إعلانات

وترجل فارس المجد والعطاء !

اثنين, 13/12/2021 - 00:01

 

بقلم: الشيخ محمد المختار ولد أحمد فال

 

لا شك أن موت القادة من اعظم  المصائب ولقد أدرك عمر-رضي الله عنه -أهمية وجود القادة في الأمة  وفي صدارة المشهد ! فحين كان المسلمون يخوضون المعارك ضد الفرس كانت معركة "نهاوند " من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمة وقد حقق المسلمون في هذه المعركة نصرا عظيما بقيادة القائد النعمان بن مقرن -رضي الله عنه -حتى سمي هذا النصر "بفتح الفتوح " وكان عمر- -رضي الله عنه -  يذهب خارج المدينة يريد الأخبار ويسائل الركبان لعله يجد خبرا عن هذه المعركة الحاسمة فلما جاءه البشير بالنصر العظيم  سأله عمر عن النعمان بن مقرن فقال البشير :  "استشهد" ،فبكى عمر  ونشج! وقال:" إنا لله وإنا إليه راجعون "

وقد حزِن عمر على هذا القائد  العظيم حتى نسي فرحة النصر الكبير !

ولأبي سفيان - رضي الله عنه -كلمة في غاية الوعي السياسي والإداري تبين أهمية وجود القادة في الطليعة

يقول أبو سفيان::"إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم "

تذكرت هذه المواقف وأنا تحت تأثير الصدمة من الخبر الفاجع بوفاة القائد العظيم والوالد الكبير والعم الفاضل شيخنا بن سيدي -رحمه الله تعالى-

لقد كان آخر لقاء ضمني مع الفقيد ليلة الخميس الموافق 2021/11/24   حيث زرته في بيته العامر لأودعه و وأتحدث معه حول بعض المصالح العامة  والخاصة

وما إن وصلت باحة المنزل وسلمت  حتى جلس ،- وكان متكئا-  واستقبلنى بحفاوة كبيرة وتجاذبنا أطراف الحديث حول مصالح المجتمع وسياسة البلد وبعض الأمور   الخاصة ! وكان الحديث ماتعا واللقاء مباركأ -كعادة شيخنا المبجل-

ثم ودعته وسافرت صبيحة الغد  (الخميس) وما إن كانت ليلة الإثنين الموافق 2021/11/28  حتى جاء الخبر  المَهُول  والنبأ العظيم الذي هد أركان المحبين وقض، مضاجع الكثير من المسلمين حيث فقدت مدينة البحير قائدها العظيم  وبدرها المنير  ورجلها المبارك وفارسها المعطاء ..

ماكنت أحسب قبل دفنك في الثرى/

أن الكواكب  في    التراب    تغور/

لقد أصيبت الأمة الإسلامية برحيل هذا القائد العظيم والرمز الكبير

وكأن لسان الحال

الأرض بعد الشيخ ثَكلى يالها/

قد زلزلت  من فقده  زلزالها /

أنى لها  تجد  السُّلوَّ وراءه/

عزَّ السلوُّ    وراءه   أنى  لها/

رُزءٌ أصاب العالمين  جميعَها/

أطفالها  ونساءها  ورجالها  /

 

لقد كان شيخنا -رحمه  الله -رجل دولة ورمزَ أمة وقائد جيل ومرحلة  فهو من القادة العظماء الذين  خصهم الله  بمواهب شتى :

1-ففي المجال السياسي  كان شيخنا  يمتاز بالحكمة  والحصافة وبعد  اِلنظر وأصالة الرأي  وحسن التقدير للواقع والموقف والمشهد  فهو يرى أن السياسة هي خدمة الناس والسعي في مصالحالهم  ودَرءِ  المفااسد عنهم وحماية حقوقهم ومكتسباتهم  والاستجابة لتطلعاتهم وآمالهم

ولا شك أن السياسة- بهذا المفهوم - جزء من الإسلام وأصل من أصوله  وهذا ماقصده الشيخ بداه- رحمه الله- بقوله :"  لا دين بدون سياسة ولا سياسة بدون دين "

ولقد كان شيخنا -رحمة الله -يعيش  واقع العصر ويمتاز بالوعي السياسي الكبير مما جعله يرى أهمية الحضور والمشاركة  في الحياة السياسية العامة حفاظا على مصالح المجتمع  وهيبته ووجوده وهويته لذا ظل يمد جسور التواصل مع الدولة وحكوماتها المتعاقبة كل ذلك كان   من أجل خدمة  مجتمعه ورعاية مصالحه ..

وكم من  مشروع كان يتابعه ويَبذل فيه ماله ووقته وعلاقته !

ولعل من أهم المشاريع التى  تلامس حياة الناس اليومية مشروع الماء فلا يكاد يذكر هذا المشروع إلا وذكر معه اسم" شيخنا "حيث  كان يتابعه  باهتمام كبير وينفق عليه بسخاء عظيم 

وكلما تعطل هذا المشروع اتجهت الأنظار إلى شيخنا  وهو أهل لهذه الثقة وجدير بها  ولا شك أن المجتمع  قد أعطى  القوس باريها :

ياباريَّ القوس بريا ليس يحسنه/

لا تظلِم القوس أعط القوس باريها/

وكان شيخنا يبادر ويتصل ويتابع الأمور حتى يعود الماء  إلى المنازل  وربما  ذهب إلى الخزان بنفسه وظل  عنده يكرم العمال حتى يتم إصلاح الخلل  -هذا ما رأيته بنفسى -!

وكم من مشاريع كان يتابعها كمشروع الماء والتعليم  والطريق والكهرباء ....

 

2-في المجال الإداري كان شيخنا رجلَ إدارة يحسن إدارة الأزمات  وينهيها بسهولة شعاره الحكمة والأَناةُ وزادُه الصبر والثبات

وكلما حلت بالمجتمع نازلة أوألمت به مُعضلة اتجهت الأنظار إلى شيخنا  وربما تسمع  هنا او هناك :

ماهو رأي  شيخنا ؟

وما هو موقف شيخنا؟

وماذا قال شيخنا ؟

 وكأنه المعني بقول الفرزدق :

 ترى الغر الجحاجحَ من قريش/

 إذا ما الأمر  في الحدثان عالا  /

قياما  ينظرون     إلى    سعيد/

كأنهمُ    يرون    به      هلالا//

 وماهذه الأسئلة - السابقة -  إلا لمكانة شيخنا  في قلوب  الناس   فهو يمتاز بأخذ زِمام المبادرة في الأمور والمصالح   والاستعداد  للتضحية في  المواقف :

  سيذكرني  قومى إذا جد جدهم /

وفي الليلة الظلماء  يفتقد   البدر /

وكأننا  نردد مع عمر في علي - رضي

 الله عنهم -:"قضية  ولا أبا حسنٍ لها "

 

3- في مجال الكرم والعطاء كان شيخنا -رحمه الله لا يبارى - في هذا المجال -  فهو حاتم  زمانه وعرابة عصره وكأنه المقصود بقول الشمّاخ

رأيت عرابة الاوسيِّ يسمو/

إلى الخيرات منقطع القرين/

إذا ما راية  رفعت   لمجد/

تلقاها   عرابةُ      باليمين /

لذا  كان شيخنا  من أجواد العرب وكرماء الأمة فهو كريم بالفطرة والسجية :

تراه  إذا ما  جئته   متهللا /

كأنك تعطيه الذي أنت سائله /

 هو البحر من أي النواحي أتيته /

فلجَّتُه المعروف والجود  ساحله/

 وكم من الفقراء والأرامل واليتامى  والمساكين كان شيخنا  يتعهدهم بالعطاء وينفق عليهم   بسخاء....

 ومن كرمه --الجميل -أنه كان يُنوع في عطائه يمنح المنيحة ويرسل اللبن ويطعم الطعام ويبعث الفضة ويشتري المؤن والحاجات ،جامعا - في  كل هذه العطايا-  بين صدقة السر والجهر  وهي سجية  من سجايا هذا البيت المبارك تناقلها الرواة عنه  وعن أخيه الأكبر الشيخ أحمد  -رحم  الله الجميع-

 ولازلت أذكر بعض الأسر التى تعرض  مسكنها لحريق   حيث  بادر شيخنا وتحمل كل التكاليف - قبل أن يأتي أحد-  جعل  الله ذلك في ميزان  حسنانه وصحايف أعماله!!

ومن تأمل كرمَ  شيخنا وعطاءه عرف أنه صاحب مشروع خيري عظيم فهو يعطي بمنهجية ونظام  ويراعي الشمولية في العطاء ومن اقترب منه عرف عظمة إنفاقه  وسَعة عطائه!

 

- في مجال الدبلوماسية والعلاقات: كان شيخنا سفيرا من سفراء المجتمع الدبلماسيين  ورمزا من رموزه الاجتماعيين حيث كان يملك علاقة  واسعة بدءا بعلاقته بالمجتمع و كل مكوناته مرورا بعلاقته بالآفاقيين- الذين يسكنون أطراف المدينة - وانتهاء  بعلاقته بالقبايل والفصائل  والدولة  والقادة والرموز  كل ذلك كان  من أجل خدمة مجتمعه وأمته !

ومن دبلماسبته  -رحمه الله - أنه كان يحسن الاستماع  ويجيد فن الحوار، فهو يستمع  بإنصات وتوقير ويحاور بحكمة وهدوء  وقد كنت -وأنا الابن الصغير -أحاوره حول بعض مصالح المجتمع ونوازله التى تمر به  ومن الطبيعي أن تختلف الآراء في هذه المقامات، لكن شيخنا - الكريم - كان يتسع صدره لكل ذلك فهو يستمع إلينا بسكينة ووقار  ويحاورنا بكل أدب واحترام  لايصادر  الأراء ولا يقاطع المتحدثين  وأحيانا يتنازل عن رأيه أسوةً برسول الله صلى الله عليه وسلم  في بدر وأحد  وغيرهم .

هذا ماكنت شاهدا عليه في عدة مجالس !

لذا كان شيخنا  -رحمه الله -مدرسة في  الأخلاق  والحوار والحكمة والرزانة  !

ولعل من كمال القيادة  وتمام السيادة أن يحسن القائد فن الحوار ، ومن لا يملك  القدرة على الحوار لا يمكن أن ينجح في التقريب  والعلاقات  والمواقف  لذلك لما بعثت قريش بعض قادتها للحوار مع النبي  صلى   الله عليه وسلم - في صلح الحديبية - كانوا يفشلون في أول نقاش فلما أرسلت قريش سهيل بن عمرو  قال النبي صلى الله عليه وسلم  :"سهل أمرهم "  لأن سهيلا كان من القادة الحكماء الذين يحسنون فن الحوار وإدارةَ الأزمات  فهو الذي يناسب الموقف والمقام  فهم في أزمة  وللأزمات رجالها  كما أن لللحوار أهله وقادته  الذين يحسنونه وقد كان شيخنا من هؤلاء القادة  الذين يحسنون فن  الحوار وإدارة الأزمات فهو رجل اجتماعي بطبعه وكرمه وأخلاقه !

ومن شاهد  وفود التعزية التى تداعت إلى البحير -من كل  الجهات - عرف عظمة شيخنا وعمق علاقته حيث جاءت موريتانيا بكل ألوانها  ومكوناتها وأطيافها وقادتها ورموزها  ، وقد تحدثت تلك الوفود عن فضائل شيخنا ومآثره  وربما بكى بعضهم  وأبكى

كل كنى  عن شوقه بلغاته/

ولربما أبكى الفصيح الأعجم/

وإذا كان شيخنا -رحمه الله - خبيرا بفنون الدبلوماسية والعلاقات فإنه كان شجاعا  في مواقفه لا يجامل في رأيه ولا يداهن في قناعته ولقد رأيته يصدع بكلمة الحق في  عدة مواقف لا يخاف في الله  لومة لائم  ! 

 

5- في مجال التاريخ والأدب والنسب : كان شيخنا  من أهل هذه الفنون  حيث يحفظ  الكثير  من تاريخ موريتانيا وأيامها وقصصها  ومواقفها  كما يعرف  قبائلها  وما يجمع بينها من الروابط والأواصر  والمشتركات  حيث يحدثك عن كل ذلك ثم يرتقي بك في فضاء الأدب ومواقف الكرماء وقصص الأمراء..

لذا كان مجلس شيخنا  مجلسَ أدب وتاريخ يستفيد منه السامع الكثير من المعارف والتجارب  والحكم والفوائد

 

6- في مجال العبادة- الخاصة - : كان شيخنا من المحافظين على الصلوات   ومن أهل الصيام والقيام  وتلاوة القرآن فهو من الذين يعيشون مع القرآن الكريم ويتلونه  آناء الليل وأطراف النهار  وهو-كذلك - من رواد المساجد وعمارها حتى بعد الكبر ظل شيخنا يركب السيارة ويحضر الجمعة   ويجلس في وسط الصف الأمامي بسكينة ووقار  وتواضع  وإنصات  وحين يتخلف -لظروف صحية- ترى الناس يسألون عنه ويعودونه في بيته العامر  محبة ووفاء وتقديرا واحتراما -.

..

  وفي الختام  هذه سطور ومواقف  ومعالم كتبتها لعلها تبين بعض الجوانب من  شخصية شيخنا  - الكريم -  وربما تأخرت  قليلا لهول المصاب وتزامنه مع بعض الأسفار ...

ومهما كتبت وتحدثت  فلن أعبر عن  مكانة شيخنا في قلبي  فقد كان نعم الوالد والاخ الكبير  والعم  الرءوف  والخال الرحيم   والسند المعين  والناصح الأمين  وله معي مواقف لاتنسي: 

بين الجوانح في الأعماق سكناها/

فكيف تنسى ومن في الناس ينساها/

فجزاه الله عنا  وعن  الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

لقد ترك شيخنا فراغا كبيرا في القلوب  والمنازل والمساجد   وفي ساحات   الإصلاح وميادين العطاء ..

  سائلين الله تعالى أن  يتقبله في الصالحالين ويرفع درجته في المهديين وأن يصب على قبره شآبيب رضوانه وسحائب عفوه  و أن يبارك في  الأسرة وفي الأبناء  الكرام فلقد صبروا واحتسبوا ورفعوا الراية في يوم  عصيب فجزاهم الله خيرا وعظم أجرهم وأحسن عزاءهم، وجزى الله المجتمع   والوفود خيرا    فلقد أحسنوا  التعزية  والمواساة  تقبل الله منهم  خُطاهم ورفع مقامهم

ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا لفراقك يا شيخنا لمحزونون 

وإنا  لله وإنا إليه راجعون