سيدي أحمد ولد الأمير
منذ أن لاحظ الموريتانيون في القرون الماضية رغبة التجار الأوروبيين في ريش النعام، لم يستعملوا من وسيلة للحصول عليه غير الصيد، فأجدادنا لم يفكروا يوما –مع الأسف- في تربية النعام وتنميته وتكاثره ومن ثم بيعُه، ولهذا السبب فإن هذا الطائر صار، لشدة ما تعرض له من صيد وقنص وتقتيل، في حكم المنقرض أو المهدد بالانقراض. وتأتي أهمية تجارة ريش النعام وبيضه ببلادنا في تلك القرون الخالية مباشرة بعد تجارة الملح والصمغ العربي. كان التجار الموريتانيون يذهبون إلى مراسي الشاطئ الأطلسي أو تلك التي على ضفاف نهر السنغال حاملين معهم ما اصطادوه من النعام ريشِه وبيضِه وأحيانا يحملون لحمه ودهنه المعروف بـ"الزهم"، للمقايضة ببضائع الأوروبيين من ملابس وصناعات خفيفة كانت مرغوبة في ذلك الزمن عند الموريتانيين.
رغبة الأوروبيين في ريش النعام:
منذ عدة قرون وبلاطات ملوك أوروبا تستجلب ريش النعام، وتبذل الغالي والنفيس لاقتنائه، فهذا الريش يستعمل في صنع بعض الأمور كالحلي والقبعات فضلا عن تيجان الملوك والأكاليل المستعملة في الأعياد في حفلات النبلاء، وفي رقصات الباليه، وفي حلبات السباق، كما يدخل في جملة صناعة النياشين الخاصة بالنبلاء والتي تزين صدورهم والتي تعرف بالفرنسية بكلمة (Héraldique). ويصبغ ريش النعام بألوان زاهية لهذه الاستعمالات الخاصة، فظهر بأوروبا منذ أزيد من ثلاثة قرون ما يمكن تسميته "الصناعة الريشية" (La plumasserie) وهي النشاط الصناعي المتعلق بإعداد ريش الطيور والاتجار به.
ولن نصل إلى نهايات القرن الثامن عشر حتى يظهر في أوروبا شغف خاص بريش النعام وتصبح استعمالاته موضة الملوك والنبلاء والطبقة الراقية في أوروبا، فكان ريش النعام جزءا من تسريحات علية القوم. وفي القرن التاسع عشر بالذات سيصبح النشاط المرتبط بريش النعام اقتصادا قائما بذاته، وكانت المدينة الإيطالية ليفورنو أو قُرْنَة من أهم مراكز النشاط المتعلق برئيس النعام في أوروبا.
صيد النعام بموريتانيا
ما إن ينتهي شهر مارس من كل سنة حتى يبدأ موسم صيد النعام بالصحراء الموريتانية، فنهاية شهر مارس تعني انقضاء الشتاء وبالتالي بدايات ارتفاع درجات الحرارة، وعندما ترتفع درجة الحرارة تصبح مطاردة النعام أسهل، ويصبح الإمساك به بعد إتعابه بالجري أيسر. إن هذا الطائر العملاق لا يؤثر فيه شيء أكثر مما تؤثر فيه حرارة الجو التي تحد من قدرته على الصبر على الجري والإفلات من نيران الصيادين.
وفي القرون الماضية كانت حرارة الجو عندما تشتد صيفا خصوصا في منطقة الساحل الأطلسي ببلادنا، فإن خيطان النعام تتقاطر نحو الشاطئ بحثا عن جو بارد فتنشر النعامة جناحيها على ألسنة موج البحر المتكسرة على الشاطئ، وينتهز الصيادون تلك الفرصة، وقد أعدوا عدتهم وأخذوا كمائنهم بين وهاد كثبان الرمل الشاطئية، وينتظرون حتى يبل النعام ريشه من موج البحر فيخرجون فجأة من كمائنهم ويصيحون في وقت واحد صيحات عالية تصيب النعام بالذعر والفزع، فينظر فإذا البحر وراءه والصيادون أمامه ولا يجد من مخرج سوى الاحتماء بالموج، فيقترب منها الصيادون ويقضون عليها بسهولة واحدة واحدة، هكذا شاهد الرحالة الفرنسي فينصان الذي زار الترارزة وإينشيري وآدرار والساحل سنة 1860.
وقبل ذلك بقرن من الزمان يذكر عالم الطبيعة الفرنسي ميشيل أدنسون (Michel Adanson) المتوفى سنة 1806م أنه شاهدة بالگصيبه على ضفة نهر السنغال أواسط القرن الثامن عشر طريقة صيد البيضان للنعام التي تقوم على إنهاك الطائرة مطاردة ثم الإمساك به حيا أو قتله رميا.
وبعيدا عن الشاطئ الأطلسي أو ضفة النهر كان الموريتانيون في أعماق الصحراء يصطادون النعام عن طريق مطاردته على الخيول حتى يهلكه التعب ويمضه الجري، فما إن يقترب منه الصياد في هذه المطاردة المضنية حتى يسدد نحو عن قرب ويقضي عليه في الحين.
النعام جزء من تجارة المقايضة
يصطحب التجار الموريتانيون أرؤل النعام وهي صغارها (ومفردها رأل) ويبيعون الرأي الواحدَ ذا الخمسة أشهر ببيصتين أو ثلات من قماش النيلة الكثير الاستعمال في المجتمع التقليدي الموريتاني. أما النعامة الكبيرة التي زاد عمرها على ثلاث سنوات، والتي استطاع الصيادون الإمساك بها حية فإنها تباع بثماني بيصات من قماش النيلة.
إما بيض النعام فمن السهل على الصيادين الموريتانيين العثور عليه في رمال هذه الصحراء، لأن النعامة، التي تبدأ تبيض عند بلوغها ثلاث سنوات تبيض مرة واحدة في السنة، وغالبا ما تدفن جميع بيضها في الرمل وتترك واحدة منه دون دفن للاهتداء للمدفن البيضي. والواقع أن الصيادين يهتدون على المدفن بتلك البيضة البارزة. ويذكر الصيادون الموريتانيون التقليديون أن النعام عندما يلاحظ أن مدفن بيضه عثر عليه يدخل في حالة هياج شديد وغضب عارم، ويأتي لمدفن بيضه ليدافع عنه باستماتة وعنف. وهذا ما يجعل هذا الطائر المسكين عرضة للقتل مباشرة، فيؤخذ بيضه ويقتل ما جاء منه لمدفن البيض لاستخلاصه من الصيادين. وكان لبيض النعام هو الآخر تسعيرة خاصة به.
ومع أن هذه التجارة ربما تكون قد ساهمت في زيادة عوائد بعض الموريتانيين، وجعلت النعام يدخل في الدورة الاقتصادية للمجتمع الموريتاني التقليدي إلا أنها استنزفت هذه الثروة مما جعل الإدارة الفرنسية تصدر عدة قوانين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي للحد من صيد هذا الطائر. وهي قوانين لم يطبقها الصيادون غالبا مع ما فيها من ردع.
النعام في الثقافة الموريتانية
مما يروى أن أحد الحكام الفرنسيين استدعى جمعا من الصيادين الموريتانيين، وفيهم بعض نبهاء المجتمع وقادته، وأمرهم بالكف عن صيد النعام وأعطاهم أجل شهر موضحا أنه بعد انقضاء هذا الأجل فإنه لا بد من الكف النهائي عن قنص النعام وإلا فإن الصياد سيعرض نفسه للمحاسبة والمعاقبة. ومع أن الاستياء كان باديا على وجوه الحاضرين إلا أن أحدهم طمأنهم على أن هذا الأجل يكفيهم للتزود بما يريدون من النعام قائلا لهم هذا: "ذاك إموت فيه النعام" أي أن هذا الشهر يكفي للقضاء على ما تريدون من هذا الصيد الغالي. فصارت العبارة مثلا يضرب لإمكانية انتهاز فرصة الزمن والاستفادة منه.
وكان الشيخ عبد الله الشهير بلقبه گلاه ابن صلاحي بن المقري التندغي البوحبيني كثيرا ما وقف في شعره على مرابع قومه قرب الشاطئ الأطلسي وما جاوره، ومن شعره المناسب لهذا المقام قوله:
كفى واعظًا بحْرُ القَفَ لم يعد يُرَى ۞ به لأبي بكر السباعي زورق
وأعجب من ذا الروم أمست بتيرس ۞ و"زمور" خيطان النعام تمزق
وبحر الفقا: هو المحيط الأطلسي فجهة الغرب تعتبر في الثقافة الحسانية جهة القفا، ومنه عيون المگفى أكبر المدن بالساقية الحمراء. وأبو بكر السباعي المذكور في البيتين من العبيدات من أولاد بالسباع وكانت لأسرته وساطة بين أمراء الترارزه وبين الشركات الأوربية في القرون الماضية وكان لهم جزء من الإتاوات التي يعطيها الأوربيون كما ذكر المختار بن حامدن في جزء أولاد بالسباع من موسوعته. ويدل البيتان على أن الأوروبيين كانوا يمارسون صيد النعام بمناطق تيرس وزمور بشمال موريتانيا.
وخيطان النعام تقال لجماعة النَّعامِ، إذ يقال نَعامة خَيْطاء بَيِّنَةُ الخَيَطِ، وخَيَطُها: طُولُ قَصَبِها وعُنُقِها، ويقال: هو ما فيها من اخْتِلاطِ سوادٍ في بياض لازِمٍ لها كالعَيَسِ في الإِبل العِراب، وقيل: خَيَطُها أَنها تَتقاطَرُ وتَتَّابعُ كالخَيْطِ الممدود.
وكان بعض العباد الزاهدين يألفون الحياة بالقفار ومساكنة النعام، ومن ذلك ما ذكره بدي بن القاضي المجلسي أن شيخه التاه بن يحظيه بن عبد الودود الجكني كان إذا أقرأ بيت المقصور والممدود:
وتألفه الخيطى وخيطاء إلفه = ولولا المنى لم يرض منه مناء
يقول؛ "هذا مثل سيدي محمد الشريف الصعيدي".
وعلى ذكر مساكنة النعام ومؤالفتها في هذه الصحراء الموريتانية فإن امحمد الملقب هدَّارَه بن آكريمشْ وهو من قبيلة إدِيشِلّي ومن بطن أمحيْصرْ، كان صوفيا سائحا في البراري، أخذ عن الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل، وكان حسب مترجميه قد فقده أهله صغيرا فعاش بين النعام حتى بلغ. ثم رجع إلى الحياة العادية لكنه صار محبا للعزلة مستأنسا بالوحوش مساكنا للنعام. وقيل إنه عاش أزيد من 145 سنة وتوفي سنة 1958. وقد رمته الأقدار بتيندوف بالغرب الجزائري، وترجم له بعض الجزائريين الأفاضل ترجمة تحت عنوان: "هداري الصليح الأسطوري"، كما كتبت عن هذا الموريتاني الكاتبة والصحفية السويدية مونيكا زاك رواية بعنوان: "الولد الذي عاش مع النعام" (Pojken som levde med strutsar).
ويقال في الحسانية للحسناء تفوق قريناتها "شالت راس النعامة" أي فاقتهن حسنا وغلبتهن جمالا، وربما أخذوه من صعوبة صيد النعام فهو لا يتأتي إلا لقناص ماهر. وينبغي التفريق بين العبارة الحسانية "شالت راس النعامة" وعبارة "شالت نعامتهم" الواردة في الشعر العربي القديم وهي كناية عن الموت والهلاك، فشالت: ارتفعت، والنعامة هنا ليست الطائر المعروف بل تقال لباطن القدم أو لعظم الساق، وهو المقصود؛ لأن من مات ارتفعت رجلاه، وانتكس رأسه، وظهرت نعامة قدمه شائلة. وقيل: معناه ارتفعت جنازته. وفي الصحاح: النعامة: الخشبة المعترضة على الزرنوقين (منارتان تبنيان على رأس البئر فتوضع عليهما النعامة)، ويقال للقوم إذا ارتحلوا عن منهلهم أو تفرقوا: شالت نعامتهم.
وقال ابن بري في أماليه عليه: وشاهده قول أمية بن أبي الصلت:
اشرب هنيئاً فقد شالت نعامتهم ۞ وأسبل اليوم في برديك إسبالا
وقال آخر:
إني قضيت قضاءً غير ذي جنفٍ ۞ لما سمعت ولما جاءني الخبر
أن الفرزدق قد شالت نعامته ۞ وعضه حيةٌ من قومه ذكر
في الثقافة الحسانية رقصة شعبية تصاحبها أغنية من كلماتها: "النعامه هاه جاك الدراس".
ويقولون في اللهجة الحسانية "فَرْگْ انعامْ" لجماعة النعام، وهي مثل "آگليف" من الإبل و"گطعه" من الإبل أو البقر و"احموره" من الحمير و"آگزي" من الغنم.
انتهى
للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:
[email protected]
[email protected]