إعلانات

اللغة العربية لغة توحيدية بفطرتها / الدكتور محمد ولد أحظانا

خميس, 21/07/2022 - 21:01

 

توطئة
يبدو أن استرجاع التفكير والتأمل في أصول الثقافات والأديان المشرقية استعاد بعض الألق لدى الباحثين والمفكرين من مستشرقين ومشارقة ومغاربيين.
ويتراوح هذا الاهتمام بين إنجاز دراسات جادة فما دون ذلك. وإذا كان ثمة ما يستنبط من هذه العودة إلى فحص الأصول فهو على أرجح الظن: 
- خيبة أمل، من نوع ما، في حاضر الفكر العربي الإسلامي، والرغبة الجارفة في اختبار أسس التأويل التي بناها المعاصرون قبل اليوم، تشكيكا أو وثوقا، تبنيا أو تنصلا، من أصول هذا الفكر.. فكل أعمال أولئك المؤولين تحت طائلة المساءلة والاختبار الجاد في هذه الفترة. سواء كان ذلك بمناهج مأمونة مكينة أو عبر مناهج قلقة مهزوزة. المهم أن التساؤل قائم بشكل ملح، أيا كان مستوى وجدية  من يحملونه في أذهانهم، أو على أسنة أقلامهم ليجيبوا عليه.
-  ثمة مؤشرات لاتخطئها عين الرائي عن بداية زحزحة في الحقل الثقافي العربي الإسلامي نتيجة فشل المشاريع الإصلاحية الاجتماعية والسياسية والأطاريح الفكرية، أو كمونها في بيات متطاول، أوتفريغها من حرارة الحياة، أوفقدانها للجاذبية؛ مما جعل البحث عن البدائل النظرية والعملية السائدة أمرا واردا، بل مطلوبا بإلحاح.
وقد لاحظت في هذا الصدد أن ثمة مصبات لابأس بها للاهتمام بأصول ثقافتنا العربية الإسلامية من لدن بعض المفكرين، مثل أصول الديانات السماوية التوحيدية، ومستنداتها التاريخية واللغوية القديمة. ومصاحباتها الحفرية، سعيا لإعادة قراءة وتقويم تلك الأصول التي تراكم عليها الردم التأويلي. 
ولاشك أن ثمة جهودا معتبرة في هذا المنحى لم تنجح في اختراق الاهتمام العام بعد حتى تشكل تيارا فكريا جارفا، لكنها انطوت على إثارات جديدة  وجادة، لإعادة قراءة هذه الأصول من زوايا غير مطروقة، نبهت إلى بعض الخلل الهيكلي في الأطروحات السائدة قبلها.
وإسهاما مني في تلك الإثارات الفكرية حول تأويل الأصول سأحاول في هذا المقال -على تواضع متاعي النظري- أن أقدم أطروحة حصلت في ذهني بعد تأملات أولية ودراسات حول اللغة العربية ومؤشرات تضمنها للتوحيد. 
والأسئلة التي أثارها في ذهني هذا المنحى من النظر  عديدة، لكنها تتمحور حول إشكالين:
 أولهما: هل كانت اللغة العربية ببنياتها الضمنية والصريحة، ودلالتها التاريخية، حقلا معرفيا موحدا، أم أنها انبناء عشوائي وثني على ملة الناطقين بها قبل الإسلام، و من ثم لم يكن احتضانها للتوحيد سوى احتضان إبلاغي مفارق للحمتها وسداها كأي لغة اخرى في علاقتها بالإسلام؟ مما سيعني أن علاقتها بالتوحيد ورسالته علاقة بيانية عامة فقط، كما يفهم من تأويل بعض المفكرين المحدثين أمثال أستاذي الدكتور محمد عابد الجابري ومن نحا نحو قراءته البيانية من مؤولي الفكر العربي الإسلامي في تكوينه وبنيته؟
 
ثانيهما: إذا كانت الديانات التوحيدية غير الإسلام مثل ملة إبراهيم و موسى وعيسى عليهم السلام قد نزلت بلغات سامية من أبرزها العبرانية فهل كانت لها نفس الوظيفة الإبلاغية البيانية فقط، أم هي أيضا لغات ذات بنية توحيدية في أصلها وفطرتها قبل نطقها بدياناتها التوحيدية؟

مقاربات حول الإشكالية الأولى:

المقاربة الأولى:
لايخفى على القارئ أن الإجابة على السؤال الأخير من السؤالين تتطلب بداهة، أن يكون المتصدي لها خبيرا في اللغات السامية القديمة، وهو ما سيعفيني أنا من مسؤولية الإجابة طبعا، لجهلي بتلك اللغات. لكن ثمة سبب رفيع يمكن التوسل به لإجابة مبسطة مؤقتة على هذا الإشكال وهو أن العائلة السامية عموما، ذات بنية مضطربة متشاكلة أو متقاربة، باستثناء البابلية الحديثة، لأنها تداخلت مع الفارسية المشجرة، وذات البنية الثابتة. وبذلك تشاكل الساميات أختها اللغة العربية في مبناها وبعض جذور معانيها.
 وعليه فإننا إذا استطعنا أن نبرهن على أن اللغة العربية لغة توحيدية بفطرتها أمكننا بالمقايسة أن نضيف إليها أخواتها من نفس العائلة في فطرية توحيدها.

المقاربة الثانية:
(و أن أقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم..) قرآن كريم.
من المهم في التمهيد للإجابة على إشكالنا الأول حول فطرية التوحيد ضمن بنية العربية أن ننطلق من مبدأ أن اللغة بحد ذاتها جبلة في الإنسان، أو ملكة تخصه وتميزه، فإذا حملت فهما معينا لوجود ذي بنية سببية، تميل إلى واحدية السبب؛ فيعني ذلك أنها موحدة بفطرتها، أما إذا مالت إلى التعدد في علة الوجود فيعني ذلك أنها غير توحيدية بفطرتها. فبأي الصفتين تتصف اللغة العربية في تشكل بنيتها العفوية الضمنية حول سبب الوجود أيا كان مستواه؟
إلى هذا الحد أعتقد أن المنطلق واضح والإشكال أوضح.
إن الآيات القرآنية الكريمة آنفا تؤكد أن التوحيد فطرة لمن أرسلت إليه الرسالة التوحيدية، وذاك مستند أول نفرده ضمن اسس الإجابة حتى ندعمه بالقرينة.

المقاربة الثالثة:
مرت اللغة العربية بمرحلتين أساسيتين كبريين في مسيرتها: - مرحلة الاستعمال الفطري بالسليقة.
- ومرحلة الاستعمال  الواعي بالدراية والوعي. أي: مرحلة ما قبل التقعيد ومرحلة ما بعد التقعيد. 
وسأسمي المرحلة الأولى مرحلة الاعتماد على البنيات الضمنية، والمرحلة الثانية مرحلة الاعتماد على البنيات الصريحة. 
ولكي يكون المفهومان واضحين سأعرف كل واحد منهما اصطلاحا:
1. البنيات الضمنية: أعني بهذه البنيات التركيب الناظم للجمل اللغوية بشكلها المستقيم حسب قواعد محترمة تطبيقيا، دون أن تكون معروفة أو واعية لدى مستخدمها. فهي تطبيقيا الطريقة التي ينطق بها العربي الجملة الاسمية مرفوعة المبدأ والمختم، أو ينطق الفعل منصوبا أومرفوعا أو مجزوما، والفاعل مرفوعا والمفعول به منصوبا، في الجملة الفعلية، دون أن يعرف ذلك الناطق بالجملتين أنه يخضع لقواعد ثابتة، تقرر الرفع للمبتدا وخبره والأفعال وعللها ومعلولاتها، مع أنه لا يلحن في كلامه. 
إن القواعد التي يخضع لها الناطق باللغة العربية دون ان يعلمها (أوأي لغة أخرى في هذا الطور) هي ما أدعوه البنيات الضمنية. 
وهذه البنيات لها علاقة تشاكلية بالوعي العقلي الناظم لتفكير الناطق بتلك اللغة، لأن اللغة عقل ضمني لأصحابها.. إذ هي المحدد لرؤية العلاقات السببية بين المسبب، والسبب والمسبب في الجملة الفعلية، التي هي التعبير اللغوي عن الانتظام السببي للتفكير في الوجود ومحددات االدلالة التاريخية للألفاظ والمباني. 
فهل اللغة العربية خاضعة ببنياتها الضمنية لسببية واحدية في عموم رؤيتها للوجود، أم لا؟ بغض النظر عن كون هذا التشكل اللغوي المطرد حصل دفعة أو بتراكم تاريخي.

2- البنيات الصريحة:
بعد أن قام اللغويون العرب بتقعيد النحو لبنية الجملة، والصرف لبنية اللفظ،  والمعجم لدلالة الكلمة، انتقلت اللغة من استعمال غير واع لقواعدها الضمنية إلى استعمال واع وعن دراية بتلك القواعد. ورغم أن وظيفة الاستعمال بقيت على حالها اداء، إلا أن الناطق باللغة أصبح قادرا على تصحيح حركاتها الإعرابية بصورة استباقية لنطقها، حسب قواعد معلومة لديه، ولم تعد البنيات الضمنية خافية عليه كما كانت. وهذا هو ما أسميه بمرحلة البنيات الصريحة للغة.
بعبارة أوضح: إن الفعل كان فعلا قبل التقعيد لكن تجريد  تسميته ووظيفته لم تكونا في دائرة المعلوم للناطق باللغة، مع أن هذا الناطق بالبنيات الضمنية لم يكن يكسر الفعل مثلا، أو يضم المفعول به. وإنما كان ينطقهما حسب القواعد التي اكتشفها النحاة لاحقا اعتمادا على المنطق الضمني للعربية. فالفرق إذن بين مرحلة البنيات الضمنية والبنيات الصريحة ليس في الأداء وإنما في الوعي به من عدمه.
 وبالتالي فإن ما بعد التقعيد لم يغير طريقة إدراك الوجود أصلا عبر اللغة، ولا سلاسله السببية، وإنما قعدها وسمى مفاهيمها وصيغها، مما سهل عملية التأويل في اللغة، وبها، ويسر تعليمها لغير الناطقين بها سليقة، اعتمادا في ذلك التقعيد على ما تحمله من نصوص وجدت قبل كشف القواعد، بما في ذلك القرآن الكريم والسنة القولية والشعر الجاهلي والإسلامي، وسجع الكهان...

المقاربة الرابعة:
علينا إذن، أن نختبر وجها من وجوه عقل اللغة ممثلا فيما له علاقة بالسببية مما عبرت عنه الجملة، وسينصرف النظر في هذه الحالة إلى الجملة الفعلية أولا لأنها هي اداة تعبير العرب عن فهمهم لثوابت السببية وضروبها.
بتطلب منا الأمر أن نبحث في العربية عن ثلاث خانات نسقية للتعبير عن المسبب والسبب والمسبب بفتح السين.
 وقد عثرت أثناء البحث في هذا المنحى على أربع بنيات سببية إلى حدما أرشدني إليه الجهد الذهني:

ا- بنية تعبر عن نظام السبب (الفعل) والمسبب بفتح الباء (المفعول به) المسمى عند النحاة نائب الفاعل تجوزا، لرفعه طلبا للكفاية. وهي بنية ما لافاعل له من الأفعال، مما لم يسمع فيه غير التركيب للمجهول من هذه الأفعال القليلة في اللغة العربية، مثل: جن الرجل، وطل دمه..وحم أجله.. الخ.
 وصفة هذه السلسلة السببية المنتحية حسب رأيي، أنها تجهل المسبب بكسر، لغموضه على عقل المدرك الناطق باللغة العربية.
أما تجاهل الفاعل في سلسة سببية مركبة للمعلوم أصلا، إذا عرض لنا، فهو عارض قصدي لدى القائل، مثل خساسة الفاعل أو جلال المفعول به.. حسب تسويغ النحاة، وهو لذلك فرع عن أصله المركب للمعلوم، ولا يغلب به اطراد البناء للمجهول. وإن شاكله عرضا لا جوهرا، وصح نحوا.

ب- بنية نظام الإدراك السببي الثاني في اللغة العربية يمثلها نسق المسبب بكسر، والسبب. دون وجود المسبب بفتح. وهو ما سماه النحاة اللزوم، ويعني لزوم الفعل لفاعله. بمعنى أن الفعل يجري على المسبب بكسر، مثل: وقف الرجل، فهو الذي أجرى الوقوف على نفسه فلزمه. 
هذه السلسة كسابقتها ثنائية العناصر وتعبر فكريا عن تأثير السبب حصرا في المسبب بكسر..

ج- السلسلة الثالثة المعبرة عن فهم السببية في اللغة العربية هي التي تعبر عن نسق التفاعل. وهي- حسب التجسيد اللفظي في الجملة- قائمة معنى على المزاوجة بين نسقين أحدهما اللزوم لفظيا، بمعنى أن لا لفظ مستقل يعبر عن المفعول به، وثانيهما التعدي -معنى وعقلا-  لأن كل فاعل من المتفاعلين أجرى الفعل على صاحبه، فهو في نفس الوقت فاعل ومفعول به، معنى، لا لفظا كما سلف: تخاصم الرجلان، مثلا. تعني انه صار كل منهما مخاصما بفتح ومخاصما بكسر. رغم أن حال بنية الجملة كحالة اللزوم في شكلها إذ لامفعول به مذكور فيها. أما عقلا ومنطقا فيعبر هذا البناء السببي عن تصور سببية، وهي هنا متعاكسة وليست خطية في اتجاه واحد كسابقتيها ولاحقتها.

د- البنية الرابعة المعبرة هي لغويا عن نسق إدراك السببية في عقل العربية في بنية كاملة لثلاثية السببية، ويعبر عنها ب: الفاعل (المسبب بكسر) والفعل (السبب)، والمفعول به (المسبب بفتح).
هذه البنية الذهنية اللغوية الكاملة تحوي جميع عناصر السببية كاملة، وبالتالي فهي أشمل تعبير عن فهم السببية بكل أطرافها عند العرب بفطرتهم.

ه- تكميلا لهذه المعطيات حول الانساق الكبرى لإدرك صور السببية في العقل الضمني للعربية، فإن ثمة واقعا يمنحه تأمل خصائص نحو اللغة العربية العامة وتحجبه معطيات نحو كلامها، وهو أنه في الاقتضاء العقلي العام لهذا العقل لا يوجد فعل إلا ويمكن أن يشتق منه مفعول مطلق ويحيل عليه تحالة سببية تختلف عن الإحالة السبببة على المفعول به، أي عند التعبير بالمفعول المطلق عن وجود مترتب على نوع السبب، مثل "قولا" من قال، و "تحركا" من تحرك.. إلى آخره. هذه الحالة تقودنا إلى مخاصمة النحاة في قولهم إنه يوجد فعل لامسبب له بفتح. مع أنه في الواقع اللغوي لا يوجد فعل إلا وله مسبب مقيد وآخر مطلق، أو له مسبب مطلق فقط. وبالتالي ففكرة اللزوم عندهم ليست على إطلاقها لأنه لا وجود لفعل إلا وهو متعد لمفعول مطلق، لكن هذا على مستوى النحو العام للغة العربية، لا على مستوى التطبيق الكلامي.
يعني هذا بجلاء أن النحاة نظروا هنا للكلام لا لمنطق اللغة العام، وهذا حق لهم ومنظور له حجيته. لكنه يترك ثغرة في مطلقية قاعدة عدم تعدي كل الأفعال إلى المفعول المطلق، كما رأينا.
سنستفيد في استنتاجاتنا من هذه الملاحظة عند جمع الخيوط لاحقا على مستوى فهم العقل اللغوي العربي للوجود السببي.

المقاربة الخامسة: 
كان الحقل المعرفي لما يصدق عليه السبب (الفعل)  لدى الناطقين باللغة العربية خاضعا في أذهانهم لثلاث حالات، وهي: التحقق (الماضي)، والجريان في الحال(المضارع الحيني) والمتوقع أو المطلوب (المضارع المستقبلي، والأمر).
وإذا تأملنا في الحالين، الثاني والثالث للفعل لاحظنا أن السبب فيهما لم يصبح كافيا وجودا لعدم تحققه بعد، وما لم يكن السبب كافيا فإنه لايعد سببا منطبقا على رؤية واقع ما. لذلك فإن اعتبار المضارع والأمر أفعالا تحتوي الحدث والزمن والفاعلي، التي يحتوي الفعل الماضي المتحقق، هو من باب اعتبار ما سيكون لا من باب ما هو كائن، فتعميم النحاة -حسب ما أرى هنا- هو نوع من قياس الفرع المفترض على الأصل المتحقق. هذا إذا اعتمدنا على الزمن اللغوي لا على الزمن الفيزيائي، أي على إحداثية الزمن داخل الفعل لاخارجه. وثمة فرق بين الزمنين بالطبع. فالفعل الماضي في زمن اللغة قد لا يكون ماضيا في الزمن الفيزيائي، وكذا المضارع.. والعكس صحيح.
إذن؛ الفعل المتحقق هو الفعل الماضي، وهو السبب الكافي عقلا ولغة، وحالته هي الأصل والتعبير الصحيح عن الكمال السببي. 
فإذا نظرنا إلى هذا السبب في حالته تلك عبرنا عنه لغة ب: وقف، أو رفع. وهذان الفعلان يدلان على صنفين من البنيات: بنية اللزوم وبنية التعدي. فإن بحثنا في الدلالة السببية لاحظنا أن في كل صنف منهما مسبب بكسر، وهو الضمير: "هو" المتضمن. أي ضمير الغائب المفرد المذكر. وقس على ذلك كل الأفعال الموجودة في اللغة العربية من هذه الحالة الأصلية.
من ميزات الضمير "هو" في هذا السياق أنه لا يحتاج إلى دال إضافي ليدل عليه الفعل الماضي، فهو مستتر في جذر فعله، ولا يمكن أن نفصله عنه أبدا. بينما إذا أردنا أن نسند هذا الفعل لغير هذا الضمير تحتمت علينا إضافة دال زائد على أصل الفعل، مثلا:  دخلت.. دخلوا.. دخلنا.. (ت.. وا.. نا).
يترتب على هذه الحقيقة الناصعة أن وراء كل فعل (سبب) فاعل (مسبب).

المقاربة السادسة:
تجميع الخيوط
نستطيع، دون عناء كبير أن نرتب استنتاجاتنا من هذه المقاربات، بإيجاز شديد، على هذا النحو:
أولا: عبرت اللغة العربية في ضمنياتها قبل صرائحها اللاحقة عن فهم سببي للوجود، شكل قاعدة فطرية لإدراكها له. وإذا كانت ثمة بنية ذهنية واحدة فيها جهلت المسبب بكسر فثمة ثلاث بنيات ذهنية لغوية نشطة  فيها عبرت عنه واستحضرته.
وبالتالي فإن لكل وجود مسببا بكسر، حسب قاعدة التغليب اللغوية والتجريدية العقلية. 
تلك هي مسلمتنا الأولى.
لكن هل هذا المسبب (الفاعل) متعدد بتعدد الأسباب (الأفعال)؟
 هنا نتذكر ارتباط الفعل المتحقق (الماضي) بضمير الغائب المفرد المذكر: هو، ارتباط ضرورة ووجود، وسيعني لنا ذلك إشارة الوصول دون عناء إلى المسلمة الثانية وهي أن: وراء كل الأفعال المتحققة، مهما تكاثرت، فاعل واحد غائب. هو الذي تستبطنه الدلالة الأصلية لكل فعل متحقق.

فإذا أضفنا أكمل وأعم سلسلة سببية نسقية عبر عنها وعي اللغة العربية بالوجود السببي، وهي بنية الفاعل والفعل والمفعول مطلقا أومقيدا، أوهما معا، استنتجنا ما يأتي:
- إقرار اللغة العربية لنظام سببي يقتضي نوعين من الوجود، وجود مطلق مترتب على صورة فعله وجنسه (مفعول مطلق)، ووجود تحكمي مترتب على التأثير في موجود سابق بذاته للفعل، (مفعول به)، متصرف فيه بذلك الفعل اللاحق على الوجود الذاتي للمفعول فيه.
المفعول المطلق إذن يقتضي مسلمة، وهي أنه تعبير ذهني -حسب عقل اللغة العربية ووعي أصحابها- عن خلق لم يسبق فعله، وكان ماقبله عدم. و لهذه المسلمة اخت موازية لها حول المفعول به وهي أنه: تعبير عن تصرف في موجود متمكن، بالمفعولية فيه، فهو بلغة النظر: تصريف للموجود المستقل بذاته  وجودا، السابق في كينونته على الفعل المؤثر فيه..
بمعنى أننا من وراء المسلمتين أمام حقل وعي يقر بفطرته نوعين من تنائج السببية: - وجودا مطلقا هو خلق من عدم، من جهة. يعبر عنه النحو بالمفعول المطلق.
- وجودا مقيدا بسابق له، هو تصريف في الموجود، بفعل مؤثر فيه. من جهة أخرى، يعبر عنه النحو العربي بالمفعول فيه.
 ا- إن المسبب بكسر، وراء فعلي الخلق من عدم، والتصرف في الموجود، وكل الأفعال الكونية الأخرى الشبيهة بهما، هو مسبب واحد.
فمن هو؟
- هنا سينصرفنا السياق عن الحقل اللغوي الأبستمولوجي للغة ووعيها إلى تطبيق الرؤية العقلية اللغوية العربية على حقل الوجود، فنصل إلى أنها كانت لغة توحيد، وأنها سمت هذا الواحد إذ أطلقت عليه اسما هو الله. 
- انه لما جاء الإسلام وكان دين فطرة، كان عليه أن يزيل ما طرأ على هذه الفطرة، وينفي تعدد الآلهة سواء كانوا وسطاء أو غير ذلك، بعد ان كانت الفطرة التي عكستها اللغة وطاء معرفيا ضمنيا لواحدية المسبب بكسر الباء.
 إذن؛ أجزم -على هذه الأسس- بأن اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم  متضمنة بضمنياتها لمبدأي التوحيد والسببية، وبالتالي فهي لغة توحيد بفطرتها، ولذا كانت خير مطية معرفية لحمل القرآن وإبلاغه عقليا قبل إبلاغه بيانيا. وكان هذا الواقع اللغوي والذهني مصداق قوله تعالى: (بلسان عربي مبين) فالإبانة كما أفهمها هنا ليست إبانة بلاغية بيانية فقط، وإنما هي إبانة عقلية كذلك، تتجه بخطابها العميق إلى بنية العقل الفطرية لمن أرسل إليهم النبي الكريم صلوات الله عليه.
لقد كان على الرسالة الإسلامية أن تخصص وتسمي الواحد الخالق،  و تؤكد على توحيد الله بالذات، وتحصر له صفة السببية الكلية في في الخلق والتدبير. وكان إقناع المشركين بذلك سهلا حسب الاقتضاء، فهم يسلمون عندما يسمعون القرآن بعقولهم الباطنية قبل آذانهم، وذلك هو انشراح الصدر للفطرة التي تسكن عقلهم الباطني، فيتحولون عن عناد ذواتهم و إكراهات مصالحهم الشخصية وعاداتهم الراسخة. وينقدح الانكشاف عن حقيقة عقلهم الباطني المتضمن، الذي تعكسه اللغة باعتبارها عقلا مبنيا لأصحابها، فيؤمنون بالواحد الأحد، (من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.. الآية.)

مقاربات الإشكالية الثانية

المقاربة الأولى:
هذه الإشكالية ترتبط بسابقتها ارتباط مقايسة، لا ارتباط تخارج، وبالتالي سنقول إنه إذ كانت للغات السامية الأخرى نفس البنية الذهنية، ونفس الفهم للسببية، ونفس الارتباط بين الفعل المتحقق، والواحد الغائب المستتر وراء كل الافعال، فإن الظن الغالب يجب ان يقودنا إلى استنتاج وجود نفس علاقة اللغة العربية بالتوحيد في اللغات السامية الناطقة بالكتب السماوية بالتوحيد كذلك. بتضمنها لهذا التوحيد الفطري.
 
المقاربة الثانية: 
بما أنني لست مؤهلا علميا للأجابة الدقيقة على إشكال: توحيدية اللغات السامية الناطقة بالتوراة و الإنجيل.. مثلا، فإني ألفت انتباه من يتقنون هذه اللغات ويعتنون بالدراسات المشرقية القديمة و الديانات التوحيدية غير الإسلام، أن يردوا على الاستشكال الذي لايزال مطروحا عمليا و هو: 
هل اللغات السامية التي نطقت بها صحف إبراهيم، وألواح موسى، وإنجيل عيسى عليهم السلام،  كانت توحيدية بفطرتها؟ أم أننا مارسنا عليها القياس مع وجود الفارق في استنتاجنا حولها؟ 

ختاما فإن الموضوع غير مطروق بما فيه الكفاية  كما ييدو لي مما هو متاح للتداول الفكري والبحثي، خاصة من زاوية  النظر إلى العلاقات العميقة بين اللغة وعقلها الباطني البشري الفطري، من جهة، و العقيدة التوحيدية التي هي تصور سببي للكون وتوحيدي للخالق، من جهة أخرى. فلم يكن هذا المنحى - حسب علمي- وجهة دارجة عند المفكرين، قدما ومحدثين، لتأويل علاقة اللغة بالعقيدة الدينية ومستنداتها إلا بيانيا. 
و كون المعطيات التي كشفنا عن مظاهرها تصدق على العربية ببنيتها العقلية، والإسلام برؤيته الكونية، فإن ذلك يحث الذهن فعلا، على التفكير في الإشكال الكبير، على هذا النحو، الذي لم أصادفه في صحف الباحثين والمفكرين، رغم إقراري بالقصور عن الإحاطة.
لكن أرجو أن يعتبر المهتم أطروحتي هذه مساهمة في تنشيط دورة  الاهتمام الفكري  بأصول ثقافتنا العربية الإسلامية من زاوية غير مطروقة، تعمق افق التأويل عامة، ومن وراء ذلك تحفيز الديانات التوحيدية المشرقية، على كشف حقيقة ارتباطها بمهادها اللغوي والمعرفي، وفطرتها الأولى.
وأعود في النهاية على بدء، إلى مسألة الاهتمام بضرورة العناية الفكرية بمفهوم الفطرة كما أوردها القرآن الكريم، فهي مدعاة للتأمل وإعادة فهم وتأويل العلاقة بين الأديان السماوية ولغاتها، وفطرة ناسها.