إعلانات

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية( 4+5+ 6+7)

اثنين, 30/12/2024 - 02:16

(حكايات الأسود)

ابن الأمير والأسد أبو ذراع

قال لكم من قال لكم:

إن رجلا كبيرا وولده خرجا لجلب الذرة البيضاء لأسرتهما، ولديهما جمل يحملان عليه مزودين لإيعابها، مع زاد خفيف وسقاء صغير. وكان الولد يقرأ ما حفظ من القرآن على أبيه أثناء السفر.

في طريقهما إلى بيادر الحقول في الجنوب. مرا بمحلة عامرة بها أمير عظيم الشأن، فلما نزلا عليه أكرمهما، وبعد العشاء أمر بنار كبيرة فأوقدت، وأرسل أحد حراسه لفنان ماهر كبير سنا، تصدر المجلس وتحلقت حوله مجموعة من المراهقين الأشداء.

قال لهم:

- الليلة ليلة الفصال والذرع.

وأخذ يعزف على آلة "تيدنيت" ويسألهم: ماهذا الشور؟ فإن أجابه أحدهم إجابة خاطئة ذرع له أحد الحراس الطوال ذراعا من حيث هو، فيتأخر المراهق ويضحك المجلس ويزداد خجل المراهق. وكان لكل واحد من الفتيان اليافعين قرن شعر على أم رأسه وبقية شعره حليقة.

تأخر الفتيان حتى لم يعد بإمكان جماعة الأمير من المتحلقين على النار أن يروا أغلبهم.

لكن كان من بين المراهقين يافع لم يذرع له بل بقي حيث هو، يجيب على كل سؤال طرحه الفنان في معزوفاته، فكان الفوز من نصيبه، ولذا أهداه الأمير خنجرا مقبضه من الأبنوس المطعم بالفضة. وأقبل عليه المراهقون يتصايحون ويرفعونه، وأقبلت النساء تزغردن وتقرعن طبلا معلقا بين شجرتين فتتزلزل الأرض من رزيمه، وكان الفتى يرفع خنجره زهوا.

****

لم يرق المشهد للضيف فسأل الأمير مستنكرا:

-ماهذا العبث مع ما يشاع عنك من عدالة وحماية للأرض وللمسلمين؟

فأجابه الأمير بلطف:

- هذا ليس عبثا، بل هو في صلب تمريننا للشباب، حيث يعزف لهم الفنانون يوم الكريهة ما يجعلهم يتحمسون ويقاتلون بشجاعة دفاعا عن الإمارة.

قال الضيف:

- ولكن السماع حرام.

فرد عليه الأمير مبتسما ابتسامة سموحة:

لم يبحه لنا إلا أنتم. قال لنا شيوخ منكم يوردون ويصدرون ويلجأ إليهم الكل، يستفتيهم في أحكام شرعه، إن السماع ليس محرما بذاته، بل بما يترتب عليه من ارتكاب المحرمات.

فإذا لم يترتب عليه محرم فهو مباح. وأنت لم تر محرما.

أما إذا ترتبت على السماع مصلحة مثل تربية فرساننا على الشجاعة و حماية الحمى، والدفاع عن العزل واستتباب الأمن بينهم، وحماية أموالهم من النهبة واللصوص حتى يتعلموا ويعلموا؛ فإنه يدخل في باب الواجب. لأن مالايتم الواجب إلا به فهو واجب. فالمسألة مسألة خلاف بين العلماء.

انكمش الضيف، وقد أحرجه جواب الأمير وفاجأه، فصار يردد:

- كذبوا عليك.. كذبوا عليك.

فقال الأمير وهو يضحك:

- سنرى غدا.

فرد الضيف:

- علماؤك لا يفتونك فتوى صحيحة لأنهم يخافونك. أنصحك لوجه الله أن تبعد هؤلاء الأطفال وترسلهم إلى محاضر العلم لتنجو من حقهم عليك يوم القيامة.

قطع الأمير الحديث مع الضيف وأمر أحد خدمه أن يذهب به إلى خيمة مجاورة هو وابنه ويؤويه إلى فراشه حتى الصباح.

****

لم تكد نجمة السحر تتسور السماء حتى استيقظ الضيف وذهب إلى شجرة المسجد وأذن أذانا جهوريا رددته الوهاد والتلال.

وما كاد يصلي الصبح حتى رمى المتاع على جمله وشده على عجل، وذهب في طريقه إلى حيث بيادر الذرة، دون أن يودع الأمير وهو يسأل الله أن لاتسقط عليه كسف من السماء أوتخسف به أرض المحلة أو يحل به غضب من الله.

ارتفعت الشمس فوصل الضيف إلى غابة قتاد تدلت صمغا عظيما، فأناخ الجمل وأخذ يجني الصمغ ويملأ منه مزودي الحبوب.

كان يحدث نفسه:

- لا جعل الله هذا الرزق استدراجا. على كل حال "الحاضرة بصيرة"، لقد أعطاني الله ما أقايضه بالذرة، فله الحمد والشكر.

****

بدأ الظرف الثاني يمتلئ صمغا، وفجاءة التفت الرجل فإذا أسد أبيض الذراع قد أقعى قرب الجمل والشرر الأصفر يتطاير من عينيه.

أما ابنه فقد تسمر على جذع القتادة التي كان ينتزع منها الصمغ وهو يهذي دون أن يحس بأشواكها المخلبية.

وأما الرجل فإن إحدى يديه تيبست في داخل الظرف المفتوح والأخرى تصلبت على فمه.

وأما الجمل فقد تدلت أذناه وجحظت عيناه وذرفتا دموعا غزيرة، وصار رغاؤه خافتا، واستبدت به رعشة الخوف.

****

انقضت على الثلاثة سنة بحساب النفوس الواجفة، وكأنهم تماثيل تجمد كل واحد منها على الحالة التي أدركه الفزع الأكبر فيها.

****

كأزيز الريح العاصفة في أغصان الشجر، ودوي الزمن في الصحراء الموحشة، مرت فرس رقطاء قرب التماثيل يعلوا صهوتها كالخيال، فانطلق الأسد في أثرها وكأنه لم يكن ولم تكن الفرس لسرعتهما.

بلغت الهواجس بالرجل أن أيقن أنه كان في حلم، سمعوا صوت طلق ناري، ولولا أن الأسد عاد إلى مربضه مقابل الجمل، والدم يقطر من مكان أذنه المقطوعة لما أدرك الرجل أنه في واقع.

استعاد الثلاثة تجمدهم بعد أن تحركوا قليلا.

أقبلت الفرس العاصفة كارة، ومرت سحابة جهام وذابت في البعد فذاب الأسد في أثرها.

سمع الرجل طلقا ناريا ثانيا، بعد أن تحرك و ربط المزود بوكائه، و حين استبطأ الأسد إذا به عاد إلى حيث كان، وقد قطعت أذناه والدماء تقطر منهما على وجهه ولبدته.

أقبلت الفرس الرقطاء عاصفة وريحا فاعترضها الأسد قبل أن تمر عليه فناور فارسها الذي تبدت ملامحه هذه المرة وذاب بين السماء والأرض والأسد يتعلق بذوائب فرسه العتيقة، وهو يصيح بهم كالصدى:

- لاتبرحوا مكانكم.

لم ينقض وقت طويل حتى سمعت التماثيل الطلقة الثالثة.

بعد وقت عادت الفرس وفارسها وقد علق رأس الأسد وذراعه على سرجه، وقال للرجل:

- طلب منك أبي أن تعود إليه. أنتم آمنون الآن. وانطلق على فرسه وخنجره المطعم الذي فاز به البارحة يقطر من دماء الأسد.

عاد الضيف إلى محلة الأمير ووجد الفتى الشجاع موثوقا إلى جذع شجرة، وأبوه يضربه ويعنفه قائلا:

- لم أهدرت رصاصتين؟ لقد فرطت فالأسد لاشك قضى على ضيوفي.

والمراهق يحلف أنهم سالمون.

فلما أقبل الضيف وابنه رفع الأمير السوط عن ولده وأمر بضرب الطبل ثلاثا، وأقبل الفنان مبدعا معزوفة جديدة للبطل.

لما استقرت خواطر الأمير التفت إلى الضيف قائلا، وهو يحلق قرن ولده بموسى، للبطولة التي حققها:

- أنا أم أنت؟

فقال الضيف مسلما:

- أنت.

م. أحظانا

 

 

***************

 

فصل حكايات الأسود والإنسان:

الأمير والأسد المكلب

قيل لكم في ماقيل لكم:

إن أميرا نبيلا من إمارة مغفرية تسمى الترارزه، كان شجاعا وقويا، وسخيا، فأنفق كل مالديه من مال على محاويج إمارته، ولما أصبح صفر كف عزله بعض أبناء عمومته، و لكي لا ينتقم منهم رشوا لصا معروفا يسرق جرة الغزال فسرق لهم سلاحه وفرسه مقابل عشر نوق حلوبة.

تلبس اللص في ليلة ظلماء بحشائش الثمام وزحف إلى خيمة الأمير، حتى تمكن من أخذ السلاح وزحف مبتعدا إلى حيث الجواد فاختطفه. وقد جرد اامتآمرون الأمير من سلاحه وجواده خوفا من فتكه بهم.

في الصباح أقبل مجلس الوجهاء وهم مسلحون، وقالوا لأميرهم:

- مادمت لاتستطيع أن تحمي سلاحك وجوادك فنحن لانستطيع أن نكل إليك حماية إمارتنا، ولك الخيار في أحد أمرين:

أن ترحل عنا إلى حيث لانسمع بك؛ أو نقتلك.

فاختار الأول.

****

بالليل جاءه صانع متخف كان يجود عليه وقال له:

- ليس لدي ما أنفعك به غير هذه السكين وفيها عيب وهي أنها بلا مقبض؛ وفيها فائدة وهي أنها من حديد الهند البارد؛ وقد بريتها لك حتى أصبحت أحد من الزمن الذي يفل الأعمار.

فشكره الأمير المخلوع على وفائه، وقال:

- "الذي يقطع هو الزند لا الهند."

ودس الحديدة في حزامه، وطوى خيمته على متاعها، وخرج على جملين هما كل مابقي بيده من مال؛أحدهما حمل عليه المتاع والزاد والثاني حمل عليه زوجته وبنته وابنه..

اتجه إلى تكانت لأنها أرض عافية وتسامح كما سمع، ولم يزل يرحل ويقيم نهاراته ولياليه حتى وصل إلى "تامورة النعاج" في أول نهاره، فرأى أشجار عضاه ظليلة، وحولها مرعى لجماله. فقرر أن ينزل، مع أنه سمع أن تلك الأرض غير آمنة لوجود أسود ضارية وجوارح أخرى فيها.

لكن شجاعة الأمير خامرته فحولت خوفه إلى حذر واستعداد.

أورى النار بيديه لسيدته من أجل طهي الغداء بعد أن قيد الجملين قريبا منه، ورفع إحدى ساقيه على ركبته وأسبل طرف عمامته على عينيه، وغفى غفوة الأرنب يسيرا، إحدى عينيه مغلقة والثانية مفتوحة؛ في انتظار نضج الطعام.

****

ماكادت تنقطع عنه أصوات الأطفال والطيور في أعلى الشجرة حتى أيقظته زوجته وهي تقول:

- قم، فجمالك في خطر.

- رفع العمامة عن عينيه فإذا بأسد عظيم الخلقة، كأنه أسدان، وهو يتجه نحو الجمال..

التقط الأمير حجرة وأخذ يقرعها بالسكين ويحول بين الأسد والجملين ليطرده.

لم يفتأ الأسد أن انطلق نحوه غاضبا فهرب عنه الأمير مبتعدا، فقز خلفه ثلاث قفزات وأدركه في الثالثة.

رسخ الأمير إحدى ركبتيه في الأرض وثنى الأخرى معتمدا على قدمه، فلما نزل الأسد من الهواء أشرع له الأمير السكين، فهوى عليها فطيرت غطاء رأسه ونصف دماغه.

تهالك الأسد وقد تبخرت روحه في لمح البصر، وتكوم أرضا.

أقبل عليه الأمير وحز رأسه وساعديه وحملها إلى الشجرة التي يقيل تحتها هو وأسرته المغتبطة بنجاته ونجاتها.

****

غسل الأمير دماء الأسد التي تطايرت عليه ولطخت سكينه التي لامقبض لها من ساقية في مجرى الوادي، وحث المرأة على تعجيل الغداء حتى لا يكون للأسد لبؤة تهاجمهم.

بعد حين أقبل رجل مشعر ضخم الجسم، مفتول العضلات، كأنه قد من الصخر المترامي على أطراف مسيلة وادي التامورة، وسلم بصوت جبلي أجش فظيع النبرة كأنه ينحته من صدره العريض ذي التقاسيم الشيطانية.

- السلام عليكم.

فرد الأمير بصوت عال كأنه ينهره:

- وعليكم السلام.

- الخير والسلامة. أنا رجل من أهل هذه الأرض، أبحث عن بقرات ضاعت من حينا، ولما رأيت أمة من المسلمين عرجت عليها لأسألها: هل رأتهم في طريقها؟

- لا، لم نرها. أنت من أهل الأرض؟ لو لم تقلها لنا لقلنا إنك من أهل السماء أو الخلاء

كان الرجل العملاق ذو الوجه الكريه، يقطع خطوة نحو الأسرة المتجمعة كلما نطق كلمة ثم سأل ملتفتا إلى القدر:

- هل لديكم طعام؟ كلامكم المتخابث يدل على أنكم لستم من هذه الرحبة. لعلم من أقصى الجنوب الغربي وتضاحك تضاحكا متكلفا.

- نعم لدينا، ولكن لاتقترب. آو إلى تلك الشجرة وستجد ما قسم لك الله منه.

- كان الطفلان يعوذان بأمهما ويبكيان فزعا من ملامح الرجل، وأمهما تهدئهما:

- لم تخافا من الأسد هذا الخوف، فكيف تخافان من رجل؟

قال لها طفلها الصغير وهو يشير إليه بسبابته البريئة:

- أمي هذا "جوجوه" وليس رجلا.

فتضاحك الرجل كأنه يحشرج ثانية:

- معذور، فأنا لم أحلق شعري منذ وقت.

كانت نبرته أفظع من مرآه فزاد فزع الأطفال وبكاؤهم. حتى طلب الأمير من الرجل أن يسكت عنهم حتى لا يفطر قلوبهم.. ولم يصرف نظره عنه لحظة واحدة.

لكن الرجل لم يسكت وإن اجتهد في تلطيف و تقطير كلامه العكر:

- من قتل هذا الأسد الجبار.؟

- ومن سيقتله؟ أنت الذي لم تكن هنا، أم المرأة والأطفال؟

- لاشك أنك بطل. أضحكتني. قطعا أنت من أرض القبله.

أخذ الأمير إناء به طعام وحمله إلى الرجل.

- لن آكل من طعامك حتى تريني بم قتلت الأسد.

- قتلته بهذه الحُديدة.

- أراها عن قرب.

مد الأمير السكين إلى الرجل الحرك، فأمسكها وطار كأنه لايزن شعرة، ووضع السكين على عنق الأمير.

وزمجر:

- ألا تعلم أنك يتمتنا، فقتلت أسدنا المكلب الذي نقطع به الطريق؟

قال الأمير بهدوء:

- هل تتفضل علي بتلبية طلب وحيد قبل أن تقتلني، إن كنت رجلا نبيلا؟

- ومن غيري نبيل؟ ماهو طلبك؟

- أن تقطع عني هذه اليد التي سلمتك بها سلاحي، فلا أريد غن تذهب معي إلى ربي..

- طلب مقبول و و جيه. أسند يدك على جذع هذه الشجرة لأطيرها لك.

وضع الأمير يمناه على الجذع فهوى عليها العملاق بالسكين.

وفي أقل مما يلتفت فيه قط متعجل، أمسك الأمير رسغ الرجل العملاق بقبضته وهز ذراعه حتى سقطت منه السكين، ولوى ذراعه خلف ظهره وصرعه على وجهه بقوة هائلة حتى فقد وعيه، ولوى ذراعه الثانية وطلب من المرأة أن تعطيه مشد رحله، فأحكم وثاق الرجل وربطه في جذع الشجرة.

وبدأ الأمير وأسرته يتغدون على مهل وهم يتحدثون مغتبطين اغتباط الأمن بعد الخوف.

أفاق العملاق وهو لايزال يترنح من قوة الصرعة، فدنى منه الأمير وصفعه صفعة أفقدته وعيه ثانية.

لما استعاد وعيه قال له الأمير:

- إذا اعترفت لي بكل شيء من جرائمكم فربما أفكر في تحريرك. ولا تنس: ربما.

- نحن تسعة رهط. وأنا قائدهم، وقد حصلت على شبل فربيته وكلبته، ولما بلغ أشده جمعت له رجالا أرضى عن قساوة قلوبهم، وأقمنا هناك في تلك الكدية الصغيرة التي ترى، وبها كهفان اتخذنا أحدهما مأوى نختبئ فيه ونأكل، والثاني مخزنا لمنهوباتنا؛ وكنا ننتظر حتى تمر القوافل فنطلق عليها الأسد فيقتل منها من لم ينج بنفسه، ويأكل من رجالها ودوابها ما طاب له..

ونأخذ نحن المقتنيات ونخزنها في الكهف الكبير بذهبها وفضتها وزروعها وقماشها وريش نعامها، وكل ما يخطر على البال وما لا يخطر عليه من أطايب الدنيا.

- وأين أفراد عصابتك؟

- هم نائمون الآن وأنا من يداوم. ولأن بعضهم لايثق في بعض فهم لاينامون في مكان واحد، وأنا الوحيد الذي يثقون فيه. ذلك هو سر القيادة.

- جيد. قف بي على كل واحد منهم حيث هو. هيا، تقدم أيها الوغد العملاق.

ولاتنس "ربما".

****

أمسك الأمير بالحبل القوي وسار خلف اللص، وهو يأمره أن لا ينظر خلفه وإلا قطع رأسه كما قطع رأس أسده.

****

صار اللص كلما وقف على لص نائم هوى الأمير على عنقه بالسكين فطير رأسه، حتى إذا قضى على الثمانية أمر زعيمهم أن يريه خزينهم فلما أراه إياه، قال اللص للأمير:

- والآن هل ستحررني؟

- ألم أقل لك: لاتنس "ربما"؟ أحررك لتشكل من جديد عصابة أشرار وحرابة تقطع الطريق، وتفسد في الأرض، بتكليب السباع؟!!

وطير رأسه بالسكين وترك الدم يشخب من شرايينه كأنه شلال أحمر، وفك مشد رحله من ساعدية. وعاد إلى أسرته. وغسل دماء اللصوص عن سكينه بالظاء والتراب، وهو يقول لزوجته: دماء هؤلاء أقذر من دماء الأسد الأعجم.

****

جلب الأمير خيمته وعياله على جمليه إلى حيث كمين اللصوص الصرعى، وبنى الخيمة على جانب الطريق. تسامع الناس بمقتل أسد القوافل الضاري فصاروا يمرون عبر طريقهم المألوفة.

طلب الأمير من كل المارين أن يصفوا له مافقدوه خلال السنوات الماضية، فإن وصفوه له قسمه مناصفة بينه وبينهم.

اشترى الأمير من الإبل والبقر والغنم والخيل مالا يرد أوله لكثرته، واشترى غالي المتاع و أحمالا من السلاح؛ حتى إذا حال عليه الحول رحل عائدا إلى أهله، وقد سبقته أخباره لما دخل أرض الإمارة، فأقبل عليه أكابر إمارته وعامتها، وأسلموا إليه أمرهم.

ولما جاءته الجماعة التي عزلته ظعتذر مبايعة، قال لهم:

- لاتثريب عليكم فأنتم السبب في كل هذا الخير.

دعا الأمير الصانع الوفي وأخرج الحديدة من غمد وسأله:

أعرفت هذه؟ لم تفارقني ونفعتني كثيرا.

ضحكا ووهب الأمير إبلا وغنما وبقرا وذهبا وفضة.. للصانع. وتعهد له ألا يفتقر وهو حي.

***

وأفردت أنا نعلي، وعدت سالما إلى أهلي أحدث بحكاية الأمير والأسد المكلب، دائرا عن دائر.

 

 

 

*****

صديق الكلب

قال لكم من قال لكم والبال لنا والبال لكم:

إن الكلب أحس يوما بعدم الأمان من المخاطر التي تحف به وهو يعيش في الغابة، أيام كان متوحشا فقرر أن يبحث عن أقوى صديق، لايخشى من أي كان ليتحالف معه.

****

ذهب الكلب في رحلته إلى الضبع المجاور، وقال له:

- أنا أشعر بعدم الأمان في الغابة وأبحث عن حليف قوي يحميني. وسأقف عند أمره ونهيه.

فأجابه الضبع:

- أنا قوي، وأستطيع أن أحميك، وأحتاج لمن يخدمني باجتهاد.

- إذن اتفقنا.

قال الكلب.

ظل الكلب يخدم الضبع طوال نهاره، حتى غربت الشمس وحل الظلام، فأخذ الكلب ينبح. صاح به الضبع:

- اسكت، قطع الله لسانك.

قال له الكلب مستغربا:

- لماذا أسكت؟ ألست في كنف من يحميني من كل خطر؟ هل تخاف من شيء؟

- أنا أخاف النمر.

فقال الكلب في نفسه:

- أه.. أنا احتمي بمن يخاف النمر؟!

****

في الصباح خرج الكلب قاصدا النمر، فلما جاءه، سأله النمر:

- ما حاجتك أيها الكلب؟

- أنا أبحث عن حليف قوي يحميني وأخدمه، وقد تحالفت مع الضبع، ولكنني اكتشفت أنه يخافك، فعرفت أنك أقوى منه.

- صحيح. تحالف معي أنا وسأحميك وتخدمني.

- اتفقنا. لك ذلك.

ظل الكلب يلبي طلبات النمر، حتى إذا أقبل الليل نبح الكلب نباحه المعتاد، فنهره النمر:

- اسكت، ثكلتك أمك.

- ومم تخاف أيها النمر؟!

- أخاف الأسد.

قال الكلب محدثا نفسه:

عجبا من النمر، يعدني أن يحميني وهو لا يستطيع أن يحمي نفسه؟!

****

بكر الكلب نحو عرين الأسد، ولما جاءه سأله الأسد:

- ماذا تريد أيها الكلب؟

- أبحث عن حليف يحميني وأخدمه كما يشاء.

قال له الأسد:

-أنا أحميك من كل الحيوانات، لكن مشاغلي كثيرة، لأنني ملك الغابة

فقال له الكلب:

ولو.. فأنا خدوم..

ظل الكلب يخدم الأسد وعرقه حزام، ولم يدخل رأسه ظلا، في تلبية أوامر الأسد، حتى إذا جن الظلام واختلط، عاودت الكلب غريزة النباح، فانتهره الأسد:

- اسكت عنا أيها المهذار.

- وهل تخاف من شيء ياملك الغابة؟

- أي والله، أخافه.

- وماهو؟

أخاف الفيل.

****

غلس الكلب، ولم يبطئ حتى رأى الفيل بحجمه الهائل فاطمأنت نفسه أنه وجد الأمن والحماية.

سأله الفيل:

- وماذا يريد الكلب باكرا؟

- أخبرني الأسد أنه لايخشى من حيوانات الغابة غيرك، فجئتك لأبرم معك تحالفا موثوقا.. بأن تحميني مقابل أن أخدمك بكل إخلاص.

- عقد منصف، وأنا أقبله.

ظل الكلب يومه يخدم الفيل حتى إذا لبست الأرض جلباب الظلام، نبح الكلب نباحا عاليا، فصاح به الفيل صيحة عظيمة:

- اسكت أسكتك الله إلى الأبد.

فسأله الكلب متعجبا:

- وهل تخاف شيئا أيها الفيل العظيم؟!!

- نعم، أخشى الإنسان.

- وكيف تخافه وهو كائن ضعيف لايقوى على المشي على أربع وليس لديه مخلب واحد، ولاناب معقوفة لديه، يدافع بها عن نفسه؟!!

- أخاف من عقله وكيده أيها المغفل الصغير.

****

خرج الكلب قاصدا الإنسان عند تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وما طلعت الشمس حتى جاء إلى الإنسان، فقال له دون أن يسأله:

- أيها الإنسان، لقد صحبت الضبع قبلك فأخبرني أنه يخاف النمر؛ وصحبت النمر فقال إنه يخاف الأسد؛ وصحبت الأسد فأخبرني أنه يخاف الفيل، وصحبت الفيل فقال إنه يخاف الإنسان؛ وها أنا جئتك لتحميني وأخدمك.

فأجابه الإنسان:

- عرض معقول. اتفقنا.

****

في المساء عندما جن الليل نبح الكلب، فحرضه الإنسان وبيده سلاح، قائلا: وشله، وشله.

فاغتبط الكلب، وقال:

- أنت صاحبي.

وانطلق نحو خيال لاح له في جوف الليل .

ومن يومها لم تنفك صداقة الكلب والإنسان.

م. أحظانا

 

******

 

حكايات الأسود:

الأسد والكلاب المتوحشة

"قال لكم ما قال لكم، والبال لنا والبال لكم والبال لوليدات المسلمين":

إن صيادا كان يكمن في غيضة من غياض هضبة تكانت، وإذا بأيل أرقط يتخير في العشب على سجادة خضراء في فسحة تحيط بها الأشجار، فأخذ يختلها حتى يبلغ منه مدى رمي بندقية "الفردي" التي يصطاد بها.

بينما كان يقترب رأى أغصانا تحركت في الوجه المقابل له من صف الأشجار فانتظر حتى لا يفقد رصاصته التي يجب أن يحمي بها نفسه المودعة لديه، من المجهول المتربص في الجانب الآخر، أولا.

لم تنقض لحظات حتى رأى أغصان الأشجار تتحرك عن يمينه. وانفرجت الأغصان في الأولى والثانية عن أسد غضنفر بملامح باكية متوحشة وكلبين متوحشين أسودي الفمين. كان الأسد يستجمع للانقضاض على الأيل، وكان الكلبان يتساحبان نحوها، فلما تراآى الطرفان صرفا الأنظار عن الغزالة.

برز الأسد مقعيا وانطلق الكلبان المتوحشان سهمين نافذين نحوه، فلما اقترب منه أحدهما كسر عنقه بعضة هائلة ورماه في السماء فتهاوى على شجرة، وعوى مرة واحدة، ومات.

التحم الكلب الثاني مع الأسد الضاري وهو يطلق هريرا مرعبا، ورمى الكلب الثاني حيث رمى أخاه، فعوى وهوى ميتا على الشجرة معلقا إلى جانب صاحبه.

****

لم يبرح الأسد مكانه فأحاط به أربعون كلبا متوحشا إحاطة المعصم بالسوار، كأنه خرجو من العدم.

نشبت معركة حامية، وهاجمت الكلاب المتوحشة الأسد في لحظة واحدة بموجة من الأنياب العصل، وتناهشته من كل جانب. وكلما مرت لحظات رمى الأسد كلبا هالكا في السماء وعواؤه يشق الأسماع.

انقضت ساعة طويلة والصياد لا يعرف كيف يتصرف؟ هل يهرب ناجيا بنفسه أم ينتظر أن تنتهي المعركة الحامية؟ وكان يخاف من الكلاب المتوحشة أكثر من الأسد لأنها لن تفلته إن نجا منها واحد.

اتكل على الله وأعد رصاصة الروح إن هاجمه الناجي من المقتلة، وكمن حيث هو.

****

بعد ساعة طويلة هدأ الهرير والعويل والعواء وإذا بجثث كل الكلاب مترامية في جميع الاتحاهات.

أما الأسد فكان مضرجا بالدماء وقد التهمت الكلاب المتوحشة صفيحتي ظهره ولحم قائمتيه الخلفيتين، وسحبت عينيه من محجريهما فتدلتا إلى أسفل. وكان يتنفس بصعوبة ولا يستطيع أن يبرح مكانه.

****

انطلق الصياد هائما على وجهه ونفسه تحدثه بإلحاح عن نجاة الغزالة منه ومن الأسد ومن أربعين كلبا متوحشا كانوا يحاصرونها، فهلكوا ولم يبق من المتربصين المتسلطين إلا هو. فلما جاء إلى أهله مرعوبا رمى بندقية صيده وترك الاصطياد إلى الأبد.

****

"وربطت أنا نعلي ورجعت عنهم سالما، أحدث بالحكاية دائرا عن دائر."

م. أحظانا