من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(8)
حكايات الأسود:
فك الأسد والرجل الأيٍد(1)
"قيل لكم في ما قيل لكم.."
إن ثلاثة رجال من حي في المنطقة الجنوبية، خرجوا لجلب الحبوب من ضفة النهر، فلما عبأوا ظروفهم بالدخن والذرة من بيادر شمامه، قفلوا راجعين رفقة.
كان الفصل شتاء فطلعت عليهم أنواء الشمال قبيل المغرب وأبرقت وأرعدت، فتبادلوا الرأي، واتفقوا على أن ينزلوا في أحد أكواخ "إفلان" المسقوفة وهي مهجورة في هذالفصل، حتى لا تبتل الذرة وتفسد في الأوعية.
****
كان اثنان من الرجال يعرفان منطقة الخشومه التي تكثر فيها الحيوانات المفترسة. أما الثالث فلا علم له بذلك لأنه تربى في أخواله بعيدا ولاعلم له بذلك، ولأنه لم يسافر قط جنوبا إلى ضفة النهر..
لم يكن للكوخ باب يسد به فاضجع الرجلان الخائفان من السباع في آخر مكان منه على بعض الأوعية، وتركا الرجل الجاهل بالحال، ينام قرب الباب.
****
نزل مطر خفيف فنام الرجال على موسيقى الطل اللطيف، حتى إذا توسط الليل أحس الرجل الأيد النائم قرب باب الكوخ بأنفاس حارة على وجهه فاكتملت عليه يقظته، وإذا بكائن فظيع الرائحة يتشممه، فرفع يده وصفعه صفعة أطاحت بالكائن المرعب خارج الكوخ، والتصق فكه بكف الرجل الأيد.
****
أخذ الرجل بيده اليسرى عودي زناد من حطب جلبه الرجال مع الحطب ليبقى جافا داخل الكوخ فتسري فيه النار عند إيقاده.. وورى النار، ونفخ فيها حتى اشتعلت في الحطب، وأيقظ أحد الرجل، ومد إليه كفه التي التصق بها فك هائل لا تزال أنيابه وأضراسه في مكانها. وسأله:
- ماهذا؟
وبدل أن يجيبه الرجل شهق ومات من حينه فزعا.
أيقظ الرجل الأيد رفيقه الثاني وسأله هل تعرف ما صاحب هذا الفك؟
فأجابه وقد تصلب فكاه وثقل لسانه:
- هادا ابع..
- لم أسمع قط بحيوان يسمى ابع.
فوقف الرجل وأخذ يقترب من اللهب وهو يرقص ويغني بصوت مبحوح وكأنه مشكول الرجلين:
- هادا ابع.. هادا ابع..
فأيقن الرجل أن رفيقه فقد عقله، فقام إليه وصرعه وأوثقه بعمامته ويده غير المعطلة، وربطه بمجمع الكوخ خوفا أن يحرق نفسه بالنار، وقال له:
- غن كما تشاء.
نام الرجل الأيد إلى الفجر نوما عميقا.
****
في الصباح الباكر خرج الرجل الأيد من الكوخ بعد أن صلى الفجر ودفن الميت في ثيابه داخل الكوخ. ولما نظر رأى الأسد ميتا وتحت مناخيره أضاة من الدم فهاله شكله المخيف. لكنه لم يعبأ به كثيرا
جلب الأيد إبل القافلة التي تحمل ذرتهم، فلما اقترب نفرت الإبل من جثة الأسد وامتنعت من الاقتراب أكثر. ربط أزمتها في شجرة، وذهب إلى الأسد وجره بعيدا.
انطاعت الإبل بعد ذلك فأناخها حيث أراد وحمل عليها المزاود بيده الوحيدة، وحرر المجنون ووضعه على أحد الجمال الذلولة وشده بقوة إلى ظهره حتى لا يسقط، وكان لايزال يغني أغنيته المبحوحة:
- هادا ابع.. هادا ابع..
عقد الرجل الأيد أزمة بعض الجمال إلى أذيال بعضها وسار يقود قطاره حتى وصل حيه عصرا.
****
أقبل عليه رجال الحي يحطون الأحمال عن ظهور الجمال ويسألونه عن رفيقه المتخلف وسبب جنون الثاني؟
فقص عليهم قصته.
****
دعي طبيب الحي لعلاج الرجل الأيد وفصل حنك الأسد عن راحته، فأمر بذبح شاة وجلب معدتها وهي لاتزال ساخنة إليه، وعلقها بين سماكي الخيمة التي آوى إليها الرجل المصاب،
وأمر فنان الحي وأسرته بجلب طبلهم ووترياتهم، فأخذ الفنان في عزف الأوتار هو وزوجته وبغنيان في "فاغو"، وأخذت النسوة في قرع الطبل، فكان فك الأسد ينفك ويتزايل عن الراحة كلما اقشعر جلد الرجل الأيد. ولما بقي شعر الأسد كالشوك في كفه زاد حماس الحفل وزادت قشعريرة المصاب طربا، فصار شعر الأسد يتطاير إلى معدة الشاة المعلقة بين سماكي الخيمة وينفذ فيها ويستقر، حتى لم تبق شعرة واحدة في كف الرجل القوي.
****
"وربطت أنا نعلي وعدت سالما إلى أهلي، أحدث بقصة الرجل الأيد وفك الأسد؛ أبقاني الله سالما، أحدث بها دائرا عن دائر."
-------------
الأيد: القوي الشديد
م. أحظانا
من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (9)
من حكايات الأسود:
لاتتدخلي بين الرجال
"قال لكم من قال لكم والبال لنا والبال لكم، والبال لأولاد المسلمين":
إن رجلا وزوجته كانا في غنم لهما يرعيانها في تيارت بأرض الحوض، وقد منحهما الله بسطة في الجسم والقوة. وبينما هما يستظلان بشجرة قرب الغنم الراتعة إذ أقبل أسد له لبد تتبعه لبؤة نزقة. فلما اقتربا من الغنم جفلت، فانطلقت اللبؤة في أثرها واصطادت منها نعجة، فلما رأت الرجل يركض نحوها تركت الشاة.
لكن الأسد زأر واتجه إلى الرجل، فاشتبكا اشتباكا عنيفا كأنهما أسدان. وثار عجاج معركتهما، فاقتربت المرأة، لترى عن كثب وهي واثقة من قوة زوجها، وصارت تشجعه:
- عليك بخناقه. إنه كلب رخيص. لاتتركه يصرعك أو ينال منك. أنت الأسد وهو الكليب الضعيف. اقض عليه وأرحنا.
كان الرجل قد شد خناق الأسد بأحد ذراعيه من الخلف بعد أن علا ظهره، وتمكن من عضلة لسانه لما مدها من رهق الخنق، وصار يجذبها بقوة ويشدها على أنيابه وأضراسه ليستأصلها بيده الأخرى. ولما رأت اللبؤة أسدها يعاني ويدور على نفسه٠كي يتخلص من الرجل العملاق، أقبلت لتساعده.
فأمسكت المرأة بذراعها وثبتتها حيث هي وقالت لها:
- لاتتدخلي بين اارجال حتى نعرف أيهما أقوى فمصارعة الرجال لا تعني النساء.
لم تفهم اللبؤة، فهاجمت المرأة بضراوة.
لم تفعل السيدة إلا مافيه الصالح، فقد جمعت ذراعي اللبؤة في يديها وطوحت بها في الهواء وصرعتها أرضا، وأخذت تخنقها وهي جالسة على صدرها حتى نفقت قبل أن يتهاوى الأسد ميتا بين يدي الرجل الذي لم يصب إلا بجروح متوسطة في ذراعيه.
قالت له سيدته:
- لقد أطلت معه العراك ولديك سكينك، ويمكنك أن تنحره بها سريعا.
- اعذروني لقد نسيتها.
****
أخذ رب الأسرة شاة من غنمه بعد أن أدركها، وأتى يحملها، وذبحها، وأخذ شحمها وأذاب منه على جروحه وشوى البقية، وأكله هو وزوجته التي نجت من مخالب اللبؤة لسرعة معاجلتها لها..
قطع الرجل أذني الأسد واللبؤة وأذرعهما ولسانيهما، ودسها في جلد النعجة، وهو يقول لزوجته:
- لو حدثنا رجال حينا ونساءه بقتلنا لخيمة الأسود الضارية هذه لما صدقنا أحد، ولذا أخذت معي الدليل.
****
"وربطت أنا نعلي إلى قدمي، ورجعت عنهما سالما أحدث بحكايتهما دائرا عن دائر."
م. أحظانا
(أم الروايات) (10)
الصياد الذي يسابق الغزلان. والدليل
"قال لكم ما قال لكم ومولانا هو الذي بان لنا وبان لكم وبان لأولاد المسلمين":
إن رجلا من كبار أهل شنقيط خرج إلى تكانت لجلب الذرة على جمال له، ولأنه لايعرف طريقه من شنقيط إلى حقول "كبو" في تكانت، فقد كارى دليلا خريتا، معروفا باهتدائه في الأرض. كان رجلا قصير القامة إن وقف مع الرجال، حائل السحنة، حاد النظرة، لاترمش عيناه إذا تكلم، ملامحه محفورة بعناية في وجهه، وعضلات ساعديه نافرة، تتبرأ كل واحدة منهن من أختها. شعر رأسه فاحم السواد، طويل منفوش كأنه مقشعر قشعريرة أبدية، يلبس دراعة قصيرة لايميز باصر لونها الأصلي. لو كان عقابا، يجمع لفقيها بحزام عريض من جلد المهى حول خصره، ولديه نعلان لايخلعهما أبدا كحزامه، وهما من جلد الثور الوحشي. ولديه سكين ومسواك سرح حشرهما في الغلاف المعلق في عنقه ببريمة ناعمة من جلد الضأن؛ يتحرك الرجل الموجز في كل شيء بخفة كأنه لايزن ريشة عصفور. كان نادر الكلام. وإن تكلم لضرورة جمع كثيرا من المعاني في ألفاظ قليلة، كأنه يخاف أن ينفد كلامه أو ينضب. يوحي سلوكه المختصر بالثقة للآخرين. يبتسم ولا يضحك ضحكا عاليا. لديه عصا أبنوس براقة في حمرة يبقعها سواد، يذود بها المسافات من أمامه إن سار.
كان الرجل الشنقيطي الكبير يتبع الدليل حذو النعل للنعل ليجنبه رؤوس ومنحدرات أهلة أحقاف "وران" المتراكمة على وجوهها تراكما صامتا، مبهم الأسباب.
لقد أعجب الشنقيطي بالدليل عندما عرض عليه أن يردفه أو يركب أحد الجمال الأخرى، فقال له: لا أركب أبدا حتى لا أدلل نفسي، أو أنام نوما متقطعا.
****
لما زالت الشمس عن كبد السماء نزل الرجلان تحت شجرة خلصتها نفاضة الشتاء من أغلب أوراقها، ثوت على غارب ربوة رملية صغيرة نمنمت العواصف أديمها الناعم بخطوط متناغمة..
كانت قربهما قرارة بها قطيع غزلان راتع. لم يهتما به لأنه لا سلاح لديهما فأعدا تمرا وثريدا وطحين شطائر من لحم مجفف، ودهنا عتيقا تشق رائحته رؤوس الجياع المتعبين.
رأيا رجلا طويل القامة، يتدلى من التلال المقابلة، يلبس ثوبا نظيفا، وقد وضع عمامته السوداء من النيلة على كتفه الأيمن.
ظنا أنه يقصدهما لكنه اقترب من قطيع الغزلان وركض إليه حتى توغل فيه، وصار يمسك ظهر الغزال بإحدى يديه، ويختبر شحمه ويفلته، ويده الأخرى فوق عمامته حتى لا تسقط؛ حتى اطمأن لشحم أحدها، فأمسك به، وحمله إلى مكان قريب من الرفقة وذبحه. ثم شق بسكين صغير فتحة في جلد فخذه ونفخ فيها نفخات متتالية فانتفخ جلد الغزال مسلوخا.
قال الدليل وهو يبتسم:
- هذا سلخ الجن لتيسهم!!
فقال له الرجل الكبير:
- يبدو ذلك.
قرب الرجل على عجل بعض الإذخر ونفشه ليقي لحم الغزال من الحصا، وجلب أعوادا حطب جافة من شجرة طلح يابسة قريبة، وحفر حفرة في الأرض وكسر الأعواد فيها، وأوقد النار بزنادي حطب دون أن يسأل جيرانه الذين أوقدوا نار غدائهم قبسا.. وعاد إلى الغزال وشق بطنه وأفرغ أحشاءه وأعدها للشي، ثم فتح جرم طريدته بكسر منابت أضلاعها في الكاهل والظهر، وكفأها في النار بعد أن أزاح الجمر عن الملة، ووارى الغزال بالبقية الباقية منها. وأعاد الجمر وبقية الحطب ولجأ إلى شجيرة كاذبة الظل، وتمدد تحتها، واضعا طرف ردائه على وجهه منتظرا أن ينضج اللحم.
****
التفت الدليل إلى رفيقه قائلا:
- سأطلب من هذا الرجل لحما من غزاله فأجابه الكبير:
- من قال لك إنه إنسي؟ إذا كنت لا تفقه لغة الجن فأنصحك بتركه.
- ولو كان جنيا سأطلبه.
تقدم الدليل خطوات مترددة نحو الرجل وقال له:
- السلام عليك إن كنت مسلما من الإنس أو الجن.
فأجابه الصياد:
- وعليك السلام.
- أريد أن تعطيني عضوا أو اثنين من غزالك هذا فأنا قرم للحم ولدي رفيق كبار.
- خذ معدة الغزال.
- معدة الغزال سهم المحتقر.
- أمامك قطيع الغزلان يسرح ويمرح في القرارة. خذ منه ما تشاء.
- لم أستشرك وإنما طلبت منك.
وعاد الرجل خائبا إلى رفيقه وحدثه حديثا خافتا:
- أنا سأخطف لحم غزال هذا البخيل.
فخاطبه الرجل الكبير:
- أأنت مخبول؟ تريد أن تخطف لحم غزال من يتخير في الغزلان وهم أحرار يركضون ولا يسقط رداؤه؟
- اسمع مني ما سأقول لك: سر في هذا الاتجاه سيرك المعتاد، فإذا انطفأت عين الشمس في البحر الأخضر فحط رحلك ومتاعك على تلة مشرفة على واديين يكثر فيهما شجر السمر والإهليلج. وسآتيك إذا أوقدت النار للعشاء.
ضرب الرجل الكبير كفا بكف وهو يبسمل:
-علك من مؤمني الجن لاتضرك البسملة، وهو كذلك.
خطا الدليل خطوات خفبفة نحو حفرة النار. فخاطبه الصياد:
- رضيت بمعدة الغزال؟ إنها مدفونة في الجانب الشرقي من الحفرة.
أفرد الدليل سكينه من غمدها وغرزها في ظهر الغزال ونفض اللحم قليلا وانطلق جنوبا كذكر نعام مضمر.
انتفض الصياد في أثره لما رأى سرعته الفائقة وذاب الإثنان بين السماء والأرض في أقل مما يبتلع فيه كلب خراجا.
****
أكل الرجل الكبير طعامه وهو يقرأ القرآن ليدرأ به الحيرة والمس مما شاهد، مكذبا نفسه عما رأى.
وشد رحله وظروفه على جمله، وقطر بقية الجمال، واتجه إلى حيث أشار دليله المحير.
عندما غربت الشمس نزل على الكبير على ربوة الواديين حتي وصف دليله.
أخذ يوقد النار في حطب جمعه، وصلى المغرب بعد أن أذن لرفع البلاء وطرد الجن والمكاره.
****
بعد هنيهة أقبل الصياد مسلما على الرجل الشنقيطي:
- عليك السلام.
- أين صاحبك؟
- ليس صاحبي، بل صاحبك، سواء كنتما من الإنس أم من الجن. ألم تدركه؟
- وهل أستطيع إدراكه. إنه كالفرس العتيقة من نسل الجريبات، تزيد في جريها كلما طال بها الشأو.
لم أبلغ تلة إلا كان على التلة الأخرى، ومنذ الظهر وهو يدور بي حول هذين الواديين حتى حال بيننا الظلام. وكلما تراخيت في الركض خلفه وقف يأكل لحم الغزال ويتحداني، حتى إذا اقتربت منه ترك الأرض حمراء بلقعا.
وإذا صدقت فراستي فإن رفيقك هذا لم يبت ليلة بدون غطاء دون السماء، ولم يشرب الماء الصراح، ولم يطأ الأرض بباطن قدمه مباشرة.
****
بعد هنيهة أقبل الدليل وهو يحل بقية أشلاء الغزال، ودفعه للصياد، فطلب الصياد من الشنقيطي أن يشاركه بعد أن تعرف عليه.
فأجابه:
- أنا لا أأكل المغصوب.
التفت الصياد إلى الدليل وقال له:
كل معي بقية المصيبة منك. فجلس قبالته وأخذا يتشاركان العشاء ويتحدثان.
قال الصياد للدليل:
- علك لا تعرف لم أطاردك طوال اليوم؟
- قد يكون لبخلك.
- بل لأسألك سؤالا واحدا وهو:
- ما دمت أسرع من فهد، وأصبر على الركض من جريبة عتيقة، فلم لا تترك عنك غزالي وتأخذ غزالا ترضاه من القطيع السارح في القرارة.
- لا لشيء إلا لبخلك، وسوء ضيافتك.
فضحك الرجل وودع الرفيقين بأريحية، عائدا إلى أهله بعدما تعشى ببقية غزاله.
****
"وربطت أنا نعلي إلى قدمي، ورجعت عنهم سالما، أبقاني الله أحدث بحكايتهم دائرا عن دائر."
م. أحظانا
حكاية ابّاهات الثلاثة وشوكة العين
"قيل لكم في ما قيل لكم":
إن رجلا من سكان جنوب البلاد، كان يقطع أغصانا من شجرة طلح عالية لجديه وخرافه حتى يأكلوا الأوراق الطرية،
ولقوة ضربات فأسه طارت شوكة من أحد الأغصان وغابت في بؤبؤ عينه.
ذهب الرجل إلى حكماء الأحياء المهرة المجاورين وغير المجاورين، لكنهم لم يروا أي شيء في العين المصابة.
عانى الرجل من آلام ممضة حتى أصابه الأرق وأنهكه الألم. وذات يوم مر به رجل تاجر من أهل الساحل (الشمال)، فقال له:
- إذا كنت تريد أن تشفى من وجعك فاذهب إلى "اباهات" في تيرس، وسيعالجونك.
****
أخذ الرجل زادا ورفيقا، وركب جملا نجيبا، وأردف رفيقه، ولم يزل الجمل يقطع بهما المهامه والسهوب والأحقاف والفيافي، ويتجاوز الهضاب والجبال، ويسائل الركبان والأحياء حتى ورد بئر قندوز فذكر له الوراد أن الحي الذي يوجد فيه اباه الصغير يبعد مسيرة ثلاث ليال للراكب في اتجاه الشمال الشرقي من حيث تطلع الشمس.
****
سار الرجل ثلاثة أيام حتى وصلا الحي فسألا عن اباه الصغير. دلهم أهل الحي على خيمته الكبيرة، فلما نزلوا بها وجدوه شيخا منهدما، يحزم حواجبه بعصابة من قماش ناعم، ولما سلموا عليه سألهم عن حاجتهم وقد أحاط به أبناؤه وبناته وأحفاده وأسباطه، بعد أن قدموا لهم القرى.
طلب اباه الصغير من الرجل أن يقترب منه، وفتح عينه المصابة ونظر فيها مليا فقال له:
- رأيت جرحا في البؤبؤ.. لكن اذهب إلى اباه الأوسط، فهو أبصر مني.
وأمر أحد أبنائه أن يهديه إلى حيه الذي يبعد مسيرة أربع ليال في الشمال السمتي.
****
سار الرجال الثلاثة حتى وصلو إلى حي اباه الأوسط، ونزلوا بخيمته ولم يجدوه في الحي لأنه ذهب عصرا نحو قطيع اللقاح ليعيده إلى الحي.
وبعيد المغرب إذا باباه الأوسط يسوق اللقاح. كان كهلا قوي البنية أشيب لم يحدودب بعد، ولما أعلموه بالضيف جاء يسأل:
- كيف حال الأضياف، مرحبا بهم؟
فأقبل عليه حفيده مهرولا وأحنى له رأسه فوضع يده على منكبه وهزه قائلا:
- شجرتك هشة كأبيك. كيف حاله؟
- في أقصى مراحل الضعف.
- أضر بنفسه.
- كيف حالكم أيها الضيوف الكرام، هل أنتم ممن يأكل اللحم بالليل كالسباع؟ يمكن أن ننحر لكم.
- لا نأكله.
- من أي بلاد الله؟
- من القبله.
- أمر أحد أبنائه أن يأخذ قعب الإبل ويتبعه فحلب لهم من لقاحه حتى ارتووا.
سألهم اباه الأوسط وهو يطلب منهم أن يزيدوا من شرب اللبن:
- ماذا جاء بكم من "القبالة"؟
فأجابه الرجل المصاب:
- لقد سمعت بحكمة اباهات، وقدمت عليكم في هذه الأرض حتى تعالجوني من شوكة طلح أصابت بؤبؤ عيني وغابت فيه، ولا أنام من ألمها إلا قليلا. وقد قال لي اباه الصغير إنه رأى جرحها وأمرني أن أذهب إليك.
أمر الرجل أحد أحفاده أن يوقد نارا أمام الخيمة وفتح عين الرجل ونظر إليها نظرة خاطفة، وقال له:
- ثمة شوكة يختلف لونها عن البؤبؤ، لكن من الأفضل لك أن تذهب إلى اباه الكبير، فهو أكثر مهارة مني.
في الصباح نحر اباه الأوسط جذع إبل وأطعم منه ضيوفه وأمر أحد أبنائه أن يرافق المصاب حتى يوصله إلى محلة اباه الكبير، وهو على بعد أربع ليال شمالا.
****
انطلق الرجال الثلاثة كل على جمل والنجائب تستف بهم المسافات حتى جاؤوا إلى قلتة يسقي فيها اباه الكبير إبله كما قال لهم حفيده إنها مظنة له.
وجدوا رجلا قد استوت فيه الطبائع الأربع، وهو ينوش بعيرا فقدروا أنه أحد حفدة اباه الكبير، لأن لمته سوداء كلها، وكان في تقدير الضيوف بين الأربعين والخمسين.
سأل الرجل الضيف عن اباه الكبير فقالوا:
- هو ذلك الذي ينوش البعير.
تعجب الرجل أشد العجب وقد أطاح اباه الكبير بالبعير ونادى على أبنائه أن يأتوه بالمياسم حتى يضع علامته على البعير.
كان متربعا على كتف البعير وقد أمسك بمشفريه لاويا عنقه بسهولة، وأخذ أبناؤه في تثبيت قائمتي البعير الخلفيتين ووضع العلامة على فخذه الأيسر.
أقبل اباه الكبير إلى حيث الضيوف وسأل الرجل المصاب:
- ما حاجتك؟
فأراد حفيده أن يجيبه، فقال له اباه الكبير:
- لم أسألك.
فأجابه الرجل المصاب بحكايته:
قال له اباه الكبير:
- انظر إلى فاتحا عينيك.
فلما نظر فيها قال:
- مد رجلك واصبر لحظة.
مد المصاب رجله وهو يتساءل:
- ما علاقة العين بالرجل؟
فقال له اباه وهو يطبق قبضته على أسفل ساقه:
احبس أنفاسه ويشد على عرقوبه بقوة هائلة، حتى زال عقل الرجل وطارت الشوكة من عينه بعيدا.
لم يلبث المريض أن نام من فوره.
أمر اباه الكبير أحد أبنائه أن ينحر ابن لبون من الإبل. وأخذ كليته حامية وشقها ووضعها حامية على عين الرجل وهي مغمضة..
انقضت ساعتان فاستيقظ الرجل وقد زايله الألم.
أمره اباه أن يأكل من سنام النحيرة وكبدها نيئين حتى يكتفي. فلما فعل قال له اباه الكبير.
- برئت. وسنقيم عليك ثلاثة أيام حتى يكتمل التئام جرحك.
لما انقضت ثلاثة أيام وحان وقت الوداع سأل المريض اباه الكبير:
- لقد عالجتني جزاك الله خيرا لكنني محتار في أمر واحد وهو أن حفيدك اباه الصغير شيخ مهدوم، واباه الأوسط كهل وخط الشيب رأسه، وأنت رجل تبدو أصغر من حفيدك وابنك بكثير؟
- تبارك الله. أقول لك ما يشفي غليلك:
أما حفيدي فقد ذهب به االنزق والفضول حتى وصل آدرار التمر وقضى فيه خمس سنوات فهدمته القباله، وأما اباه الأوسط فقد أقام بزمور وجباله سنوات فصار إلى ما صار إليه من تقدم نسبي في السن، فقد بلغ مائة وثلاثين سنة فقط، بينه وبين حفيدي اباه الصغير تشرين سنة.
أما أنا فبيني وبين اباه الأوسط ثماني عشرة سنة.
- لو لم أشاهد ما قلت لي ما صدقته، وقطعا لو حدثت به لما صدقني أحد.
****
وربطت أنا نعلي، ورجعت عنهم سالما إلى أهلي أحدث بالحكاية دائرا عن دائر.
م. أحظانا