إعلانات

دبلوماسية "العارفين بالله".. المغرب يُحلِّق دوليا بأجنحة صوفية

جمعة, 14/01/2022 - 05:06

 

الملك محمد السادس أثناء إحياء ليلة المولد النبوي الشريف المصدر: "مؤسسة الملك محمد السادس للعلماء الأفارقة"

المهدي الزايداوي

13/1/2022

 

"في عقد الأشعري وفقه مالكِ .. وفي طريقة الجنيد السالكِ".

(متن ابن عاشر)

أمام عيادته بقلب مدينة الدار البيضاء، ترجَّل الدكتور الحسن التازي، أحد أشهر أطباء التجميل، من سيارته الفارهة، ووزَّع الابتسامات على أولئك الطامعين في مهارة أنامله من أجل تدخُّل جراحي لتجميل الوجه أو زرع الشعر أو شفط بعض الدهون الزائدة، ثم مضى إلى مكتبه الكبير. لكن السعي إلى الجمال من وجهة نظر الطبيب المرموق لا يقتصر على الجمال الشكلي الذي يبرع فيه بحكم مهنته، وإنما يتعداه إلى جمال الروح الذي وجده التازي داخل الزاوية البودشيشية، إحدى أهم الزوايا الصوفية في المغرب. (1)

 

تُعَدُّ الصوفية أهم ركائز "التديُّن المغربي" الذي يدرِّس فقه مالك، وعقيدة الأشعري ثم تصوُّف الجنيد، لكن هذا المذهب الروحي -أو العقدي ربما- البعيد عن السياسة نظريا، لم يعد يكتفي بحضور ديني فقط، بل أضحى أداة سياسية ودبلوماسية يضبط بها المغرب "أمنه الروحي" داخليا، ويستعمله سلاحا دبلوماسيا يدافع به عن مصالحه الخارجية.

 

بلد الصوفية منذ القدم

بلد التصوف منذ القدم

 

من الصعب تحديد تاريخ دقيق لبداية التصوف بالمغرب الأقصى، فقد ظهر متأخرا نسبيا عن المشرق، حيث استغرق التصوف قرنين كاملين في رحلته للوصول إلى الغرب. ويمكن القول إن المنطقة المغاربية عرفت التصوف بوصفه تصوُّرا دينيا روحيا عبر 3 مراحل أساسية، مرحلة الزُهَّاد التي ظهرت مبكرا واستمرت حتى أواخر القرن الخامس الهجري، ثم مرحلة ظهور الصوفية بوصفها تيارا بداية القرن الخامس الهجري، قبل أن تتخمَّر الفكرة الصوفية وتُفرز طوائف شتى مع بداية القرن السابع للهجرة. (2)

 

تأثر أهل المغرب بوضوح بالزهد الإسلامي على اعتبار أنه من شيم الصالحين من الفاتحين المسلمين وسلفهم من الصحابة والتابعين الذين وصل بعضهم إلى منطقة الغرب الإسلامي، إلى جانب كونه سمت الفقهاء المتقين من القرون الأولى، لكن أثر هذا التصوف اقتصر على الجانب الأخلاقي، ولم يذهب إلى التصوف الفلسفي رغم النشاط الكبير لهذا المذهب ببلاد الأندلس.

 

 

مع انتشار الزهد ظهر مفهوم آخر تشرَّبه المغاربة وهو مفهوم "الرباط"، ويُقصَد به حراسة ثغور المسلمين من الأعداء. وقد تعزَّزت هذه الوظيفة الجهادية العسكرية بوظيفة جهادية أخرى تتعلق بالنفس هذه المرة، إذ أقبل المرابطون في الثغور على مجاهدة النفس وحملها على العبادة في إطار الاستعداد للجهاد الجسدي. وعرف المغرب بعد هذا النشاط الروحي تأسيس عدد من الرباطات التي كانت أقرب في وظيفتها إلى الزوايا الصوفية، من أبرزها رباط الشاكر الذي يُطلَق عليه أيضا رباط "عقبة من بلد النفيس"، وهو يُنسب إلى "شكر بن عبد الله الأزدي" أحد أصحاب عقبة الفاتح، الذي ظلَّ في المغرب بأمر من الأخير سنة 64هـ/683م ليُعلِّم الناس الإسلام، فاجتمعت حول رباطه قبائل المصمودية التي أعلت شأنه، كما اهتم به الأدارسة كثيرا، إذ احتضن موسما سنويا لأهل الصلاح في المغرب بقي قائما حتى عهد المرينيين. (3)

 

مع مرور السنوات، تمكَّن التصوف من تثبيت أقدامه في المغرب، وظهرت له مدارس عديدة، مثل المدرسة الأخلاقية التي تبنَّت "التصوف السني" بالمعنى الحرفي، مُستلهمة سيرة أبرز رموزه "أبو القاسم الجنيد" المعروف بشيخ الطائفة، وكذا المدرسة الفلسفية التي يُعَدُّ "أبو يزيد البسطامي" أبرز رموزها.

 

في العهد المرابطي، بدأ التصوف المغربي يعرف تحوُّلات عدة، ذلك لأن الدولة المرابطية التي تبنَّت السلفية ساهمت في خفوت التصوف بمعناه التقليدي، لكن أجواء الزهد والصلاح والجهاد ظلَّت حاضرة بقوة. في البداية، حاول المتصوفة تجنُّب الاصطدام بالسلطة السياسية المرابطية، لكن القوى الصوفية انتفضت فجأة بعدما تمكَّن الوهن من المرابطين، وهو ما مهَّد للموحِّدين الانقضاض على حكم المغرب الأقصى، ومن ثمَّ تمكَّنت الصوفية من إيجاد تربة خصبة لمعاودة الظهور. (4)

 

أذكار وسماع وسياسة

رسَّخت الصوفية جذورها الاجتماعية في المغرب منذ ذلك الحين، لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد. ففي الفترة التي سبقت الاستعمار الأوروبي، عُدَّت الزوايا الصوفية وحدات سياسية تساعد السلطة المركزية على ضبط المجتمع، إذ اختلطت الزعامات القبلية بالزعامات الصوفية. وقد تمكَّنت السلطة السياسية من نسج تحالفات متفاوتة مع بعض الزوايا من أجل ضمان ولاء القبائل، وركَّزت في تحالفاتها على الزوايا التي ارتبطت بعدد من القبائل القوية.

 

 

وبعد وصول الأوروبيين إلى شمال أفريقيا، سرعان ما أدركوا الأهمية الكبيرة التي لعبتها الزوايا في النسيج المجتمعي والقبلي، وحاولوا سريعا تدشين علاقات مع هذه الزوايا، فاستجاب بعضها لرغبة المستعمر في الاستفادة منه، فيما رفضت زوايا أخرى، ولذا انقسمت الخريطة الصوفية إلى فريقين، الأول وضع يده في يد قوى الاحتلال، والثاني حارب للدفاع عن استقلال البلاد. (5)

 

بعد استقلال المغرب، قلَّ الظهور السياسي للزوايا بسبب ظهور الأحزاب السياسية التي تبنَّت النزعة الوطنية مقابل النزعة القبلية، ونظرت إلى الزوايا الصوفية باعتبارها عائقا يحد من انتشار فكرة الوطن الجامع بوصفه وحدة سياسية مقابل القبيلة. أضف إلى ذلك أن الحركة الوطنية المغربية كانت أقرب إلى المضمون الديني السلفي الذي ناقض المضمون الديني الطرقي للزوايا، وهو ما أدَّى بالتبعية إلى خفوت الحضور السياسي للمتصوفة.

 

 

الزاوية البودشيشية.. رمانة ميزان الداخل

صورة من موقع الطريقة القادرية البودشيشية تظهر الشيخ سيدي حمزة رفقة عدد من شيوخ ومريدي الزاويةصورة من موقع الطريقة القادرية البودشيشية تظهر الشيخ سيدي حمزة رفقة عدد من شيوخ ومريدي الزاوية

على بُعد 20 كيلومترا من مدينة بركان شرقي المغرب، توجد مدينة "مداغ"، ولا يمكنك زيارة هذه المنطقة دون أن يسترعي انتباهك تلك القبة الخضراء الشامخة فوق مبنى هو أقرب إلى القصر منه إلى الزاوية. تلك هي الزاوية البودشيشية التي يحج إليها الآلاف من داخل وخارج المغرب لإحياء المناسبات الدينية المهمة وأخذ البركة من مشايخها "سيدي العباس"، ثم وريثه "سيدي حمزة"، وفي الأخير الحفيد "سيدي جمال الدين" البودشيشي، الذي ورث "السر النبوي" أبا عن جد.

 

رغم مظهرها الروحي الصرف وتأكيد مريديها وشيوخها دورها الديني البحت، فإن للزاوية البودشيشية وزنا سياسيا كبيرا جعلها تحضر وبقوة في عدد من الصفحات السياسية للمغرب الحديث، خصوصا أنها تمكَّنت من استقطاب عدد كبير من الشخصيات المهمة، منهم موظفون وضباط ومثقفون وأساتذة جامعيون، ثم أخيرا وليس آخرا، "أحمد التوفيق"، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب، وصاحب مشروع تنقية الحقل الديني المغربي من أي "شوائب" خارجية للحفاظ على الهوية الدينية المغربية الصوفية الأشعرية المالكية. وقد ظهر هذا الوزن جليا في الفترة التي تلت تفجيرات الدار البيضاء عام 2003، التي دفعت صُنَّاع القرار إلى التركيز على مشروع الأمن الروحي للمغرب، إذ اعتُبر آنذاك أن مواجهة "التيار السلفي الجهادي" لن تتم بالمقاربة الأمنية فقط، بل عبر المواجهة الفكرية التي تُحصِّن المجتمع من هذه الأفكار، وهو ما تطلَّب منح مساحة أكبر للزوايا الصوفية وعلى رأسها البودشيشية.

 

 

يتبنَّى أحمد التوفيق، الذي يجلس على كرسي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب منذ عام 2002، منهجا مختلفا عن سلفه "عبد الكبير العلوي المدغري" الذي لعب دور الوسيط بين القصر الملكي وحركات الإسلام السياسي المختلفة، سواء داخل أو خارج المغرب، إذ يرى التوفيق أن الأمن الروحي للمغاربة والحفاظ على الثوابت يتأتَّى عبر إبعاد منابر المساجد عن القضايا السياسية والمناكفات الأيديولوجية، مُعتبِرا الحديث في السياسة من المحرمات التي بسببها يُوقَف الأئمة التابعون لوزارة الأوقاف. ومن ثم تُمثِّل الزاوية البودشيشية والزوايا الصوفية عموما النموذج الأمثل الذي يُجسِّد رؤية وزير الأوقاف المغربي للدور الذي يجب أن تلعبه المؤسسات الدينية. لكن رغم انعزالها السياسي، وعدم رغبتها في خوض صراعات تُخرجها عن مساحتها الروحية، فإن الزاوية البودشيشية سجَّلت الكثير من المواقف السياسية، ففي 26 يونيو/حزيران عام 2011 احتضنت شوارع مدينة الدار البيضاء، وبالتحديد منطقة درب السلطان العريقة، مسيرة لمريدي الزاوية البودشيشية لتأييد الدستور الجديد الذي خضع لاستفتاء بعد مرور 4 أشهر على حراك 20 فبراير/شباط إبان حقبة الربيع العربي. (6)

 

كان حضور الطريقة البودشيشية مُثيرا للاهتمام، ذلك لأنه جاء ليقف على النقيض من حركة صوفية أخرى، مُعارِضة هذه المرة، هي جماعة العدل والإحسان التي تُعَدُّ أبرز حركة معارضة في المغرب، وشاركت في مظاهرات 20 فبراير/شباط. وقد تزعَّم الجماعة مرشدها السابق "عبد السلام ياسين" (توفي سنة 2012)، وهو الصوفي المعارض الذي كان في يوم من الأيام مريدا من مريدي الزاوية البودشيشية، لكنه تركها احتجاجا على عملية توريث حمزة البودشيشي قيادة الزاوية، إذ رأى ياسين في نفسه الأهلية الكاملة للقيادة قبل أن تتفرَّق السبل، فأسَّس جماعته التي خلطت التصوف بالكثير من السياسة. (7)

 

 

يستفيد المغرب أيضا من الزاوية البودشيشية على مستوى التسويق لنفسه بوصفه وجهة دينية، إذ لا يقتصر حضور المناسبات الدينية للزاوية على عوام الناس، بل فتح البودشيشيون أبوابهم أمام شخصيات معروفة مثل مغني الراب الفرنسي "عبد المالك"، والباحثة الفرنسية "إيفا دي فيتراي مييروفيتش"، وسياسيين مثل "باريزة خياري"، السياسية في حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. (8)

 

الزاوية التيجانية أو الدبلوماسية الصوفية

 

"إنه لمن دواعي ابتهاجنا أن ينعقد هذا الاجتماع المبارك المهم على أرض المملكة المغربية، الذي يضم صفوة من أتباع الطريقة التجانية والمنتمين إليها، لتدارس شؤونها والقضايا المتعلقة بزواياها".

(مقتطف من رسالة الملك محمد السادس للمشاركين في الاجتماع العام للطريقة التيجانية سنة 2007)

لا يقف اعتماد المغرب على الزوايا الصوفية عند حد ضبط الإيقاع الديني الداخلي، بل يتعداه إلى الخارج، إذ تُعتبر "الدبلوماسية الدينية" من أهم الأسلحة الناعمة التي تعتمد عليها المملكة لتوطيد علاقاتها مع عدد من الدول الأفريقية التي تدين شعوبها بالإسلام. وقد زادت أهمية هذا "السلاح الديني الناعم" بعد انسحاب المغرب سنة 1983 من الاتحاد الأفريقي احتجاجا على منح الأخير جبهة البوليساريو مقعدا داخله، ومن ثم شكَّلت الدبلوماسية الدينية فرصة موازية ساعدت الرباط على توطيد علاقاتها مع عدد من الدول الأفريقية رغم انسحابها من الاتحاد القاري. وفي إطار هذه الإستراتيجية، اعتمد المغرب على زاوية صوفية أخرى هي الزاوية التيجانية ومقرها مدينة فاس.

 

 

يعود اهتمام الدولة المغربية بالزاوية التيجانية إلى القرن 19، إذ انتشرت الطريقة بسرعة بين المغرب والسنغال بفضل تحرُّكات الشيوخ والمريدين بين البلدين، وفي سنة 1963، شارك الملك الراحل الحسن الثاني في تدشين مسجد داكار الكبير، الذي يُعتبر رمزا من رموز الطريقة التيجانية في القارة السمراء. (9) ومع بداية الثمانينيات، حاولت الجزائر منافسة المغرب سياسيا ودبلوماسيا عبر استقطاب الزاوية التيجانية بتنظيم الملتقى الدولي الأول للتيجانيين، مستندة إلى مولد مؤسس الطريقة الشيخ أحمد التيجاني بالجزائر قبل أن يسافر إلى المغرب حيث استقر وتوفي، بيد أن الملك الراحل الحسن الثاني تحرَّك سريعا مرسلا وزيره للأوقاف والشؤون الإسلامية "عبد الكبير العلوي المدغري" في جولة دامت شهرا كاملا لإقناع شيوخ الطريقة بمقاطعة الملتقى، ثم استضاف المغرب سنة 1986 أول ملتقى للتيجانيين الذين اعترف زعماؤهم بمغربية الصحراء، وأدانوا موقف الجزائر من القضية. (10)

 

تاريخيا، حافظ مرقد شيخ الطريقة التيجانية بفاس على أهميته، إذ يُعتبر مزارا سنويا للعديد من التيجانيين القادمين من عدة دول وعلى رأسها السنغال، ويأتي الآلاف للتبرُّك بذلك المقام الذي يتبع ملايين البشر طريقة صاحبه، هذا ويزور عدد كبير من الأفارقة مدينة فاس كواجب ديني قبل الانتقال إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج.

مرقد شيخ الطريقة التيجانية بفاسمرقد شيخ الطريقة التيجانية بفاس

 

تواصل اهتمام القصر الملكي بالطريقة التيجانية، إذ حرص الملك محمد السادس على مواصلة تنظيم الملتقيات واحتضان شيوخ الطريقة من غير المغاربة، حيث يَعتبر عدد من التيجانيين ملك المغرب شريفا من آل البيت وأميرا للمؤمنين. ومن جهتهم واصل التيجانيون، خصوصا الطائفة السنغالية منهم، التعبير عن ولائهم الكبير للملك المغربي، فشاركوا في استقبال الملك الراحل محمد الخامس بعد عودته من منفاه في مدغشقر، كما حرصوا على استقبال الملك محمد السادس عندما قام بأول جولة أفريقية له. (11)

 

لا يقف دعم التيجانيين للقصر الملكي عند هذا الحد، بل تستفيد الرباط كثيرا من المناصب المهمة التي يحظون بها في المجال الديني للمسلمين في بلدانهم، فحينما اعترف "بابانغيدا"، الرئيس النيجيري الأسبق، بجبهة البوليساريو، استدعى الملك الحسن الثاني سفيره في البلاد فورا، لكن التصعيد لم يحدث بعد أن تدخَّل عدد من المبعوثين التيجانيين حتى لا تنقطع حبال الود بين المغرب ونيجيريا. وتكرَّر الأمر نفسه مع الرئيس النيجيري "أوباسنجو" الذي سمح بفتح مكتب للبوليساريو، لكن الزاوية سرعان ما تحرَّكت من أجل إعادة الأوضاع إلى نصابها لتجنُّب "الفتنة" بين المغرب ونيجيريا مرة أخرى. (12)

 

نحو إستراتيجية هجومية

في عام 2004، أعلن المغرب عبر ظهير شريف (مرسوم ملكي) أصدره الملك تأسيس معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، وأتت هذه الخطوة في إطار إستراتيجية المغرب لتأطير المجال الديني، واستهدفت عددا من المرشدين والمرشدات الأجانب الذين تمتد مدة تكوينهم بهذا المعهد ما بين 6 أشهر و3 سنوات، فاحتضن المعهد عددا من الطلبة من الخارج وعلى رأسهم الطلبة الأفارقة من السنغال ومالي وغينيا وكوت ديفوار ونيجيريا والغابون والتشاد، بالإضافة إلى دول أخرى. (13)

 

 

يدخل هذا المعهد في إطار إستراتيجية المغرب الدينية التي عرفت تحوُّلا نوعيا في الحقبة الأخيرة. فبعد أن كانت الرباط تعتمد في الأمس القريب على الزوايا حصرا بوصفها قناة لنقل النفوذ الروحي إلى باقي دول القارة، فإنها نقلت فلسفتها من الدفاع إلى الهجوم، لتشرع في تكوين الأئمة الذين سيعملون داخل القارة السمراء وفق الثوابت الدينية المغربية.

 

 

غيَّر المغرب من إستراتيجيته إذن، ساعيا لبناء شراكات متميزة على المدى الطويل عبر مسارين اثنين: أولا، النشاط الدبلوماسي لمؤسسة "إمارة المؤمنين" التي يتزعَّمها العاهل المغربي على الساحة الأفريقية، إذ أقدم الملك محمد السادس على نحو 50 زيارة لدول أفريقية حتى منتصف سنة 2017، وحرص على تضمين هذه الزيارات بعض الأنشطة الدينية. وفي الفترة الفاصلة بين عامَيْ 2014-2016، شملت الأنشطة الرسمية 70 صلاة جمعة، 13 منها نُظِّمت بدول أفريقية كالسنغال ومالي والغابون ونيجيريا، بجانب حرص القصر الملكي بالرباط على المساعدة في تدبير الشؤون الداخلية لعدد من الدول، عبر لقاء نحو 14 زعيما دينيا وشيخ طريقة صوفية. أما المسار الثاني فهو مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف، التي تُوزِّع آلاف النسخ من القرآن الكريم سنويا في أفريقيا.

مؤسسة إمارة المؤمنينمؤسسة "إمارة المؤمنين" التي يتزعَّمها العاهل المغربي على الساحة الأفريقية المصدر

آتت هذه الجهود أُكلها على ما يبدو، حيث قفز عدد الاتفاقيات الدينية بين المغرب والدول الأفريقية من 5 اتفاقيات بين عامَيْ 1975-1999 إلى 10 بين عامَيْ 2000-2011، ثم تضاعف العدد إلى 36 اتفاقية بين عامَيْ 2012-2016. وكما يظهر من هذا الزخم المتزايد للدبلوماسية الدينية، فإن أهدافها تتجاوز مجرد مد جسور التواصل مع الفاعلين الإسلاميين في البلدان الأفريقية القريبة من المغرب إلى تحقيق أهداف سياسية وأمنية أكثر عُمقا.

 

يهدف المغرب من خلال هذه الإستراتيجية الدينية إلى السهر على حماية أمنه القومي، ذلك لأن المغرب يَعتبر أن المقاربة الروحية تأتي لتكمل العمل العسكري من أجل إحلال الاستقرار في منطقة الساحل. ولعل فشل فرنسا العسكري في مالي، وتَمكُّن عدد من الجماعات الجهادية من تحقيق مكاسب كبيرة في المنطقة رغم التدخلات العسكرية المختلفة، يصب في صالح رؤية المغرب، وهو ما عبَّر عنه الملك محمد السادس في خطابه في سبتمبر/أيلول 2013 بمناسبة تنصيب الرئيس المالي "إبراهيم بوبكر كيتا" حين قال: "إن أي مبادرة دولية يتم التنسيق بشأنها دون إيلاء البُعد الثقافي والعقائدي الأهمية التي يستحقها سيكون مصيرها الفشل". (15)

 

أما ثاني أهداف الإستراتيجية المغربية فهو بدون شك محاولة تجاوز مأزق شلل التعاون بين دول المغرب العربي، خصوصا المغرب والجزائر، البلدين الشقيقين اللذين شلَّت التوترات القائمة بينهما جميع نِيَّات إعادة إحياء مشروع "المغربي العربي"، وهو ما يدفع الرباط إلى البحث عن شركاء آخرين أكثر إفادة من المشروع المغاربي.

 

الجدير بالذكر أن هذه "الدبلوماسية الدينية المغربية" تتقاطع مع رؤية عدد من الدول الغربية الحليفة التي تتابع الوضع في أفريقيا، مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا اللتين تريان في الحركات الصوفية أداة جيدة لمحاربة الفكر "المتطرف"، إذ يبدو أن هنالك دعوة لباقي الدول لتحذو حذو الرباط في هذا الملف، وهو ما يُفسِّر دعوة لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن الدولي بنيويورك للمغرب في 30 سبتمبر/أيلول 2014 من أجل عرض تجربته أمام باقي الدول. حصلت الرباط بذلك إذن على شهادة ثقة عالمية في نجاح "دبلوماسيتها الصوفية"، لذا فإنها تواصل التحليق في محيطها الأفريقي، بسياسة يقودها الدبلوماسيون من ذوي الياقات الرسمية، ويدعمها في الخلف العارفون الصوفيون بجلابيبهم وأذكارهم وزواياهم.

 

———————————————————————-

المصادر

  1. حياتهم: الزاوية البودشيشية – الجزء الأول (حلقة كاملة)
  2. من الزهد إلى التصوف في المغرب
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5. الزوايا في المغرب.. من مصدر مشروعية في الداخل إلى أداة للصراع الإقليمي
  6. أحمد التوفيق يتحدث لهسبريس عن دور الزوايا والتصوف في المغرب
  7. Maroc : les soufis de Sa Majesté
  8. La confrérie Boutchichiya, un allié essentiel du pouvoir marocain
  9. الزوايا في المغرب.. من مصدر مشروعية في الداخل إلى أداة للصراع الإقليمي
  10. الطريقة التيجانية بين المغرب والجزائر.. صراع السياسة والدين
  11. الزوايا في المغرب.. من مصدر مشروعية في الداخل إلى أداة للصراع الإقليمي
  12. الطريقة التيجانية بين المغرب والجزائر.. صراع السياسة والدين
  13. معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات: ورقة تعريفية
  14. سليم حميمنات. تصدير "الأمن الروحي" كآلية إستراتيجية للتمدد المغربي في أفريقيا. المعهد المغربي لتحليل الدراسات.
  15. المصدر السابق.

المصدر : الجزيرة