إعلانات

أبو العباس أبرهام.. لا لا أريد

خميس, 23/05/2024 - 21:54

أنا لا أوثّق صفحتي لعدّة أسباب: أولاً، لا أريد، على الأقل حالياً، أن أغادر الطابِع غير الرسمي والعفوي لصفحتي. أودّ أن أجمَع "كِلْوَة وفِرسِنْ"، أن أمرَح وأتفلسَف وأسخَر وأجذل وأن أكون على مزاجي. أريد أن أكون أرنباً، لا سُلحفاة، حتّى وإن خسرت السباق. ثانياً، لا توجد صفحاتٌ أخرى تحاكي صفحتي لأتمايز عنها. ثالثاً، أنا لا أعتبِر نفسي علَماً، أحرى أن أكون نجماً. رابِعاً، لا أروم علاقاتٍ عامّة على الفضاء الافتراضي. خامساً، أظنّها صنمية استهلاكية وبهرجية غير طائلة (طبعاً أنا لا أنكُر أنّ ثمّة من يحتاج وظيفياً وسياسياً ترقين صفحته). سادساً، لا أريد أن أربّح شركات دنِسة وفاسِدة ووالِغة في الدمّ والتفقير وعمالة الأطفال واستغلال البشر.

ولا أودّ مقارنة نفسي بغيري، ولا حتّى الغمز في الصفحات الزرقاء، إذ لغيري أسبابه الأوجه والأنسَب له. ولكنّني أوَدّ ان أتساءل هنا: لما يُوثّق كثيرٌ من أبناء البلد صفحاتهم وهم في نفس الوقت لا يُقدّمون محتوى عمومياً أو مواقِف أو رؤية وإنّما يقومون فيها بما تقوم به الصفحات الشخصية من طابِع ذاتي وفذلكي وغير رسمي (وإن كانت تُستخدَم كذلك كطُعم للمتابَعة ولرقصة الطاووس)؟

ولا بدّ لنا أن نعود لسحيق التاريخ لنفهم المسألة. فالحفريون وجدوا آثار الموريتانيين الأوائل وهم يركبون الأفيال التي تجرّ بهم العجلات والعربات منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. وقد اعتقَد مؤرّخ ليس هذا مقام ذكره أنّهم كانوا يستخدِمونَها للصيد. وطبعاً فهذا غير معقول، إذ كيف لأبطأ حيوان، مع حفظ الألقاب، أن يُعين على الصيد؟ وأنّى للفيل، مع جلالة قدرِه، أن يُطارِد النعام والظباء والغزلان والحبارى؟! والحقيقة هي كما أثبَت مؤرّخ حفري هذا مقام ذكره، وهو روبير فيرنييه، أنّهم، وخاصّةً زعماء العشائر منهم، كانوا يستخدموها للتفاخُر والتباهي والفُرجة.

وبعبارة أخرى فإنّ أفيال الألفية الثالثة هي سيارات V8 اليوم وVX الأمس، التي تبزّ قيمتها الافتخارية قيمتها في عبور الصحراء. قيمتها الاجتماعية أهمّ من قيمتها العملية. وقُل نفس الشيء عن الآيفونات، التي لا يستخِدم معظم الناس نسبة 80% من خصائصها، ولكنهم يضطرّون لتبديلها بآخر صرعة منها للأسباب المذكورة أعلاه (وهكذا يختارونها شكلاً، لا خِدمةً). وبعبارة أخرى فإنّ البهرج والمظهر والافتخار والتألق يلعب دوراً كبيراً في المعاني والمجتمع والاقتصاد والسيميائيات والدلالات. إنّ المعاني المُضافة تكون أحياناً أهمّ، وغالباً أجلى، من المعاني الأصيلة، والمعاني الظاهِرة أقوى من المعاني المَخفِية.

كانت من الأشياء التي صدمت الفقير في هجرته أنّه وجد ما يليه الغرب أقلّ مادية ممّا كان يليه من الشرق، بعد أن كان العكس هو الصحيح في خوالي العقود. ولكنّ مادية الغرب هذه تتغذّى من "روحيات"الشرق، التي تحوّلت إلى تلك البهرجيات والتفاخرات. وهكذا تحوّلت العزاءات إلى ولائم والمآتم إلى شهوات. وطبعاً قد دُرِست أنثروبولوجيات التباهي والتمظهُر في مجتمعات الجنوب، ولكن ما نحتاجُه الآن هو نظرية محليّة فيها.