
د. محمد أحظانا
كتب زميلي المفكر د. السيد ولد اباه في جريدة الاتحاد الإماراتية أخيرا، المقال الذي سأعيد نشره هنا، تحت عنوان: الليبرالية إلى أين؟
وقد ذيلته برأي مختصر مني حول موضوعه بعنوان: فقدان نموذج الاحتذاء.
أولا، مقال د. السيد ولد أباه
الليبرالية.. إلى أين؟
في مقال بعنوان «الليبرالية في زمن النهايات» (مجلة «بروسبكت» البريطانية)، يذهب المفكر السياسي البلغاري إيفان كراستيف إلى أن الليبرالية لم تَعُدْ في طور التوسّع والتوطّد، بل تواجه تحدي الاستمرار في مرحلة قاتمة من التاريخ السياسي الغربي.
بعد نهاية الحرب الباردة وانتهاء الاستقطاب الأيديولوجي الرأسمالي الاشتراكي، ظهر انطباع قوي بأن العالم سائر كله في اتجاه الديمقراطية التعددية والاقتصاد الحر، بما فيه البلدان التي كانت تنتهج الاشتراكية سابقاً، وبدا أن الولايات المتحدة، التي هي القوة العُظمى المنتصرة في الصراع الجيوسياسي، عازمة على قيادة العالم في هذا الاتجاه الذي هو محطة اكتمال التاريخ البشري (أطروحة نهاية التاريخ الشهيرة التي بلورها المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما).
ما يحدث اليوم هو أن أميركا لم تَعُدْ تضطلع بدور راعي النظام الليبرالي الدولي، في الوقت الذي تتزايد فيه النزاعات العالمية، وتنهار المؤسسات الدولية، وتتراجع الديمقراطية الحرة في جل بلدان العالم.
وفي هذا السياق، يرى كراستيف أن الخطر الذي يتهدد حالياً الليبرالية لا يتمثل في منظومة أيديولوجية منافسة (مثل الشيوعية كما كان الأمر سابقاً)، بل في الحركية الشعبوية التي تتهجم على النخب الليبرالية وتنعتها بالانفصام عن القوى الاجتماعية الحية، كما ترفض شرعية المؤسسات العمومية والسُّلط المستقلة، وتدّعي الاستناد إلى الشعب «الحقيقي»، في مقابل الطبقة السياسية «الفاسدة».
بيدَ أن كراستيف يقرّ بأن الحركية الشعبوية تستغل نقاطَ ضعف فعلية في المنظومة الليبرالية، وإنْ كانت لا تقدم بديلاً عنها. من نقاط الضعف التي يشير إليها الكاتب البلغاري: انهيار الطبقة العمالية التي أفرزها المجتمع الصناعي الحديث، والتي بقي فتاتها قاعدةً صلبة لأحزاب اليمين المتطرف، والانزياح المتزايد بين الخطاب الأخلاقي والحقوقي الكوني ومصالح ورؤى الطبقات الوسطى التي كانت سابقاً الأرضيةَ الصلبةَ للأحزاب الليبرالية، وتنامي الجوانب السلبية للتعددية الثقافية من هجرة غير منضبطة وعنف اجتماعي وأزمة هوية حضارية.والنتيجة الكبرى لهذه التحولات هي تشكّل عالم تطبعه سماتُ القلق والخوف والضياع، عالم فقَدَ فيه الناسُ الثقةَ في السياسة وهيمنت فيه صراعات الهوية على النقاش العمومي الذي تتحكم فيه على نطاق واسع شبكاتُ التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي.
وفي هذا العالم، الذي تسوده المشاعر القوية والانفعالات الحادة، لا مكان لصوت العقل والاعتدال والتوافق، وتلك خصائص الفكرة الليبرالية في ثوابتها المرجعية الأساسية.
وفي مقاله، يَخلُص كراستيف إلى أن الليبرالية لن تنتهي، لكنها ستتغير جذرياً وإلا فلن تكون سوى مجرد شبح باق من دون روح. على الليبرالية أن تتخلى عن ادعائها بأنها حالة طبيعية وغائية تاريخية لا محيد عنها، كما عليها أن تستوعب مطالب الفئات الاجتماعية الجديدة في الأمن والاندماج والانتماء الهويّاتي، ويتوجب عليها أن تراجع تصورَها للدولة التي لم يعد بالإمكان حصر نطاقها في التحكيم الحيادي، بل لا بد أن تضاعف مسؤولياتِها في الرعاية والأمن والتوجه الاستراتيجي.
خاتمة المقال هي الاستشهاد بقول رجل الدين الآبي ساييس الذي عاصر الثورةَ الفرنسية، وعندما سئل عن علاقته بها، قال: «لقد استطعتُ الحفاظ على نفسي بعدها».
ومن منظور عربي، يمكن أن نقدم ملاحظتين أساسيتين على مقال كراستيف: أولاهما أن الليبرالية لم تدخل بقوة في المنظومة الدلالية والمفهومية للخطاب العربي المعاصر، وقد التبست تاريخياً بمصطلحات ومعايير لا تتماهى معها بالضرورة مثل الرأسمالية والعلمانية والتنوير.. بل إنها في بعض السياقات اختزلت في الكتابة الأدبية الجديدة والنقد الثقافي والاجتماعي. وهكذا غابت عن الفكر العربي الإشكالات الأساسية المتعلقة بالفردية الذاتية والتأسيس القانوني المدني للسُّلطة السياسية والتسامح الاجتماعي، وهي كلها حاجيات موضوعية للمجتمع العربي.
والملاحظة الثانية أنه لا بدّ من التمييز بين الحركة الشعبوية في الديمقراطيات الغربية التي تعبّر من جهة عن أزمة النظام المجتمعي ومن جهة أخرى عن فكرة السيادة القومية ولو بانفصام عن سُلطة القانون والمؤسسات العمومية، وبين الحركة الشعبوية في عالمنا العربي التي تصدر عن منظور هوياتي رافض للقيم الليبرالية فكراً وممارسةً.
خلاصة الأمر، أن أزمة الليبرالية في المجتمعات الديمقراطية الغربية وإن كانت تعكس تحولات جوهرية في مستوى آليّات الحَكَامة السياسية والنظم الاجتماعية، إلا أنها لا تهدد في شيء البنيات الثقافية العميقة المكرسة للحرية والقانون المدني، بينما تعبّر الأزمةُ في عالمنا العربي عن مأزق ثقافي نوعي ناتج عن هشاشة وضعف القيم والمعايير الليبرالية في الوعي الجماعي والمُتخيّل الرمزي المشترك.
انتهى المقال.
..... ...
ثانيا، تعليقي على المقال:
تعليقا مني على هذا المقال الجيد كتبت السطور التالية:
فقدان نموذج الاحتذاء
عرض مفيد منك زميلي، لتفكير مفكر اشتراكي "تائب" من الشيوعية مرتاب من الليبرالية، يشخص أزمة الغرب دون تصور حل لها. الملاحظتان الأخيرتان منك دقيقتان، ملفتتان للانتباه وسأعلق عليهما بإيجاز:
أرى أنه لما لم يكن الامتصاص الأيديولوجي لليبرالية ولا الاشتراكية في البلدان العربية كافيا لتحطيم البنيات التقليدية الموروثة، والتي نجت من سطوة هذين النموذجين؛ تحورت تلك النماذج تحت رؤى فاشلة، لعدم قابلية النخب السياسية والفكرية وعدم أهليتها لفهم الواقع العربي كماهو، و العمل على تغييره إلى ما يجب أن يكون عليه تحديثيا.
ولم تكن النخب الحاكمة الانتهازية -مع ذلك- بقدر المسؤولية الأخلاقية الموجِّهة، ولا الوعي الفكري السياسي الإبداعي، لابتكار نماذج تحديثية بديلة وأصيلة، فاكتفت باحتذاء شكلي لأحد نموذجين: شرقي اشتراكي، وليبرالي غربي، وفشلت هذه النخب ثانية في إقناع شعوبها بأصالة مشروعها، أو بأنها جادة في تحقيق أي أهداف مدنية تحديثية، "فارتدت" المجتمعات العربية عن أحلام النهضة إلى أوهام الهوية الماضوية على نحو مرَضي لا يعي بمجرى الزمن ولا بالواقع، ولا المتطللبات المستقبلية فكانت الشعبوية العمياء.
بعد انهيار النموذج الشيوعي أيديولوجيا وتنظيميا، وتهجينه اجتهاديا، ثم انهيار النموذج الليبرالي أخلاقيا؛ فقدت النخب السياسية نموذجيْها المتحورين عمليا فأفلست، لأن رأسمالها السياسي مستمد من حسابات مصرفية سياسية أفلست هي الأخرى بشكل أو بآخر..
وهكذا فقدنا نحن في عالمنا العربي النموذج المحتذى وتردينا في خطاب الارتجاع الفوضوي لعناوين ماضينا الخلافي الملتبس. ولن نبرح نتخبط في هذا العمى السياسي الأيديولوجي إلى أن نبتدع حلولا تفهم واقعنا كما هو لا كما نتأوله، لنتجاوزه تجاوزا خلاقا ناجحا نحو إعادة تدوير ماضينا وتوطينه في محله المناسب من خارطة الاستحضار والوعي غير التعاطفي؛ وتحقيق مصالحة جادة مع الواقع بإعادة تشخيص حاضرنا العنيد، و منهجة وتشكيل التعاطي مع مستقبلنا المنتظر على نحو تجاوزي آمن.
تحياتي كاتبنا الزميل د. السيد ولد اباه.

