
تتصاعد الحاجة الأوروبية لإيجاد بدائل عن الغاز الروسي مع مرور الوقت، فمشاريع الطاقات البديلة للموارد الأحفورية غيرُ مجدية اقتصاديا في المنظور القريب بسبب الكلفة الباهظة، لذلك أعاد مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء الذي يربط نيجيريا بأوروبا عبر الجزائر مرورًا بالنيجر، فرض نفسه كخيار استراتيجي.
إلا أن هذا المشروع يواجه تحديات كبيرة، فهو يتقاطع مع تنافس إقليمي وجيوسياسي معقد، تلعب فيه روسيا وتركيا وقطر والمغرب أدوارًا متفاوتة.
وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة بين الجزائر وموسكو، لاسيما في المجال العسكري، إلا أن مصالحهما في ملف الطاقة بدأت تتباعد.
فروسيا، التي خسرت إحدى أبرز أوراق ضغطها على أوروبا بعد تدمير خط “نورد ستريم”، تسعى إلى إطالة أمد أزمة الطاقة الأوروبية لإضعاف موقفها من الصراع في أوكرانيا، وعليه لن تكون موسكو مسرورة بأي مشروع يسهم في تأمين احتياجات أوروبا الطاقوية من مصادر بديلة.
في الوقت ذاته، تُلقي الجزائر بكل ثقلها لإنجاح مشروع الأنبوب الذي يربطها بنيجيريا عبر النيجر، لتعزيز موقعها كمركز رئيسي لتصدير الغاز إلى أوروبا، وتعويض الفراغ الروسي، هذا الطموح يضعها في موقف دقيق بين الحفاظ على شراكتها مع موسكو والدفاع عن مصالحها الحيوية.
متابعو الموقع يشاهدون:
ونشير هنا إلى أن الخلافات الصامتة بين موسكو والجزائر، تجد بعض المحطات التي تخرج فيها إلى العلن؛ فروسيا تصطف مع الإمارات لدعم حفتر في شرق ليبيا، وتنشر مرتزقتها سيئة الصيت “فاغنر” في دول الساحل رغم المعارضة الجزائرية الصريحة.
ويبدو أن موسكو ليست الوحيدةَ التي لا تريد لمشروع نيجيريا-الجزائر أن يرى النور، فهناك أيضًا تركيا التي تسعى لأن تكون مركزًا إقليميًا لنقل الغاز نحو أوروبا، عبر مشروع “مركز الغاز التركي” (Turkish Gas Hub). ولعل ذاك هو الدافع الرئيسي لأنقرة كي توظّف كل ما لديها لإسقاط بشار الأسد، وهي الغاية التي حققتها رغم الدعم المستمر الذي وفّره الروس لحليفهم!
وهنا تبرز قطر، التي تعد من أكبر مصدّري الغاز الطبيعي المسال عالميًا، وهي تدعم بقوة تعزيز البنى التحتية للغاز التي تربط الشرق الأوسط بأوروبا عبر تركيا، بما في ذلك مشاريع مراكز توزيع الغاز وخطوط الأنابيب الإقليمية، بهدف ضمان تدفق دائم ومستقر للغاز، وتخفيف كلفة تصديره إلى أوروبا.
رغم أن قطر تعتمد أساسًا على الغاز المسال، إلا أن استراتيجيتها الإقليمية تسعى لدعم تعدد طرق الإمداد، ما يجعل نجاح مشروع الجزائر-نيجيريا منافسًا محتملا على جزء من السوق الأوروبي المستهدف
وباعتقادي الشخصي، فإن حادثة إسقاط الجيش الجزائري المسيّرةَ المالية “التركيةَ الصنع” داخل حدودها الجنوبية، يعكس حجم الصراعات الدائرة في الخفاء لإفشال مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء.
ويبدو أن تمكين تركيا لحلف الساحل الجديد (النيجر – مالي – بوركينا فاسو) من أسلحةٍ متطورة، خاصة المسيّرات، هدفه الإسهامُ في تعقيد الأوضاع الأمنية في المنطقة، باختلاق أزمات بين الفينة والأخرى، تُضعف موقف الجزائر، متماهيةً في ذلك مع روسيا لعرقلةِ تنفيذ مشروع الأنبوب النيجيري عبر النيجر أو تأمينه لاحقاً.
إن قراءةً متأنية لمواقف النيجر المتذبذبة تجاه الجزائر، قد تفسّرُ حجم الضغوط التي يتعرض لها هذا البلد، لثنيِهِ عن أن يكون ممرًا آمنًا لأنبوب الغاز النيجيري نحو الجزائر!
في موازاة ذلك، يتحرك المغرب لبناءِ نفوذٍ في منطقة الساحل، عبر تعزيز علاقاته مع مالي في البداية، والهدفُ غيرُ المعلن من كل هذا هو الدفع بمالي لاختلاق التوترات مع الجزائر، وجرّ حليفها في النيجر نحو هذه التوترات بدعمٍ روسي طبعاً، بما يُفضي إلى إرغام نيجيريا على عدم المُخاطرة بنقل غازها عبر منطقة غير مستقرّة، وبالتالي تفضيلِ مشروع الأنبوب البديل، الذي يربطها بالمغرب عبر عدة دول إفريقية، وصولًا إلى أوروبا بدل المرور بالجزائر، ولعلّ هذا ما يفسّر لعب نيجيريا على الحبلين سابقاً قبل أن تميلَ كفةُ الشراكة مع الجزائر مؤخّراً.
من جانب آخر، تُدرِكُ موسكو أن المشروع الذي يطمح إليه المغرب لا يشكّل خطراً آنيا على موقفها في الصراع مع أوروبا، فمشروع الأنبوب الذي سيمرّ عبر المغرب في غاية التعقيد، وسيستغرق ثلاثة عقود تقريبا ليكتمل، وهو ما يمنحها الوقت والأريحية لخنق أوروبا في حال استمرّ النزاع المسلّح مع أوكرانيا.
إذا نجحت الرباط وموسكو وأنقرة في توتير العلاقات بين الجزائر وتحالف الساحل الثلاثي، فقد تميلُ نيجيريا فعلا إلى التخلي عن خيار الأنبوب العابر للصحراء، لصالح المشروع المغربي رغم أنه الأكثر كلفة والأقلّ عائداً، لكنه أقل تعقيدًا سياسيًا وأمنياً بالنسبة لها، رغم بعض التحديات المرتبطة باحتمالات عودة جبهة البوليساريو للكفاح المسلح واسع النطاق ضد المغرب.
ما بين الضغوط الروسية لتعطيل المشروع، والتحركات التركية – القطرية لفرض بدائل برية وبحرية، والمناورة المغربية لاقتطاع حصة من الغاز النيجيري، يقف مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء الذي تطمح الجزائر لتجسيده أمام تحديات كبيرة، قد تضع أمن حدودها الجنوبية في دائرة الخطر المستمر.
المصدر: أوراس