
ليست هذه الصورة مشهدًا للطبيعة؛
إنّها مجازٌ كونيّ يتدلّى بين بياضٍ متجمّد وسوادٍ سائل، كأنّ الأرض نفسها ترتّب درسًا سرّيًا في هندسة التناقض.
على ضفّة الثلج، تجثم بجعةٌ سوداء…
لونُها وحده يكفي ليحرّض الأسئلة:
كيف يجرؤ السواد على اختيار العرش الأبيض؟
وكيف يليق به أن يترك ظلّه يمتدّ كحبرٍ يوقّع القصيدة قبل أن تُكتب؟
وفي الجهة المقابلة، على صفحة الماء الداكن،
تطفو بجعةٌ بيضاء…
بياضٌ لا يخجل من الغوص في عتمةٍ ليست له،
كأنّ النقاء قرّر أن يختبر نفسه بلا قشرة، بلا مرآة، بلا ادّعاء.
هنا، عند الحافة حيث يتشابك الثلج بالماء،
يحدث ما لا يقولُه المنطق:
الألوان تُخطئ مواقعها كي تصيب الحقيقة.
فالكون، على ما يبدو، لا يفهم الثنائية إلا ليُفجّرها.
الخطوات المطموسة على الثلج تزيد لغز الصورة عمقًا؛
كأنّ إنسانًا مرَّ من هنا،
ثم تراجع كي لا يفسد على الكون لعبته.
ترك أثرًا صغيرًا…
وأفسح المجال لتتحوّل البجعتان إلى سؤالين معلّقين فوق هاوية المعنى.
أحدُهما يقول:
هل السواد خطيئة؟ أم لونُ الحكمة حين تتخلى عن الزينة؟
والآخر يهمس:
هل البياض طهارة؟ أم قناعٌ يذوب ساعة يقترب من ظلال الماء؟
ــ وفي التقاء السؤالين تنكشف الفكرة:
أن النقاء قد يلبس سوادًا، وأن الظلام قد يحمل قلبًا أبيض، وأن الإنسان لا يكتمل إلا حين يجرؤ على عبور الضفة التي يخافها.
هذه الصورة ليست ثنائية.
إنّها عتبة.
عتبةٌ بين ما نظنه وما هو عليه.
بين طبقات الذات التي ندفنها، والطبقات التي تخرج منّا رغمًا عنّا.
وفي النهاية — حين نطيل النظر —
نجد أن البجعتين لا تواجهان بعضهما،
بل تواجهاننا نحن:
تسألاننا ببلاغةٍ لا صوت لها:
أيُّ ضفّةٍ اخترت؟ وأيُّ لونٍ يختارك حين يختبرك الظلّ؟

