ذكرني الفيس بوك اليوم بمقال أدبي نشره موقع المذرذرة اليوم في 2013، وقد حاز على إعجاب المتلقين رغم أنه من بواكير تجربة صاحبكم في مجال الكتابة الأدبية، وما زلت أتذكر شهادات تحفيزية من شخصيات أكن لها الكثير من الاحترام والتقدير ، منها على سبيل المثال ما قاله لي الشيخ بن احمادَ رحمه الله في اتصال هاتفي "هذا المقال ماهو عادي ومزالو لاهي يتلبوه ياسر من الكتابات الزينة".
ورغم أني لا أحب إعادة نشر ما في الحساب وأعتبر نوعا من "اجَّرْ" إلا أنني سأتقاسم معكم اليوم هذا المقال لتصححوه وتنقدوه من جهة، ولتترحموا من جهة أخرى على روح العالم الورع بد بن الشاه بن محمد سيديا بن الشيخ أحمد الفالل رحمه الله.
******
يقول الباحثون إن الرثاء كان فى أصله تعويذات تقال للميت على قبره حتى يطمئن فى لحده، ثم تطور وتحول عندهم إلى بكاء ونواح وندب إضافة إلى تأبين الميت والإشادة بخصاله.
ويعرف بعضهم الرثاء بأنه بكاء الميت والتحسر والتفجع عليه وذكر محاسنه والتغني بأمجاده وخصاله الحميدة، وهناك كلمتان كثيرا ما تستعملان في معنى الرثاء هما الندب و التأبين، لكننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن التأبين هو الثناء على الشخص بعد موته، والندب بكاء الميت والنواح عليه، والرثاء أعم منهما.
ويحتفظ لنا ديوان العرب بتراث ضخم من المراثي تميزت كلها باللوعة وحرارة العاطفة لاسيما منها تلك التي تقوم على رابطة الرحم والقربى التي تجمع بين الراثي والمرثي.
ويتفق أهل العلم بالشعر على أن مرثية أشجع بن عمرو السلمي لعمر بن سعيد حفيد الفاتح قتيبة بن مسلم تعتبر الأحسن فى هذا المجال حيث يقول:
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق
ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه
على الناس حتى غيبته الصفائح
وأصبح في لحد من الأرض ضيق
وكانت به حيا تضيق الصحاصح
وما أنا من رزء وإن جل جازع
ولا بسرور بعد موتك فارح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها
لقد حسنت من قبل فيك المدائح
كما يتفق أهل العلم بالشعر في إيكيد أن مرثية العلامة والمؤرخ المختار بن حامد للسيدين محمد صالح والشاه ابني محمد سيديا الأبهميان، هي إحدى عيون المراثي فى هذا القطر ومنها:
ستبكيك يا هذا الحبيب المبارح
وأنت إلى بير السعادة رائح
عشائركان فيها فعلك صالحا
كما اسمك فيها يا محمد صالح
وللشاه في معنى المعالي وجاهة
يخف لديها الراجحون الجحاجح
وما كان في الصنوين مسلك علة
ولا فيهمُ فيما علمنا قوادح
ودائما تكون وفاة أحد الأعيان مناسبة لصدور ديوان يتكامل فيه الفصيح والشعبي ويتبارى الشعراء في اشتقاق الصور الأكثر تعبيرا عن حجم الخسارة وعد خصال الفقيد والدعاء له ولخلفه.
وقد فقدت موريتانيا منذ أسابيع قامة علمية باسقة قل نظيرها بوفاة العلامة بدِّ بن الشاه بن محمد سيديا بن الشيخ أحمد الفاضل الأبهمي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته، عن عمر ناهز الستين عاما كانت ملأى بالدراسات في الأمهات والمتمات، وحسن تسيير الإدارات، وكثرة الإنجازات والمؤلفات والعبادات والحسنات ...
وقد انتدب لرثائه مجموعة من شعراء عشيره من مختلف المشارب، منهم العلماء الشعراء كعبد الرحيم بن أحمد سالم ومحمد لزعر بن حامد، والأدباء الشعراء كمحمد فال بن محمد محمود ومحمد صالح بن امد والأدباء الشباب من خلال الأصدقاء سيد محمد الملقب إيدَ بن بد بن ححام، وعبدالفتاح بن محمد سالم بن الشيخ أحمد الفالل، والدكتور محمد فال بن امين بن الداهى وغيرهم.
وقد وجد هؤلاء الشعراء كما هائلا من الخصال الحميدة، وكيفا طائلا من الفعال الحقيقة التي قل أن نسمع بمتصف بها في عصرنا- اللهم إلا إذا كان فى الكتب -، وقد اتحدوا في عدها والتنويه بها، لكنهم اختلفوا في كيفية التعبير عنها وهو ما وجدته مناسبة لكتابة هذه المقالة من أجل معرفة طباع الرجل من خلال مراثيه.
وقد توصلت شخصيا بثمان من مراثي الفقيد العشرة، ثلاث منها من بحر الخفيف وأربع فى بحري الكامل الوافر وطويلية واحدة.
وقد وفق الشعراء في اختيار هذه الأبحر لأن حسن المرثية يكمن دائما فى تناغم موسيقى الكلمات، فكلما كانت إيقاعات الكلمات مديدة وطول النفس طويلا تمكن الشاعر من التعبير عن مشاعره بصدق وعفوية.
ومن ناحية أخرى فأسماء البحور المختارة هي جزء من صفات الفقيد فقد كان طويل النجاد رفيع العماد ، كامل الدين والمروءة، وافر الأخلاق والإنفاق، خفيف الظهر من حقوق الخلق.
كما عمد هؤلاء الشعراء أيضا إلى استخدام الصور البلاغية القائمة على التشبيه والاستعارة والكناية، وأغلب تلك الصورمستمدة من محيطها ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالحدث الجلل الذي من أجله كتبت تلك النصوص.
نفتتح هذه المراثي بمطلع قصيدة أديب الفتيان المهندس عبد الرحيم بن أحمد سالم حيث تفاعلت الأحاسيس النفسية مع المحسنات اللفظية يضاف إلى ذلك حسن انتقاء العبارات والتوفيق في اختيار الروي كعادته وكيف لا وهو جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، حيث يقول:
أسى في القلب ضاق به حشايا
يُقِضُّ بِيَ الأسرة والحشايا
خبا منه لدى الظلماء ضوئي
وصم له غداتئذ صدايا
لموت المرتضى بد المفدى
عديم المثل معطار السجايا
وقد أجاد فى قوله:
وما تغني قوارير الأطبا
تغالبها مقادير المنايا
علمنا أنه المقدور حـقا
وأن النفس من بعض العرايا
ثم يضع الشاعر المهندس المعماري المخطط السردي لخصال الفقيد لمن سيرثي بعده فيقول:
مقارنة النصوص لها تصدى
فلخصها وقربها سبايا
وأحرز من علوم الشرع حظا
تسار لمثله فينا المطايا
فأصبح فيه أغزرنا رصيدا
وأعرف بالمغازي والسرايا
وأعلى في مجال الفــقه قدرا
وأشمخ من جبال الهملايا
ولا يخفى كيف انسابت الهملايا فصارت كرضوى وسلمى ويذبل وسلع ...
أما العالم الشاعر محمد لزعر بن حامد فقد كان يسر له الفقيد ما لا يسر لغيره وقد تجلى ذلك في قوله:
ورع قل مثله اليوم في النا
سِ وزهد ما مثله أي زهد
حافظ العهد صادق الوعد دوما
مخلص الود لم يشبه بحقد
حافظ للكتاب يتلوه آنا
ء الليالى بقوة وبجد
فلما فيه من حروف مقيم
ولما فيه من حقـوق مؤدي
ضبط الفقه والعقيدة والنحــ
و، وعلم اللغى برسم وحد
وارتقى في الأنساب والسيرة الغرْ
را وعلم الحديث أرفع سد
وله في الأصول باع طويل
وله في قواعد الفقه أيدي
ولننصت إلى أديب الأستاذة وشاعر الرياضيين محمد فال بن محمد محمود وهو يقدم درسا من الخصال النادرة:
مضى بدِّ شهما سيدا شأو علمه
بعيد مداه نوره ليس يحجب
تناهبه التحقيق والفضل والتقى
وصدق قويم نهجه ليس يغلب
وفي الله لم تأخذه لومة لائم
صبور وقور أريحي مهـذب
وديدنه نسك وصوم وعـفة
فما كان إلا ناسكا يتقرب
ويعجبه عيش الخمول وسمته
وهيهات يخفى المسك والعرف طيب
ويتتبع المهندس الأديب محمد صالح بن امد تسلسل الخصال الحميدة من من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق فيقول:
كنت رمزا من ضمن جيل تولى
ذهبي قد فاق نبلا ومجدا
إذ تواصوا بالحق والصبر والإخـ
لاص والعلم والمروءات عهدا
وعليها عضضت ما صدك السعـ
دان عن نهجها و لا صد صدا
ملتقى رافدي علوم وتقوى
وصلاح وقد أمداك مدا
وإليها ضممت فهما وتحصيـ
لا ودرسا موفقين وجدا
وهذا الأديب الأريب سيد محمد الملقب إيد بن بدَّ يتواصل مع مكتبة الفقيد فتبث إليه ما عانته بعد غيابه فيقول:
شمس الدجى غابت فكان مغيبها
فيه لشمس الخيرين غياب
ندبتك أحزاب الكتاب وآيه
ومن المساجد يندب المحراب
كان الكتاب جليسك الأغلى أما
أغلى جليس فى الزمان كتاب
هذا خليل ميسر وموضح
هذا شهاب الدين والحطاب
وعلى نفس الطريق استعار له صديقنا الشاعر عبد الفتاح بن محمد سالم أسماء بعض الكتب فقال:
نفح طيب قد كان كان المربي
حلة سيرا وتفسير بدِّ
راعي المجد منشد الحال دأبا
من يكن فزده فذلك فزد
ويسن الدكتور محمد فال الحسن بن امين بن الداهي قانونا للناعي يفصل فيه كيفية النعي ونوع العبارات فيقول:
تريث أيها الناعي وهدِّ
فما أنا للنعاة بمستعد
تخير من عبارات التعازي
ولا تك بالعنيف المستبدِّ
وحدثني برفق عن فقيد
تميز بالهداية والتهدي
مآثره ترددها الثكالى
وأيتام لهن بكل ود
ويتساءل متسائل آخر عن كيفية العزاء فى هذا العلم ثم يتخلص بعد ذلك إلى الدعاء له قائلا:
كيف العزاء وقد مضى عنا العلم
هل بالدعا أم بالبكا مما ألم
لا للبكاء ولا هنا ناهي
عن منكر بل للدعا قلنا نعم
فالله يرحم بد وليدخله في
جنات عدن أكلها لا ينصرم
وليفترش سررا بها موضونة
فيها يكون مع الكرام من الأمم
فلكم جنى من سيبه من معتف
ولكم أفاد بلادنا مما علم
ورع صدوق حافظ ومؤلف
كانت خواتم عمره عند الحرم.