا المجتمع ،المكتفي ذاتيا بزراعته و تنميته الحيوانية و جامعاته المحضرية المشهورة، بالإستعمار و دولة [النصارى] محكومة بأقل الممكن من اللازم :دفع الإتاوات و وثائق البراءة منها لضمان التنقل بالتجارة و “الغَيْبة” في السنعال وغيرها, و من هنا يتضح سبب انعدام أي صلة بالحكم الذي كانت بوادر تشكل خلافته للرجل الأبيض تتراءى للناس فكثرت الطيَّرة من هولاء الذين [لبستهم لبسة مسلمين و قلوبهم قلوب النصارى] وانتشر الحذر من مخالطتهم إلا للشيوخ الذين هم الوسطاء مع الإستعماريْن القديم المتصرِّم والجديد المتحكم ..
ولم تكن في المجموعة التي تعتبر ثاني تجمع سكاني كثافة في الدائرة[الولاية] مدرسة واحدة ،وفاءً لأحكام المقاومة الثقافية و الإجتماعية و الإقتصادية التي أفتى بها أمثال العلامة أواه بن الطالب ابراهيم الذي توفي مطلع الخمسينيات ولم يلبس غير قطن شمامة وفراء سخاله التي يُسلسل حِلِّيَّة كسبها أُمًّا لأُم…
وهكذا فتحتُ عيني على مجتمع محافظ حـدَّ التزمت مقاوم للعامل الخارجي حدَّ الإنعزال.
ولم أسمع ـ كلمتيْ: الإستقلال و مورتان قبل سن السابعة مع أول مذياع [رجو] أو حاكي [مزيك] لا أعرف ، جاء به شريف على جمل أحمر فخم “الشرماط” أتذكر أنه فلان بن مولاي رشيد وكان مشهورا ب”دواي العينين” لأنه يطبب العيون من مرض يسمونه”الدويره” إلا أنني و زملائي ارتعبنا رعبا شديدا من صندوق الحديد الذي جعل أهل الدوارة يغرقون في الحزن بدل الطرب لأن العجائز بشرن بأن الآخرة على الأبواب وفقا لمنطوق الحديث كما ترويه الفقيهات: إذا تكلم الحديد [ الراديو] و قرب البعيد [ الوتة] فقد قرب الوعد و الوعيد
[الآخرة] وتزيد العارفات منهن بأن الشاعر يقول: إن السفينة لا تجري على اليبس[السيارة] مما يعني علامة إضافية على قرب الساعة..
وفي هذا الجو المتغير برزت أسماء يتداولها الكبار ويتغنى بها الصغار من قبيل ول مولاي اسماعيل الشريف الذي في أرضه الشريف الشيخ ماء العينين الذي ـ بدوره ـ قاتل معه خالنا المجاهد عبدالله بن الطالب محمد الذي لا ينفك الأهل يذكرونه، و ولد يحيي انجاي و ول داداه و ول عمير و ول حرمة و مورتان و ديكول و النهضة التي كان “الصنادرة” يبحثون عن ابن عمنا أبي المعالي لأنه منها، كما كنا نحذر من تسميته أمام الغرباء لأن ول داداه يملك “صنيتات” تحت التراب يسمع بها من تكلم فيه…
وهكذا تكون صورة علاقتي بهذا الحدث الذي سأتعرف عليه عندما يُلبسنا دراريع خضراء من البوبلين ونعالا من البلاستيك لننشد أمام الفصل اليتيم في صنقه رافه و وراء نغمة شجية من معلم السنة التحضيرية الأولى المفرنسة بنسبة90بالمائة “المسيو الحافظ بن محمود ول عثمان”: أيها العيد مرحبا بك يا عيد من جديد….
—————
الحلقة الثانية: ارتسامات:
( الحلقة 2:ارتسامات )
كانت الأيام الأولى من شهر يناير1966 موعدنا مع حجرة لم نر مثلها قبلُ، لها سقف من الحديد الصقيل ،و جدرانها اسمنتية مطلية بالجير الأبيض، ولأننا لا نعرف المقاعد فلم نفطن إلى أننا نجلس مباشرة على أرضية من الإسمنت البارد في الشتاء إلى أن بدأ الزكام والحمى يستشريان في أجسامنا النحيلة …
وانخرطنا في الدرس مشدوهين منبهرين عطاشاً إلى المعرفة الحديثة بلغتها الغريبة
وكتبها الملونة وصور شخوصها المغايرة سحنة وكسوة و قسمها الداخلي وعمليات الإنفاق السخي على التلاميذ بالقدر الذي ينسينا استنكار العجائز أننا نقرأ “كلام اليهود والنصارى” وتمتماتهن بالتعاويذ مما ابتلانا به الله..
كانت الإذاعات قد بدأت تنتشر على يد مجموعة من التجار المهاجرين يجلبونها في موسم العودة و يبيعونها أو يتركونها لذويهم عند القفول,مما أتاح انتشار الأخبار ولاسيما من لندن وصوت العرب و هنا نواكشوط وصوت أميركا.. ومن أكثر المسموعات برنامج ول أقاط الذي يرد على وسائل الإعلام المغربية التي تدافع عم مغربية موريتانيا؛ عند الكبار؛ وبرنامج ليلة الإثنين المخصص لفنان موريتانيا الأول سيداتي ولد آبه ؛ المطلوب عند الجميع ولاسيما النساء والاطفال.
وكانت الوالدة رضي الله عنها ،تعــقد مجلسها ضحوة أو مساء على الأتاي مع صاحباتها ويبدأ الحديث في المدح والسيرة ، وقد يحدث خلاف فتستدعى الكتب لترجيح رأي، ودحض اخر، وكثيرا ما تنتهى المناكفات باستطراد ما قالت الاذاعة و كثيرا ما يختم النقاش باستنكار ما يُرمى به الشريف ولد مولاي اسماعيل، والشاهد الحاضر عند المرحومة، الذي لا يصل إليه الشك ، الحكايات المتعلقة بقصائد ولد محمدي في مدح سلطان المغرب التي تحفظ جلها إن لم يكن كلها : فتستمع السيدات مشدوهات للسينية وكيف أن السلطان ول مولاي اسماعيل امتعض عندما قال ولد محمدي :الله منك حقوق الناس قلدها…ففطن الشاعر وأكمل: يقظان لا غافلاً عنها ولا ناسِ….فتهللت أسارير الشريف و أمر له بكذا وكذا …وتنبهر النسوة ولكن ذروة النشوة تكتمل عندما تصل بصوتها الرحيم الرخيم إلى قوله:
خليفة المصطفى وهوابن بضعته::: ثوب من المجد لم يعلق بإدناسِ….
و تقول: “هذا محل الشاهد ان الشرفاء ما كيفهم شي”.. فتنتشي المجموعة ، علماً بأن هذا البيت لحظوته عند العامة أصبح موالا (شاهد نحية) من الطرب البيضاني الأصيل …
وهكذا رغم البرامج الموجهة فإن حضور المغرب (الغرب) وبلاد فاس ومكناس ومراكش ظل طاغيا جميلا ملونا يداعب أخيلتنا منذ الوعي الأول ،فلم يكن للأسطورة حضور بعد السيرة النبوية وحكايات علي كرم الله وجهه وعطش كربلاء و ما يزخر به مدح بنت عمتنا الشاعرة المداحة المرحومة محفوظة بنت الإمام من بطولاته عليه السلام ، كحضور حكايات مولاي اسماعيل ومجيئه إلى (رق تمراط) حيث كانت حلة (هيبة الرق) وكيف تم زواجه من (خناثه بنت بكار) وتولى العقد الولي الصالح (الطالب أعمر القفي) صاحب (أشايف اسطافر) وأنه من أهلنا الشيء الذي لا يستقيم مع نعته بأنه تابعي … و هل كانت القبيلة،حينذاك، قد وصلتْ من وادي نون إلى أقان؟ ولكن للاسطورة أحكامها التي تنسى حقائق الأيام…
وبالمقابل كان حضور حكومة الإستقلال مشهودا لكنها بدت استمرارا للمستعمر النصراني لأنها لم تقدم عنه بديلا ولم تخاطب العامة بما ترى و لا ما تريد، فكانت واقعا لا يثير الخيال ولا يبعث على الأمل ولا يربط بماض ولا يبشر بحلم … لاصلة لها بالناس ، ما خلا الأعوان فكانت مبتورة شائهة ..
وكم كانت أحاديث العجائز بالغة الدلالة عن أسماء دخيلة مشوشة المدلول مثل:(مورتان) و (العاصمة) و(صبيصب) و (صينكور) و (إسنغان) و (ديكول) و(الجمهورية) و(ستويه) ولا أحد يعرف معانى هذه المفردات المبهمة في تصور العامة ..هل هي أسماء أعلام أم غير ذلك…..
وتمر الأيام لنصل سنة 1968 عندما طلب المسيو أن نقف احتراما ودخل علينا الفصل رجل شديد بياض الوجه شديد سواد الشعر طويل القامة ممتلئ الجسم جهوري الصوت يلبس سترة بيضاء على منكبيه دبور يتسربل سروالا أسود (لسْ تومبي) ينتهي بكعبيه إلى نعال تشبه نعال الكبار لكن تلك من( الوحش) وهذه من (الزوايه) يرافقه نقيضه قمحي نحيف خفيف يلبس سترة بنية سابغة على سروال كسراويل النصارى(بنطلون) وبعد ما استعرض التلاميذ مارًّا بالخط الوهمي الفاصل بين الصفين خرج “الكبير”وبقي الصغير ليقول بالفصحى: افتحوا دفاتركم ، أكتبوا التاريخ الظاهر على السبورة و تحته “إملاء” وارتجل:
(قد علمنا أن رئيس الجمهورية الأمين العام للحزب سيزور قريتنا فلبسنا أجمل الملابس و خرجنا إلى الساحة وانتظمنا في خطين متوازيين…)
إلى اخر الإملاء الذي لم أعد أتذكره، ولكنني لن أنسى تردده جيئة و ذهابا ويداه وراء ظهره على طريقة (الترقي) والعرق يتصبب منا رغم الشتاء…حتى جاء الأستاذ وجمع الدفاتر بأمر منه، وخرج النحيف الوقور بصلابته وصوته الحاد وعينيه الغائرتين القويتين.
فلما أنس منا الأستاذ خشية قال. هذا الذي زاركم اليوم حاكم المقاطعة و الذي أملى عليكم مفتش الولاية…ومن لديه سؤال يتفضل… ومن جملة إجاباته الخبر الوارد في امتحان الإملاء فقد أبلغ الحاكم أكابر القرية أن الأستاذ المختار بن داداه الامين العام لحزب الشعب الموريتاني رئيس الجمهورية سيزور الدائرة ثم المقاطعة والقرى و منها صنقه رافه….
——————————
صورة الحجرة التي تعرفت فيها على الحرف اللاتيني…حفظت من طللها هذه اللقطة …في بلاد الرحيل.