
ذلك الطفل الصغير الذي كان يلهو بالألوان في المحترفات الفنية، صحبة أقرانه في مواسم أصيلة الثقافية الأولى، تغيّر الآن. لا أحد شعر بالزمن الذي عبر بنا بأحداثه بهذه السرعة. منذ نهاية عقد السبعينيات، نما ذلك الطفل وتطور، متوازياً مع ما وفره موسم أصيلة من غذاء ثقافي. الآن، حفرت السنون في ملامح وجهه علامات إضافية، صقلته التجربة، وكبر في غفلة من الجميع، وبدت على سماته علامات نضج مبكر.
كان مثقفو أصيلة وروادها الأوائل من الكتاب والفنانين والمفكرين يتابعون خطوات بداياته شاباً يافعاً حالماً بالمشاريع، يشاهدونه عن قرب وهو يكبر عاماً بعد عام، يحسبون طوله بالمقياس المتحرك، وهو بينهم يبدو كمن يهذي بأحلامه الصغيرة. تكبر الأحلام بالمثابرة والالتزام والجهد، فتتحقق، ثم يعبر الشاب بحر المانش إلى الجزيرة البريطانية وقد اشتد عوده، وأصبح صحافياً كما كان يحلم وهو صغير.
بين نهاية عقد السبعينيات واليوم، جرت مياه كثيرة في نهر الزمن. أصبح حاتم البطيوي كاتباً وصحفياً صاحب تجربة متميزة. بدأ العمل في كبرى الصحف العربية التي لا تتثاءب، كما أراد لها رئيس تحريرها الأسبق عثمان العمير، حينما شق لها ذلك الشعار من صلد الحجر.
اختفت الصحف الورقية ونمت الصحف الإلكترونية، وهذه سنة الزمن. ومع هذا التحول، توسعت تجربة حاتم البطيوي، من سكرتير تحرير إلى رئيس قسم سياسي، ثم مدير تحرير في مواقع وصحف مختلفة، وكاتب رأي مرموق.
لكن الصحافة تأتي أحياناً قرينة للسياسة، ونادراً ما تكون ربيبة للثقافة، وهنا مربط الفرس.
الطفل الصغير، الذي كان يعبث بالألوان ويرسم زرقة البحر وصفاء السماوات، ظل جندياً وفياً لموسم أصيلة، الذي بناه محمد بن عيسى على قدر أصيلة المغربية، ثم جعله يكبر ويعلو حتى صار بحجم العالم وضفافه المختلفة. يتعدد رواده، يتناقشون، يختلفون، ويبنون جسوراً خلف الرجل العظيم.
كان حاتم البطيوي ظلاً لصيقاً لمحمد بن عيسى، يقترح ويدير ويستشير. قلبه يخفق وجلاً على المدينة والمهرجان، يخشى عليهما بإحساس الطفل الذي يخاف على الخزف أن ينكسر. قرأ وتعلم في الجامعة، لكن مدرسته الكبرى كانت تتشرب رحيقها من ينبوع الرفيق الراحل، ذلك الرحيق الذي يحافظ على الموجود والمكتسب، ويبني الأسس للمستقبل.
صار حاتم البطيوي يحرص كل سنة على أن يكون في قلب الموسم، موزعاً مواهبه بين الكتابة الصحفية عن الأنشطة، وإدارة الصحفيين، وصناعة منتج يليق بأهم مهرجان ثقافي عربي.
في الأشهر الأخيرة، كان يوزع وقته بين لندن والرباط، دون أن ينسى أصيلة، لكن قلبه ظل مع باني الأسس، محمد بن عيسى، الذي شاهده يفقد قواه رويداً رويداً دون أن يستسلم، حتى جاء القضاء والقدر المحتوم، إذ لكل أجل نهاية وكتاب.
رحل محمد بن عيسى عن دنيانا كما كان مقدراً له. سالت المحابر بالكلام الطيب عن الفقيد، مع ذكر خصاله وتقدير منجزاته الرائدة، لكن حاتم البطيوي، الذي انهمرت دموعه حزناً من هول الفقدان، أدرك بلا شك، في لحظة تنوير، أن العزم قد عُقد عليه ليواصل المسيرة.
كان محمد بن عيسى قد وجد فيه الرجل الأمين، الوفي، القادر على مواصلة المهمة: أن تبقى أصيلة فاتحة ذراعيها للبحر وللضيوف الذين يؤمونها كل سنة لإحياء موسمها الثقافي وموعدها الذي لا يُخلَف.
اجتمع أعضاء مؤسسة منتدى أصيلة أخيراً لينتخبوا أميناً عاماً جديداً، ولم يجدوا على قدر المسؤولية سوى ذلك الرجل الذي كان ذات يوم طفلاً يلهو بالألوان، ويرى في مدينته حلماً مستمراً ترثه الأجيال جيلاً بعد جيل.
بقيت أصيلة على الدوام حلماً متحققاً وواقعياً، جاعلةً من المغرب الكبير منارة دائمة للثقافة والإبداع، وللبسمة التي لا تفارق الوجوه.
ربما سيفرد حاتم البطيوي للراحل المؤسس حديقة أخرى في أصيلة، تزهر فيها الورود، وتحيا في خضرتها ذاكرتنا الثقافية وأحلامنا، كما هو حاصل مع الرواد قبله. قد يجاور بن عيسى محمود درويش والطيب صالح وغيرهما، وهكذا ستظل الأعمال العظيمة وسير الرجال الأفذاذ باقية على أديم أصيلة، وعبر الزمن