إعلانات

المجلسي يكتب عن العلامة الراحل محمد يحيى بن سيد أحمد

ثلاثاء, 14/05/2024 - 01:36

محمد سالم المجلسي المجلسي

 

 

رحلَ يَحيى.. فرحل عالمٌ نِقريس, حُلوُ التَّدريس, جميل النُّكتةِ, مليح الفُكاهة, وقد كانت مجالستي له للاستفادة من علمه الغزير ومحاوراتي له قليلة رغمَ أواصر القرابة وروابط الودِّ بسبب تفريطي وتباعد السَّكن, "لكنَّها ضأنٌ كما في المَثلِ" فمجالستُه إمتاع ومؤانسة وفوائد ومزايا يوافق المظهر فيها المخبَر..ولا يغيب عنها عطران فوَّاحان, عطرُ تواضعٍ فائح يحاكي "مَلأى السَّنابلِ تَنحني بتواضُعٍ.." وعِطر جِدٍ ومثابرةٍ لائح يطاول شُمَّ جبال العزائم على قدر أهل العزم.

وقد حدَّثني أحدُ الإخوة التُّونسيِّين أنَّه كان يُسجل ويُصوِّر له حلقات في شرح عمود النَّسب فكان يُحدِّثهم لأربع ساعات وخمسِ ساعات فيُشفِقون عليه خوفَ التعب الشَّديد المُضر, فإذا واصل الحديث عجِبوا من استطراداتِه وتسلسُل حديثِه الذي هو أخفُّ عليه من ريشِ الحمام, وأرقُّ على نفوسِهم من النَّسيم.

وكنتُ أفهم ذلك لأنَني ما لقيتُه أو سمعتُه أو قرأت له إلَّا اشتَقت للسيرة, وتَذكَّرت قولَ البدويِّ في نسب خناعة من هُذَيل في أُصَيل بن سُفيان الهُذَلي:

أُصَيلُ شَوَّقَ النَّبِيَّ مكَّتَه..

وزَوجَه بوَصفِه فأسكتَه.

رحلَ يَحيَى.. فرحلَ ناصح أمين, ومضى حاضٌ على طلب العلم صادق, يوظِّف في نصائحه معرفتَه الواسعة بالأنساب, ومهارتَه القوية بالنحو والصَّرف, فنجده يضمِّن في قصائدَ طويلةٍ كثيرا من الألفية واللامية, ناهيك عن حِكم العرب وأمثالها.

وكان محبَّا للكتب, حريصا على اقتنائها, فجمع مكتبتَه الكبيرة المليئة بنوادر المخطوطات, وفتح بابها للباحثين, وكان كما قال ممُّ في شيخه يحظيه شيخ شيخِ يَحيَى:

ولا يَصون كُتبَه عن طالبِ..

وليسَ دون بابِه مِن حاجِبِ.

وقد حقَّق يَحيَى نظمَ حياة العلامة يحظيه كما حقَّق غيرَه..فتجاوز التحقيق إلى الممارسة والتطبيق.

رحل يحيى في زَمَن ابتذال الألقاب وطلبِ الوظائف والتَّزلف لذوي السلطان وأهل المال والأعمال, وقلَّة صيانة العلم..رحل يحيى ولم يَرُم وظائف ولا ألقابا, ولم يَطرُق من تلك المآرب بابا.

رحل –نحسبُه والله حسيبه - لا يُريد علُّوا في الأرض ولا فسادا, سلِم المسلمون مِن لسانه ويَدِه.

لقد كانت حياته "أزهارا نَدية" وكانت أخلاقُه "رَوضَ نَدى" وكانت معارفُه "سموط ذَهب"

رحل يَحيَى..فرحل مؤرِّخ مجرِّب كان شَديد الاعتبار في الحياة, وغاب أديبٌ مخبتٌ كان يُكثر من ذكر هاذم اللذَّات, رسمَ ذلك في لوحاتٍ أدبية جميلة, وصبغ به قصائدَ معصورةً من عروق التَّأمل المُثمر, يقول في قصيدة: "تأملات وعِبَر":

ما قد تَصرَّم مِن عَيشي وأيَّامي..

أضحَى بذاكرتي أضغاثَ أحلامِ

وجُلُّه ضاع فارتَدَّت مُشاهدتي..

غَيبا فأعجَزَ تفكيري وأوهامي

والعُمرُ يَذهبُ والأيَّام مُسرعةٌ..

كالسَّهمِ يَنفُذُ إذ يَرمي به الرَّامي

يَجري به الدَّهرُ جَريَ الطّرفِ مُنجرِدا..

أعوامُه تتَبارى مثلَ أيَّامِ

والمرءُ ما عاشَ محدودٌ له أمدٌ..

يَعيشُه بين آمالٍ وآلامِ

.....

إلى متى نحن والآمالُ تَخدعنا..

والموتُ يعتام منّا كلَّ مُعتامِ

في كلِّ يَومٍ إلى الأخرَى يُودِّعنا..

مَن لا يَعودُ إلينا لو بإلمامِ

ساوَى الرَّدى بينَ أقوانا وأضعفِنا..

وبينَ ذين وخَنساءٍ وضِرغامِ

مِن بين أقرانِه الضرغامُ مختطَفٌ..

والظَّبيُ مٌقتنَصٌ من بين آرامِ

ساروا وَسِرنَ ولَم يَحمِ الجميعَ حِمًى..

لا في الكِناسِ ولا في جَوفِ آجامِ

قد سار أسلافُنا في إثرِ مَن سَلفوا..

في ذِمَّة الله في رَوحٍ وإكرامِ

.....

إلى متى أناْ لم أعملْ لِمُنقَلَبي..

والموتُ يَدنُو يُعادِي بَين أقوامِ

مضى الأقاربُ والآباءُ قَد ذَهبواْ..

والأمَّهاتُ وأخوالي وأعمامي

وإخوَتي والأُلَى قد كُنتُ آلفُهم..

مِن كلِّ نَدبٍ كَريم ماجدٍ سامِ

وقد تيقَّنتُ أني لاحقٌ بهِمُ..

مسيرُهم بمَسيري فيهِ إعلامِي

إلى متَى ذا التَّواني والوقوف معًا..

عن طاعةِ الله أيَّامي وأعوامي

إن رُمتُ في الخيرِ إقداما يُثَبِّطُني..

عَزمي فيَطغَى على الإقدامِ إحجامِي

وكم أماميَ من هَولٍ تَذُوبُ له..

صُمُّ السّلامِ ويَوم الحشرِ قُدَّامي

يا ربِّ وفِّق لِما يُرضيك مِن عملٍ..

واغفِر بفضلِك يا ذا العَفوِ آثامِي...

ويقول في قصيدة طويلة عنوانها "حقائق وعبر":

ما مضى مِن حياتِنا ذِكرياتٌ..

إن ذَكرنا كأنَّها أوهامُ

....

سَفرٌ هذه الحياةُ وخيرُ الزَّا..

دِ فيها التَّقوَى والُاخرَى مَقامُ

عِبرٌ هذه الحياةُ وفيها..

للحياةِ الأخرَى مطايا عِظامُ

......

وله من قصيدة أخرى في الاعتبار في الدَّهر ومراحله:

عهودَ دَهرٍ مَضى عنَّا لنا عُودي..

ذِكراكِ هيَّجها لي "قَطّ برغودِ"

...

والدَّهرُ يَذهبُ مثلَ السَّهمِ يُطلِقُه..

رامٍ, وما فاتَ منهُ غيرُ مَردودِ

والمرءُ في أجلٍ تَطوي مَراحلَه..

أيامُه لمدىً للموتِ مورودِ

فيا لها عِبر مَن صانَ عَبرتَه..

مِن وَقعِها القلبُ منهُ مثلُ جلمُودِ

....

وكان يَذكُر في ذلك المعنى أشعارا جميلة وحِكما جليلة, ويتمثل قول الأديب محمَّدِّن ولد حمدَيت التَّندَغي:

اِموتْ الشَّاعر لمغَنِّي..

والعالمْ لَفقيهْ السُّنِّي

وانَ لمْفَطَّنِّي عنِّي..

أيَّامِ في الدَّنيَ فاتُو

ماتُ وَحدَينْ أَكبَرْ منِّي..

أوَحدَينْ اَصغَر منِّي ماتُو.

رحلَ يَحيَى.. وإنَّ له لَعُمُرين عظيمين:

عُمرا ماضيا بحفظه التاريخ والسِّير والتراجم:

ومَن حَوى التَّاريخَ في صَدرِه..

أضاف أعمارا إلى عُمرِه.

وعُمرا باقيا بما خلَّفه من آثار طيِّبة وذِكر جميل:

تلك آثارُنا تَدلُّ علينا..

فانظُروا بعدنا إلى الآثارِ.

ويا لها من آثار يَحار فيها الفِكر, ولا يَزال لها ذِكر..!!

فإن تَكُ أفنته الليالي ومرُّها..

فإنَّ له ذِكرا سيُفني اللَّياليا.

رحمَه الله, وأدخله في جنات رضاه, وملأ قبره نورا, ولقَّاه يومَ القيامة نضرة وسُرورا, وجزاه عنَّا خيرا وعن الأمة الإسلامية..وبارك الله في أهله وعقِبه, وأحسن عزاءهم, وأعظم جزاءَهم, ووفقهم لجميل الصَّبر, ووهبَهم جزيلَ الأجر.

أعزِّي في وفاتِه والدتي وخالتي النِّعمة, حفظها الله ووقاها كلَّ نِقمة, وأعزِّي أبناءَه العلماء الأفاضل والأساتذة الكرام: عبد الله السالم وأحمد والشريف, وأعزِّي بناته الكرائم, وجميع أسرته, وتلامذته, وكلَّ مَن له به صلة.

ولا نقول إلا ما يُرضي الرب, إنا لله وإنا إليه راجعون.