من دون ريب أن فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني داهية، يملك من المؤهلات والخبرة ما يمكنه من إدارة المنطقة كلها، أحرى بلد قليل السكان أخذ موقعه الإقليمي يشكل "منجما" إستراتيجيا في ظل تحول عالمي نحو صراع أقطاب بعد عقود من هيمنة "قطب وحيد القرن الأمريكي".
إن ولد الغزواني مدعوم من الشرق والغرب ومن رأس المال العربي، وداخليا يحظى الرجل بأغلبية مريحة ورصيد انتخابي كبير ومؤثر يتقدمه إجماع المجتمعات الأهلية، ورجال أعمالها، وأغلبية حركاتها السياسة والإيديولوجية، ولم يسبق لرئيس في البلاد أن حاز من إجماع النخبة ما حصل عليه ولد الغزواني في ظرف وجيز.
لم تكن إعادة انتخاب الغزواني لمأمورية ثانية غير مسألة ميقات انتخابي دستوري، حتى إن كل الأهليات الاجتماعية التقليدية تكفلت بإنجاح الرجل بأغلبية مريحة في مقاطعاتها.
وللرجل أحزمة أمان راسخة على رأسها أنه ابن المؤسسة العسكرية والأمنية والمشرف على إعادة تشكيلها وتأسيسها وتدريبها وتسليحها وتحسين ظروفها حتى أصبحت من بين الأفضل في المنطقة، بشهادة كبريات جيوش العالم.
كما أن للرجل ولاء المؤسسة الصوفية التي تعتبره أحد أبنائها الأصلاء. والصوفية أكبر قوة منتشرة في مجتمعات المنطقة.
وبالموازاة مع ذلك، فإن رجال الأعمال وقفوا مع الرجل الذي لم يسجل نظامه استهداف أي رجل أعمال.
ومن دون شك، كانت موريتانيا التي رفض شعبها "الدولة" ألف عام، جرد "فضاء ريفي" عند العام 2019 حين وصل الغزواني للسلطة مرشحا مستقلا.
لكن الغزواني، ورغم جائحة كورونا، وأفخاخ النظام السابق، تمكن من مضاعفة ميزانية البلاد، وإطلاق عشرات المشاريع في كل القطاعات، وعمل بشكل مركز على التدخل الاجتماعي وملف الفئات الهشة، حيث خصص لها 3 وزارات (مفوضية الأمن الغذائي، تآزر، مفوضية حقوق الإنسان)، وزعت - نقديا على الفقراء في خمس سنوات- ما لم توزعه الدولة على مدى ستين عاما منذ تأسيسها.
وانتهج الغزواني منهجا فريدا في إحياء الثروة الجوهرية للإنسان الموريتاني، فعرف أن الرجل منظومة أخلاقية عالية وصارت الدولة تعزي الأفراد والأسر التي تحل بها الفاجعة.
و كما قلنا، لم تكن إعادة انتخاب الغزواني إلا مسألة توقيت انتخابي دستوري، وهكذا تقدم الرجل إلى الانتخبات بعد أن زكى منافسيه وأثنى عليهم وطالب الناس باحترامهم وتقديرهم، كما تعهد بالاعتراف بأي نتيجة تفرجها صناديق الاقتراع.
لم تكن الدولة العميقة بحاجة هذه المرة لتزوير بطاقة تصويت واحدة.
ولم يتمكن أي من المرشحين ولا ممثليهم ولا الناخبين المتنافسين من تسجيل حالة اختراق واحدة في التصويت أو تناقض نتيجة واحدة حتى في خطأ حسابي بشري رغم انتشار آلاف صناديق الاقتراع على امتداد التراب الوطني.
وسارت الحملة الانتخابية بشكل طبيعي فلم يعكرها حادث واحد ولو عرضي، لله الحمد.
غير أن الموريتانيين تفاجأوا بموقفين للمرشح المحبوب الرئيس الغزواني.
الأول- إعلانه أنه سيقوم بتسوية ملف الإرث الإنساني.
والسؤال المطروح عن أي ملف نتحدث؟ ومتى تتم تسوية هذا الملف الذي تعاد تسويته بشكل متكرر.. إذ لعدة مرات تم تجنيس عشرات الآلاف على فترات الأنظمة السابقة تحت شعار عودة المهجرين، وتم التعويض لهم ومنح الأراضي، ودفع الديات وتم الاعتذار رسميا... فيما لم تمنح الدولة شيئا لضحاياها من الأغلبية منذ محارق أحياء البدو في حرب الصحراء وإلى من قتلوا تحت التعذيب في المفوضيات وفي السجون وتسريح مئات الضباط والجنود الذين قاتلوا من أجل البلد ليتحولوا إلى عدم مرير بقطع الأرزاق والمعنويات!
مع من يسوى هذا الملف؟ مع دول الجوار التي تقوم بتخليقه وتتبناه؟ أم مع الصهيونية التي تحركه وتخطط له؟ أم مع جماعات المتطرفين العنصريين الذي يتطاولون علنا على لغة القرآن في بلد المنارة والرباط!
إن هذا الملف لن تتم تسويته مطلقا؛ لأنه تحول إلى مصدر دخل وثروة مؤمنة لثلة من المجنسين الذين يعتاشون من إثارة الفتنة بين أعراقنا وشرائحنا.
الموقف الثاني المفاجئ، جاء بعد إعلان نتائج الانتخابات، إذ أعلن المرشح الرئيس أنه يمد يده للجميع.
وكانت قراءة هذا التصريح خاطئة من طرف أولئك الذين طلبوا الغوغاء بالنزول للشارع، فبدأوا الاعتداء على المواطنين الأبرياء وممتلكاتهم وترويعهم والتصريح أمامهم بالعبارات النابية التي تجرمها القوانين الوطنية ومواثيق حقوق الإنسان.
وهكذا قابلوا اليد الممدودة بعرض "الحوار لتسوية أزمة" هم من سعوا لإشعالها.
نعم. إن الدولة قوية بجيشها وقوات أمنها وبمجتمعها الرافض في أغلبيته للعنف والحرابة وسفك الدماء.
إن الغوغاء تخرب الدول في لحظات. ولا توجد ملائكية في دول الجوار التي تفيض مشاكل إن لم نقل تغلي حقدا.
هذه اليد الممدودة، سيدي الرئيس، يجب أن لا يكون فيها غير العصا، حتى يكون الرابضون في غرف توليد المشاكل على يقين أنهم لن يكافئوا على تسببهم بإراقة الدماء وتحطيم الممتلكات وإثارة القلاقل والفتن.
وإلا.. فعلينا أن نتوقع أن يتحول كل سياسي فاشل وحاقد إلى مسعر حرائق يتقاضى "حسب الحوار" وعلى الابتزاز.
مأمورية مباركة إن شاء الله
المحرر