ذهبت "إسرائيل" بعيداً في إجرامها؛ الذي تدحرج خارج حدود المنطق والمعقول والمألوف في سلوك الدول وممارستها؛ وإلى حدّ غير مسبوق، منذ بدء الحرب المتواصلة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ ولم تتوقف حدود التوحش الصهيوني والإفساد في الأرض عند شعب بعينه، وتجاوزت الجغرافيا الفلسطينية والعربية حتى نالت من الشعوب الأفريقية، وتفننت في ذلك وتنقلت من الابتزاز والاضطهاد والعنصرية إلى الاستغلال في أبشع أشكاله.
وضعت الأقدار السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بعض دول القارة الأفريقية آلاف اللاجئين في طريق العنصرية الإسرائيلية فداستهم واستنزفتهم وأفرغت عليهم فائض التوحش والاضطهاد، والشواهد والشهادات على ذلك كبيرة وكثيرة.
تفتقت العنصرية الصهيونية الجديدة عن شكل جديد من أشكال الاضطهاد الموجّه والمخصص للاجئين الأفارقة في "إسرائيل"، فاستحدثت معادلة القتال مقابل الإقامة، وحوّلتهم من لاجئين إلى مُجنّدين ومرتزقة. وقد كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية في 15 أيلول/ سبتمبر 2024؛ أن "إسرائيل" تجنّد طالبي اللجوء الأفارقة للقتال في قطاع غزة، مقابل وعود بالحصول على إقامة.
وقالت الصحيفة: "تستخدم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية طالبي اللجوء من أفريقيا في المجهود الحربي في قطاع غزة، وتخاطر بحياتهم، وفي المقابل، تقدم لهم المساعدة في الحصول على وضع مقيم دائم في إسرائيل (أقل من الجنسية)".
تتم عملية تجنيد اللاجئين الأفارقة بواسطة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وبطريقة منظمة مع بعض المشورة الأمنية اللازمة، لكنها تغفل الجانب القيمي المتعلق باستغلال حاجة هؤلاء اللاجئين، ولم تمنح أي وضع قانوني لطالبي اللجوء، رغم مشاركتهم في العمليات العسكرية والحربية في قطاع غزة.
كشفت عملية تجنيد "إسرائيل" للاجئين الأفارقة عن جملة تبعات لا تتوقف حدودها عند البعد الإنساني واستغلال حاجة هؤلاء اللاجئين، لكنها تعكس هشاشة هذا الكيان الذي لم يعد بمقدوره القتال من دون اللجوء إلى المرتزقة، فلم يقتصر الأمر على تجنيد اللاجئين الأفارقة فقط، وإن كان لذلك خصوصية تتعلق بالاستغلال والاضطهاد والإجبار، لكنها استعانت بمرتزقة من الولايات المتحدة وفرنسا وأوكرانيا وإسبانيا وعدة دول أخرى. وقد أفضت الاستعانة بهؤلاء إلى ارتكاب جرائم وعمليات إبادة غير مسبوقة. وتظن "إسرائيل" أنها باستخدام المرتزقة قد تفلت من العقاب الجنائي الدولي.
استغلال اللاجئين الأفارقة وإجبارهم على التجنيد ليس عملاً فردياً أو اجتهاداً شخصياً؛ بل جريمة غير أخلاقية تنفذها وتشرف عليها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي تستغل حاجة اللاجئين إلى الإقامة والعيش بكرامة مقابل تجنيدهم؛ أو للدقة إشراكهم في ارتكاب جرائم الإبادة الحاصلة والمستمرة التي ينفذها "جيش" الاحتلال في قطاع غزة. ومن يرفض يُطرد ويهدد بالترحيل، ومن يقبل يحصل على تدريب لمدة أسبوعين فقط، ثم يرسل إلى القتال في غزة حتى وإن لم يسبق له استخدام السلاح في حياته. وإن كان قد فرّ من بلاده هرباً من الموت والحرب؛ لا تهتم "إسرائيل" فترسله إلى حرب الإبادة التي تشنها، من دون رادع أخلاقي أو إنساني أو قانوني.
ظاهرة المرتزقة في "جيش" الاحتلال ليست وليدة اللحظة الحالية التي تدور فيها الحرب، وليست حكراً على اللاجئين الأفارقة؛ فـ"إسرائيل" قامت واعتمدت في نشأتها على المرتزقة، وقد أعد العقيد في "جيش" الاحتلال أليعازر إسحاق في عام 2002 دراسة بعنوان " المرتزقة في الجيش الإسرائيلي"، يكشف فيها أن "إسرائيل" استعانت بالمرتزقة منذ عام 1948.
اعتماد "إسرائيل" على المرتزقة في نشأتها، لا يعني الاستمرار في العملية، كان يُفترض وفق منهج بن غوريون ومنطقه أن تذهب "إسرائيل" إلى الاعتماد على نفسها على قوتها الذاتية ومواردها البشرية، هذا لم يحدث ولن يحدث، وبعد أكثر من سبعة عقود تكشفت حقيقة هذا الكيان وهشاشته.